فن التفكير وإشكالية العملية الإبداعية

 فن التفكير وإشكالية العملية الإبداعية
        

هل ينطوي مصطلح (فن التفكير) على مفارقة مفهومية تنتجها الثنائية التي تبدو للوهلة الأولى متضادة بين (فن) و(التفكير)?

          لا شك في أن هذا السؤال ضروري جدا في مثل هذا المقام, بالرغم من إشكاليته وتعدد مستويات النظر فيه, ولذا فهو يسمح باعتماد المصطلح حسب اعتقاد جدلي يقرّر إمكان استيلاد التوافق من عمق التضاد, والنظر في الفضاء المفهومي, وهو يمتد ويتكاثر ويتمظهر حضوره أكثر, كلما تمكّن العقل الفعّال من اختراق حجاب المصطلح, وتموين ميكانزماته بقوى جديدة وحيّة, تجعله منفتحا على نحو أنموذجي لمزيد من الحراك المعرفي الذي يتمثّل الأفكار والرؤى والحدوس, ويطوّر إمكاناتها في سبيل قدرة أندر على الإنتاج.

          فن التفكير هو صورة التفكير الخلاّق, ولا يتحصّل هذا النوع من التفكير إلا في ظل حضانة معرفية لجملة من الشروط الواجبة بتناميها التركيبي القائم على الالتحام والاستمرار والتجانس, إذ إن النظر المعمّق في صلب الأشياء وجواهرها من شأنه أن يحتوي الإشكالية ويثري جدلها ويقودها إلى مساحات عمل جديدة, تتمكن فيها من كشف معالم الأشياء وحدود الصور, وتحقق طمأنينة ـ معرفية وأخلاقية ـ إلى مثول اليقين في مشهد التفكير, وإشغاله لمساحة مركزية وأساسية في حركة النظر والفحص والمعاينة بما يساعد على تكثيفها ومضاعفة خصوبتها, للوصول إلى حالة التركيز النوعي الأقصى المرشح ليكون المادة الأساس لإنتاج التفكير الخلاّق.

          إن التفكير في عتبة اشتغاله الأولى ضرورة إنسانيّة وحيوية ملحّة, تحثّ على التعرّف والكشف والإنتاج, ويتحول إلى (فن) بالتجربة والخبرة والاتصال والتواصل وتمرين الحدس عبر الثقة الكبيرة بقوّته, والإيمان بضرورته وجدوى تصدّره لقائمة الأنشطة البشريّة في أبرز منطلقاتها الحضاريّة, وهو ينجح في التحوّل إلى (فن) حين يتمكن من تكريس تقاليد ذات قوّة حضوريّة بالغة مشرعة ومفتوحة على الإضافات, وفي اللحظة النوعية التي يكتسب فيها شرعيته الفنية تنشط آلياته وعدّته المفهومية في فتح ميادين الإنتاج والإبداع.

العمل الخلاق

          فن التفكير ـ على وفق هذه المعطيات واستنادا إلى مقتضياتها المفهومية المخصّبة للمصطلح ـ يجب أن يخضع باستمرار لحراك تطوّري, ولا يمكث في منطقة معينة ومحددة بعيدة عن مساحات العمل الخلاّق, لأنه سيرتدّ بمرور الزمن إلى نقطة صفر التفكير, فيكفّ بذلك عن كونه فنا ويعود إلى تجريديته المطلقة.

          يتمخض فن التفكير في حقول عمله الإجرائية عن تركيز نوعي أقصى تتأقلم فيه أفعال الجسد وأفعال الروح على مناخات خاصة في طبيعة العالم, تكتسب وجودها النوعي عبر إمعان الأفعال في الاشتغال عليها وتصويرها في شاشة النظر العميق, لاستظهارها مكبّرة بإمكانية وضوح عالية وصالحة للعمل.

          ولا شك في أن وصول أفعال الجسد وأفعال الروح بتمظهراتها المتنوعة إلى حالة أنموذجية من التناغم الفكري والعقلي والصوري والإيقاعي على نحو رشيق ورحب, من شأنه تحقيق اللذة القصوى والسعادة المنشودة. ولا شك أيضا في أن مثل هذا التحقق الخلاّق بحاجة إلى اغتنام كلّي لجدواه, لأنه فرصة لا تتكرر بوصفه موجة تندفع في قارّة المخيّلة وتنسحب, فتطأ أرضا وتغفل أخرى, ولا يمكن لموجة تالية أن تحقق ما حققته سابقتها بالقدر ذاته والقوة ذاتها والإيقاع ذاته.

          يحتاج فن التفكير إذن إلى عناء روحي يكيّفه طول التأمل والنظر والمكابدة, وهو ينتج تقاليد وطقوسا تعبر القياسات الفكرية والعقلية والحدسية التقليدية في تحديد نظم الأشياء وضبط مساقاتها التاريخية.

          الحاجة أمّ التفكير, والإنسان بطبيعته يفكر من خلال آليّات الحاجة ـ بمعناها العميق والشامل والضروري - وبما أن الفنان يفتح العالم باستخدام عدّته الفنية ذات القدرة الشفريّة الهائلة على كسر الحواجز وتهشيم الأقنعة واختراق الحجب, فإن أدواته الفنية هي الموجّه الفكري الأوّل له, وبما أن هذه الأدوات أيضا لم تعد قادرة ـ في ظل هذا التداخل الأجناسي الفادح ـ على المحافظة على استقلالها النوعي, بحيث تداخلت الخطوط والألوان مع الصور والإيقاعات, مع الحبكة والحوار, مع المشهد واللقطة, عند الرسام والشاعر والمسرحي والروائي والسينمائي معا, فكان عليهم جميعا أن يوسّعوا من تفكيرهم الأداتي بما يناسب فقدان البراءة الأولى لكلّ أداة, وتزاوجها مع جاراتها, بالقدر الذي يحفظ معالم الجنس الفني ويطوّرها إلى حد الإفادة الكبيرة من إمكانات ما يجاورها على الأصعدة المتاحة كافة. إن الأداة هي الشفرة السريّة ذات الخصوصية النوعية العالية التي تفتح عمل الفنان على أسلوبية تنظيمية وتنسيقية تنطوي على منهج وسيرة عمل, تؤسس لما يمكن أن نصطلح عليه بـ (التجربة الفنية), وهي تمضي في سبيل مغاير, يغادر العرف المنطقي والفلسفي في معاينة الأشياء, بحيث يتّحد الفكر بالعاطفة في حاضنة الوجدان وترتقي المهارة إلى درجة قابلة لإنتاج المختلف والمغاير الإبداعي.

          والأداة هي الإطار الفني الذي لا يسمح بشيء خارجه ـ فهما وإدراكا وتمثّلا واحتواء ـ إذ يخضعه لتقاليده وطقوسه ويمعن في إعادة تشكيله وتأثيث مكوناته, حتى الوصول إلى حال ذات بريق خاص, تختلف به عن أيّ شيء آخر وأية حالة سابقة, فتكون عند ذلك هي الحال الإبداعية المطلوبة.

العملية الابداعية

          ومثلما تتطلّب العملية الإبداعية قدرا عاليا من الحرية والتلقائية فإنها تتطلّب في الوقت ذاته قدرا مكافئا من الانضباط والمنهجيّة والحرص والتخطيط, وكل ما يؤهلها لإنتاج فضاء فانتازي معزز بقدرة فائقة على الابتكار والتحليق بفنية التفكير خارج قوس السائد والمتداول, وهذا إنما يتأتى بفضل الموهبة الفريدة والخارقة للمألوف, التي يتمتع بها الفنان وهو يتوغل في المناطق المعتمة للذات, ليستخرج منها شكلا جميلا, يتمتّع بقوّة تماسك عالية لا يسع غيره إنتاجها, لا سيما أن اللاوعي في هذه المعادلة يؤدي دورا بالغ الأهمية في فتح قدرة الفنان على مستويات نادرة من الجرأة والمرونة, في مقاربة الأسطوري والتاريخي والديني والطقسي والمدفون في طبقات عميقة من الذاكرة لينهل منها كنوز عمله الإبداعي, بعد أن يعرضها على شاشة التفكير المعدّة خصيصا للاستقبال, ويترك لآليّاته الفنية العمل عليها لإعادة إنتاجها على النحو الذي يصلح لشكل أجناسي معين من أشكال الإبداع.

وهَبْني قلتُ: هذا الصبحُ ليلٌ أيعمى العالمونَ عن الضياءِ?


(المتنبي)

 

محمد صابر عبيد