نقد المركزية الثقافية الغربية كمال عبداللطيف
نقد المركزية الثقافية الغربية
كانت الهيمنة الغربية على العالم مركبة، استخدمت فيها أسلحة متعددة في مجالات الاقتصاد والسياسة والحرب والمعرفة، وذلك بهدف ما نطلق عليه التغريب القسري، وتحول الغرب تدريجيا إلى مركز وتحولت باقي دول العالم إلى أطراف خاضعة وتابعة. فهل يمكن مواجهة هذه الثقافة الكونية؟ إذا كانت أوربا قد استطاعت في زمن انتصارها العسكري والسياسي والاقتصادي على الدول غير الأوربية، أن تفرض نماذجها التاريخية في السياسة والاقتصاد والتقنية، فإنها كانت مطالبة في الوقت نفسه بصياغة رؤية ايديولوجية مطابقة لطموحاتها التوسعية، وإرادتها في الهيمنة والاستغلال، من أجل ضمان استمرار سيطرتها وسطوتها. ضمن هذا السياق تبلور مشروع المركزية الثقافية! الغربية كبعد مؤطر لتوجهاتها الاستعمارية المتناقضة مع روح المذاهب والتيارات الفلسفية التي تبلورت ضمن مشروع تطورها كقوة صاعدة في التاريخ. إن المنزع الإمبريالي الذي وجه إرادة القوة الأوربية في إطار تطور المجتمع الصناعي، وتطور حاجياته وآليات عمله، ساهم في صياغة الأوجه المتعددة والمتناقضة لأوربا. ولم يعد بإمكان المهتمين بتاريخ الفكر والسياسة والأخلاق في أوربا أن يجدوا أي صعوبة في تبين التركيب المتناقض للمشروع الثقافي الغربي. صحيح أن أوربا صنعت لنفسها من الأقنعة ما مكنها من ممارسة الأدوار المتناقضة، إلا أن مكر التاريخ كشف بكثير من القسوة عن مختلف أشكال العنف الظاهرة والخفية التي مارست بها أوربا أصناف طغيانها في كل القارات ووسط كل شعوب المعمورة. بلغ الزهو بأوربا المنتصرة على العالم أقصى درجاته، فأعلنت دون حرج أن فكرها هو الفكر، وطفق منظروها يعيدون كتابة تاريخ الإنسانية انطلاقاً من طموحاتهم المتمثلة في مزيد من السيطرة على العالم. وهكذا أصبح ظهور العقلانية اليونانية في نظر هؤلاء المنظرين يؤرخ لانطلاق العقلانية الغربية، خارج إطار المساهمات التي بلورتها الحضارات القديمة. هناك إذن نموذج واحد للمعرفة والعقل، هو النموذج الغربي، وما عداه صور وأشباه .. وعند معاينة تطور الفكر والعقلانية عبر التاريخ يتم تهميش الدور الحضاري الإسلامي، أو ينظر إليه أحيانا كترجمة محرفة ومشوهة للعقلانية اليونانية المنظور إليها كأصل أول للعقل، وللعقل الغربي بالذات. في هذه القراءة الغربية تمركز واضح حول الذات، وهو تمركز يوظف في الحرب الايديولوجية الرامية إلى تعميم التفوق الغربي في مختلف أصعدة الحياة. "تقوم إذن أطروحة التمركز الأوربي على فرضية استمرارية تاريخية تمتد من اليونان القديم ثم روما، إلى القرون الوسطى الإقطاعية ثم الرأسمالية المعاصرة "كما يقول سمير أمين في كتابه "نحو نظرية للثقافة". ولا بد من التوضيح هنا أن بناء هذه الأطروحة اقتضى الخلط بين معطيات تنتمي إلى مجالات معرفية، وأخرى ترتبط بالتوظيف الأيديولوجي الرامي إلى إنجاز مهام سياسية وأيديولوجية محددة. وإذا كنا نعرف الأدوار التي مارسها العلم في اكتشاف الأسلحة الفتاكة، فإن نفس الأمر ينطبق على التوظيف الأيديولوجي لمعطيات المعارف الإنسانية، حيث توظف المعطيات الموضوعية لخدمة أهداف محددة سلفاً، وهو ما يثير قضايا وإشكالات فلسفية وأخلاقية تغيب في الغالب لتساعد على تمرير مشاريع الهيمنة، وبناء الأيديولوجيات التي تسعف بإنجاز عمليات التكييف النفسي والاجتماعي والذهني المساعد على إعداد القابليات، وتمهيد الشروط المناسبة للاختراق، ثم الهيمنة والإطباق .. نحن نشير هنا إلى السوسيولوجيا الاستعمارية والأبحاث اللغوية، وأنثروبولوجيا الإثنيات، وغير ذلك من المجالات المعرفية التي تم فيها توظيف الآلية الأيديولوجية المتمركزة على الذات الغربية، كذات فاعلة في التاريخ، بهدف ضمان استمرار فاعليتها بأكثر من وسيلة، ثم حماية مكتسباتها ومصالحها في المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والأيديولوجية. تبلورت أطروحة التمركز الثقافي الغربي في سياق تاريخي - لم تنته بعد - بين أوربا والعالم غير الأوربي، ولم تكن المقاومة التي أبدتها الشعوب غير الأوربية هي الوسيلة الوحيدة التي كشفت تناقضات المشروع الثقافي الغربي في مستويات متعددة، بل إن تناقضات أطروحة التمركز الغربي ظهرت في صلب المشروع الثقافي الغربي، وهو الأمر الذى سنطلق عليه نعت النقد الداخلي للمركزية المعرفية الغربية. نقد المعرفة الغربية لقد كشف مشروع الحداثة في تطوره، ازدواجية المعايير في الأدوار التي مارستها الحضارة الغربية، وذلك عند مقارنة صيرورة تاريخها المحلي، بصيرورة علاقتها بالمحيط الذي استعمرته. كما أن تطور العلوم والمعارف التقنية ساهم في إبراز قيم النسبية وحساب الاحتمالات، كقواعد مركزية في الممارسة العلمية. إن ثقة الغرب في احتكاره العقلى بدأت تتزعزع في النصف الثاني من القرن العشرين، ذلك "أن أزمة الفيزياء والعلم المعاصر، قد طرحت للنقاش أسس المنطق القديم، والاتصال بالحضارات الكبرى المختلفة فكرياً عن حضارتها (...) حطم إطار النزعة الإنسانية القديمة". لم يعد الغرب اليوم يستطيع النظر إلى فكره باعتبار أنه هو الفكر، كما أنه لا يستطيع اليوم "أن يحيي في فجر الفلسفة اليونانية طلوع شمس الفكر". إن النزعة التحررية التي صاحبت عمليات مواجهة الاستعمار الأوربي في إفريقيا وآسيا، أبرزت عاملاً آخر ساهم في إضفاء النسبية على ايديولوجيا التمركز الثقافي الغربي، يتعلق الأمر بالخصوصيات الثقافية والتاريخية للأمم والشعوب غير الأوربية، فلم تعد الأحكام المعرفية العامة التي بلورها الفكر الغربي وبلورتها العلوم الإنسانية في لحظات تشكلها وتشكل نماذجها المعرفية والابستمولوجية أحكاماً عامة ومطلقة، بل تم إضفاء كثير من النسبية عليها... فلا يمكن للمعارف السوسيولوجية والسيكولوجية أن تصبح كونية وعامة،إلا بإدخال عناصر المتغيرات التي تنتمي إلى مجالات خارج محيط المركز الغربي. صحيح ومؤكد أن الحضارة الغربية اليوم هي احدى أكبر لحظات المغامرة الانسانية في التاريخ، وأن المساهمة الغربية في بلورة النماذج المعرفية العلمية مهمة وغير مسبوقة، ومتفوقة على ما عداها، إلا أن النتائج التي أدت إليها لا يمكن تعميمها دون احتراس منهجي، ان تعميمها يتطلب أولاً معاينة معطيات المجتمعات التي لم تكن واردة في زمن صياغتها.. فلا يمكن النظر مثلا الى كتاب أنجلز "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة" باعتباره نصاً علمياً، إنه برغم عنوانه الواسع لم يتناول بالبحث أصول القضايا المذكورة بصورة مطلقة،وبرغم مظاهر الاطلاق البادية على عنوانه، فقد بحث في هذه الأصول ضمن معطيات كانت متوافرة في زمنه، وقد ساهم تطور المعطيات الانثروبولوجية في بناء معطيات جديدة في سياق التطور المعرفي الأوربي، وفي سياق تطور المعارف العلمية خارج الحقل الأوربي، ومعناه أن نتائجه أصبحت تنتمي إلى مجال التاريخ أكثر من انتمائها إلى مجال المعرفة العلمية الراهنة... وبناء عليه فإن أهم نقد وجه للتمركز المعرفى الغربي تعلق بمحدودية النتائج التي تم الحصول عليها داخل تطور المعرفة في الغرب، إن الكونية المعرفية الفعلية تتطلب أولاً امتحان أوليات الحداثة والمعرفة الغربية في التاريخ، وذلك بإضفاء النسبية عليها، وتوسيع مجال رصد معطياتها عن طريق استثمار الآليات والوسائل والنماذج المعرفية التي ساهمت في ابتكار قواعدها وأسسها ومناهجهـا العامة، إن كونية المعرفة العلمية طريق يتجاوز منطق التمركز الغربي، وهو طريق تساهم فيه أوربا، كما يساهم فيه غير الأوربيين بالاستيعاب والنقد والتجاوز... أنماط المواجهة الحضارية تتخذ مواجهة التمركز الثقافي والحضارى الغربي اليوم صوراً جديدة، إنها تتخذ نمط المواجهة الحضارية، وضمن هذا الإطار الجديد ترفض نزعات التغريب المقلدة، كما ترفض التبعية بحكم قبولها للمشروع الاقتصادي والسياسي الغربي كمشروع للهيمنة. وإذا كان المشروع الغربي قد تعزز بالدائرة الأمريكية في المجالين السياسى والعسكري وأصبح جزءاً من آليات هيمنتها الراهنة على العالم، فإن المعركة قد اتخذت أشكالاً أخرى أبرزها صور الاختراق الثقافي الإعلامي، وهو الاختراق الذي ينتظر منه لعب أدوار جديدة في أفق الصراع الاستراتيجي الدائر اليوم في العالم، الصراع الذي أعلنت مؤسسات البحث العلمي والأيديولوجي موضوعه المتمثل في معركة الغرب الأمريكي الأوربي ضد الإسلام والأيديولوجيا الإسلامية، باعتبارها أيديولوجيا تعادي تماما المشروع الحضاري الغربي. عادت إذن عناصر جبهة الصراع: الغرب/ الإسلام إلى الظهور ضمن متغيرات جديدة مخالفة للمتغيرات التي صاحبت ميلاد المشروع الإمبريالي في صورته التي تنتمي إلى نهاية القرن الماضي .. ولكي نتجنب الخوض في الأبعاد العامة لهذه الصورة، نواصل تركيزنا على موضوع التمركز الثقافي الغربى وأنماط النقد التى وجهت إليه سواء في سياق تطور الفكر الغربي، أو في سياق علاقته بالأمم والحضارات الأخرى. ضد التمركز المعكوس إننا نعتقد أن نقد التمركز الثقافي الغربي لا ينبغي أن يولد انكفاء ذاتياً، أو ما أطلق عليه سمير أمين التمركز المعكوس" أو المركزية الحضارية المعكوسة، فمواجهة التحديات لا تكون بالهروب إلى الوراء، صحيح أن التشبت بالحصون الذاتية يشكل دعامة من دعامات المواجهة والنهوض. إلا أن نقد المشروع الثقافي الغربي يكون أقوى وأعمق بقدر ما يكون نقداً داخلياً، نقداً يكون بمقدوره أن يستوعب الآليات المعرفية والتاريخية الموضوعية التي ساهمت في تشكل هذا الفكر، ثم محاولة كشف منطقها، ومحدودية نتائج معارفها ونسبية قوانينها، وصياغة البدائل القادرة على تحويل الكونية الثقافية إلى فعل تاريخي يهم أوربا ويهم الغرب، بقدر ما يهم غير الأوربيين وفي كل مكان.. يمكن تركيز النقد في الدعوة إلى الحوار الثقافي كوسيلة من وسائل بناء كونية المعرفة الإنسانية باعتبارها مشروعاً مستقبلياً، مشروعاً مفتوحاً، شريطة الاعتراف بالتعدد والاختلاف.. فإذا كان التمركز المعكوس.. يحيل إلى مشروع استبدال هيمنة بهيمنة أخرى مغايرة، فإنه لن يولد في نظرنا إلا مزيدا من التعصب والعنصرية والاحتقار المتبادل، في حين أن النقد الإيجابي للتمركز الغربي يكون بالاعتماد على نفس أسلحة الخصم، حيث يصبح مشروع الكونية الثقافية مشروعاً للجميع. صحيح أن الحوار يقتضي التكافؤ لكن التكافؤ لن يكون بمجرد استعمال الذاكرة، والذاكرة وحدها. كما أنه لن يكون بدغدغة الذات، وتصور أن حصونها العتيقة في مجال المعرفة والفكر قادرة على مواجهة الدينامية القوية والمتقدمة لثقافة نهاية القرن العشرين، ومن هنا فإن المقصود بالحوار أولاً الانفتاح التاريخي على الآخر ضمن إطار جدلية الصراع، الانفتاح الذي يسعف أولا بتملك أصول الحداثة واستيعاب دروسها، ويسمح ثانياً بالمساهمة في تشكيل الكونية الثقافية، التي ما فتئت تغتني داخل التاريخ، وداخل جدلية الصراع التاريخي بمختلف أبعاده.
|
|