الصورة في شعر جوزف حرب

الصورة في شعر جوزف حرب

جوزف حرب.. شاعر من القلب (ملف العدد)

الشاعر، العربي اللبناني، جوزف حرب، واحد من الذين يتصدرون المسيرة الشعرية العربية المعاصرة بنتاج عماده، فضلاً عن ثقافة تضرب في أعماق الوجود الإنساني، مستعرضة ودارسة ومحللة ومستنتجة، حس مرهف وذوق أنيق، يعرف صاحبهما كيف يصوغ، من خلالهما، إبداعات جمالية ومضمونية ما برحت تترك بصمة واضحة من حيويتها في مسيرة الشعر.

في هذا الملف قراءة شاملة لأعمال شاعر من القلب اسمه جوزف حرب

-------------------------------------------

شعر حرب، بالعربية الفصحى واللبنانية المحكيّة، طراز رصين، بعمقه في الفكر الإنساني، ورائع، بجمالياته في رحاب العطاء الفني. يشهد لجوزف حرب، في كل هذا، مجموعة ضخمة من النتاج الشعري أولها «شجرة الأكاسيا» سنة 1986، ومنها «مملكة الخبز والورد» و«الخصر والمزمار» و«مقص الحبر» و«السيّدة البيضاء في شهوتها الكحليّة» و«شيخ الغيم وعكّازه الرّيح» و«رخام الماء»، فضلاً عن«سنونو تحت شمسيّة بنفسج» و«طالع عبالي فِلْ»، «المحبرة» وصولاً إلى آخر ما نشره سنة 2009 «أجمل ما في الأرض أن أبقى عليها» و«زرتك قصب فلّيت ناي»!

يتجلّى الشعر في أعمال جوزف حرب عبر سبل عدة تشكل الصورة أبرزها حضوراً وأهمها فاعلية وأشدها تأثيراً في ألق الحضور الشعري وعطاءاته. فشعر حرب، وقبل أيّ أمر آخر، صورة لا تنتظم حيّزاً معيّناً أو محدّداً من دفق الشاعرية عنده، بقدر ما تشكل لحمة هذه الشاعرية وسداها. شعر حرب وحدة عضوية متكاملة، فيها مضمون وصورة تزاوجا حتى ثمالة ما في الزواج.

تأتي الصورة عند حرب، ترنيمة سعي وصدق تاريخ في حمأة وعي وجداني يستشرف الفجيعة والأمل في آن، ويصدح الواقع وجودّ فن يشرق بالنص على فضاءات العيش، كما في «شجرة الأكاسيا»، أوّل ديوان له نشره:

وتعِبنا
دمُنا قلَّ. بماذا نحفرُ الآن؟
ولا ماء لدينا. وعِظامُ الشهداء انكسرَتْ في حَفْر
ماضينا
ولكنْ
لم نجد
بعدُ الجنوبْ.
فجمعنا دمَنا الباقي، وأطراف جذور
الشّجر القاسي،
حفرنا
فسمعنا صوت ماء،
فحفرنا،
فإذا النهر المقدس،
وعلى
صخرته
قامَ رسولٌ. صرخت زينب من
أعماق عينيها:
الجنوب!!
وتوقفنا.
رأيناه جليلاً،
وقديماً كإله،
طالعاً كالسَّرو، محفوفاً بأتباع له
من شجر الأرض

تبرز الصورة في شعر حرب، في مثال آخر، لكن هذه المرَّة من «شيخُ الغيم وعُكّازُه الرّيح»، حاملة لمشهد قصصي، فيها شخوص القصة وتطور أحداثها، وفيها تعملق الأحداث وتطورها الدرامي وصولاً إلى أقصى ما يمكن للبعد الدرامي في القصّ أن يُزهر وجوده به:

ما
أبْقَيْتُ في صَحْني لُقْمَه،
ضَرَبَتْنيْ
الراهبَه!
لمْ تكن تعلم أني اعتَدْتُ فيْ
البيتِ إذا نحنُ جلسنا حول صحنِ واحدٍ،
فوق الحصيرهْ،
وأكلنا
جائعين،
أن يُخلى كل من يأكل منّا
لُقمة الصّحنِ الأخيرة،
دائماً
للآخرين.

أما في «المحبرة»، ولعلّها المجموعة الشعرية الأمثل في كشف فنية الصورة عند جوزف حرب، فالأمر أشدّ عطاء وعمقاً وأروع شاعرية وتأثيراً. «المحبرة» هي العمل الذي أمضى حرب أكثر من سبع سنين منكباً عليه، فانزوى من أجله في صومعة عمره وأناره بزيت وجوده وعافيته، ثم خرج حرب من قمقم «العزلة» ماردَ شعرٍ، الصورة قوام فاعليّته بامتياز. المحبرة قصيدة واحدة متكاملة في سفر شعري من 1708 صفحات! هي رؤية جوزف حرب في الكون برمّته، بتاريخه وناس هذا التاريخ، بأديانه وعقائده وكلّ ما فيها من آخذ وعطاء، ثم أنّ «المحبرة» هي التجربة الإنسانيّة بكليتها، تقمّصت نصاً شعرياً هو ملحمة إبداع فني لا أظن أن أحداً سبق جوزف حرب إلى مثله.

ثمّة فاعليات متعددة ومتنوعة للصورة في النص الشعري، ولعل من أهمها ما يمكن تسميته بـ «الصورة النقدية»، التي تنهض على أساس من براعة فنية معينة، كما في قول امرئ القيس:

مِكَرّ مفرّ مُقبل مُدْبر معاً
كجلمود صخرٍ حطّهُ السّيلُ مِنْ علِ

وهنا يكون إبراز كلي لتقنية تشكّل الصورة، بحيث يُظهر النص لعبة فنية ذات قيمة تعليمية أو تجريبية وبعد جمالي عام، وغالبا ما تأتي هذه الصورة عرضا ضمن النص، وتظهر نافرة عن سواها ومن غير ما دور عضوي في بنايته التشكيلية.

ثمة وجود آخر للصورة يمكن وسمه بـ «الصورة الهدف»، وهي الصورة التي تبرز لتوفير فاعلية جمالية ومضمونية محددة وقصيرة المدى في النص، كما في قول أبي نواس موحياً بهالة من القداسة على ساقية الخمر وكأنها قديسة أحيط وجههابهالة من نور:

قامت بإبريقها والليل معتكر
فلاح من وجهها في البيت لألاءُ

وهنا يكون تقديم الصورة، عبر تقنيات إيجادها وتشكيلها، لغرض محدد ضمن النص الشعري، فهي صورة محددة الفاعلية ومحصورة التكوين.

أما ما يمكن تعريفه بـ «الصورة الوجود»، فهو ما تتولّد منه حقيقة الفاعليّة الشعرية التي تنتظم النّص بكليته وتعطيه الألق الشعري. إنّها وجود النّص، إذ لا وجود للنص خارجا عنها، وهي، تالياً جوهر الوحدة العضوية المضمونيّة والجماليّة، في آن، التي تنتظم التشكّل الكلي لبناية النّص. وهذه الصورة بالذات هي أبرز ما ينتظم الفاعليّة الشعريّة في نتاج جوزف حرب قاطبة، و«المحبرة» منه بشكل خاص.

الصورة في «المحبرة» فعل تبتل لحرب في محراب الوجود ليكون الشعر وجود حياة. تبدأ الصورة من فاعلية أولى، هي فاعليّة الوجود عبر الفن، وتنتقل، من ثمّ، إلى فاعليّة أشد شمولاً من الأولى، إذ تكون فيها الفاعلية للفن باعتباره الدال الوحيد على الحياة، وتكون الفاعلية الفنية للحياة، مسلكاً جمالياً وموضوعاتياً للحياة - العيش ومعاينة للوجود ومعاناة له في آن. وتكون معاينة الوجود ومعاناته ممارسة لعيش الحقيقة المنبثقة - المشرقة من موضوع النص الجمالي. فالحقيقة، ههنا، فعل اختيار للجمال، والجمال، في هذا المجال، هو الوجود الوحيد الذي يطرحه النص، بغض النظر عن موضوع هذا النص. أما الوجود المتجلّي، عبر الجمال، فليس سوى حقيقة الصورة التي تنتظم نص «محبرة» جوزف حرب، وهذه الصورة موضوع يكون العمل عليه والغوص في أبعاده فعل إغناء للتجربة الشعرية العربية المعاصرة، بصورة عامة، مساهمة أساساً في فهم الدّرس الجمالي الشعري الإنساني، بصورة خاصة.

ثمة صورة قد تحلو تسميتها بصورة «محراب الشاعر في هيكله». إنها صورة الوضعية التي انطلق منها الشاعر جوزف حرب في قراءاته التحليليّة والتقويمية، التي انتظمت «المحبرة»، لكتاب «الكَوْن»:

يدي
ريح.
وطاولتي سواد الليل. والأوراق غيمْ
عن يميني، قربها أقلام صندلة، ومحبرة تقطر
حبرها الكُحلي
من ماء البنفسج.
عن
يساري،
شمعة من فضّة، يدعونها: قمراً.
ولي كرسي أيلول، خفيف الحَوْرِ، أجلس فيه
مستنداً إلى
قزحي سحابة،
وظهر عريشة،
عند الكتابة.

تتفاعل، ههنا، عناصرُ الصورة عبر شبكة بنائية شديدة التنوع والتعدد فيما بينها لتقدم، عبر تفاعلها الوجودي هذا، عالماً قائماً بذاته، هو محراب الشاعر في هيكل شاعريته. بات محراب الشاعر في هيكله عناصر وجود إنساني يتزاوج فيه الواقعي بالجمالي لإعطاء مضمون أسطوريّ - محسوسٍ في آن. وهذا المضمون الأسطوريّ - المحسوسُ هو ما يضع الشاعر في أهليّة مطلقة لمراجعة ما قام به «الكون» وتقييمه. فمن كانت يده الريح، بكل ما للريح من صور، ومن كانت طاولته اللّيل، بكلّ ما لليل من عمق وسحر، ومن كانت أوراقه الغيم، بكل ما للغيم من انتشار، ومن كانت أقلامه من عبق الصندل وحبرُهُ من قطر البنفسج، بكل ما للصندل من نفاذ وكلّ ما للبنفسج من زرقة السحر وغموضه، وما كان القمر، بشاعرية ضيائه وأسرار تحولاته وتأثيراته، شمعته، ومن كان أيلول كرسيه، بكلّ ما لسطوة شهر أيلول من قدرة على التبديل والتغيير، ومن كان مسنده قوس قزح بكل ما لقوس القزح من اتساع وانتشار، حقّ له، إن لم يكن قد وجب عليه، أن يقرأ كتاب الكون ويحكم عليه، بل إن ينقّح فيه ويضيف إليه!

وثمة أنموذج آخر للصورة ضمن «المحبرة»، لعلّه يشكل إشارة إلى ما يمكن وسمه بـ «الصورة الومضة»، الصورة التي تشبه وميض البرق السريع المضيء المنير المفصح لبعض ما ينيره بأضوائه والمخفي للبعض الآخر بسرعة انطفاء ما ينير به، فيضحى من يشهد هذا البرق في فضاء السحر الداعي إلى فتح آفاق الخيال والتبصّر معاً.

كل ما في الكون من نار،
وإعصار، وفيض مالح،
يولد فيكْ
عندما لذات جسمي
تشتهيكْ.

ومثل هذا، أيضا:

لاح
هذا الكون كباب ذي قفل،
فتقدّمت المرأة حاملة
أوّل
مفتاح.

إضافة إلى كل ما سبق، فإن جوزف حرب يقدم، عبر «المحبرة»، أنموذجاً عن كل ما يمكن وصفه بـ «الصورة الدرامية» القائمة على بناء درامي تصاعدي يقدم حركة درامية متكاملة تنهض على حدث مركزي تتالى تحركاته تصاعداً وتأزماً لتنتهي بقمّة مأساوية شاملة هي، بحد ذاتها، حضور إنساني أخّاذ:

إثنان
كلّ منهما يتّهم آخر.
توضع
قصعتان،
إحداهما مسمومة،
بينهما سهم، وعنكبوت.
يأخذ كله قصعة، يأكلها،
ويصبح الجاني الذي يموت.

ولجوزف حرب، فيما له ضمن «المحبرة»، أنموذج آخر من الصورة لعلّ أفضل ما يمكن تعريفه بأنه «الصورة الحكاية». فالصورة، في هذا المجال، حكاية، بكل ما للحكاية من عناصر وكل ما للحكاية من إيحاء وتشويق وجمال:

هذي
البراري
الغيم صاحبها،
ودواته،
فيها يذوبها.
يمضي شهوراً
في كتابتها،
وكَوَشي شيراز
يرتّبها.
كزمرّد،
يجري بأخضرها،
وكخمر دير النّاي
يسكبها.
والورد
يعصر فيه
حمرته
شمساً
عليها
ذاب مغربها.
يمحو، ويحذف،
أو ينقّح،
كي
يبقى بها
في الرّيح
أطيبها.
فإذا مضى عام،
يمزقها
برياحه،
ويعود يكتبها.

الصورة في «محبرة» جوزف حرب، كما في سائر نتاجه، جمال في وجوده الكلي المطلق، بل هو جمال في جوهر وجوده وحقيقة هذا الوجود، إنّه عيش شاعر مفكر جمالي، يعيش ويحلم ويرى ليبني من الفكر والرؤى، وجوداً لحقيقة الحياة ينبثق من فيض الشاعرية.

دراسة فنيّة الصورة في شعر جوزف حرب مازالت طفلاً يحبو في عالم البحث والتحليل، وما هذه إلا نتف من مجرد إشارات إلى ما يمكن أن يساهم في إثارة المزيد/ البحر من عمل على العيش الشعري الذي يحياهُ جوزف حرب ويقدّم، عبره، الصورة الشعرية فضاء عطاء مضمونيّ جمالي في أفق التجربة الشعرية العربيّة منها والإنسانيّة.

 

 

وجيه فانوس