أمام ملكوت المرأة.. السيدة البيضاء في شهوتها الكحلية
أمام ملكوت المرأة.. السيدة البيضاء في شهوتها الكحلية
شعر جوزف حرب لا يشرح ولا يفسر، بل يُرتَحل إليه من بعيد، وتقطع المسافات الشاسعة على راحلة مرقالٍ وطيدة العهد بالأسفار الطويلة، حتى إذا وصلت انتابك برد الأسحار، وشجن الحور على ضفاف نهر نضبت مياهه. فأنت أمام نتاج مشحون بالرؤى والأحاسيس المتدفقة بلا انقطاع، لا تكاد تقع على واحد منها حتى يفوتك الباقي، فتلحق بها، فتنهمر فوقك أو عليك دفعات أخرى، تليها دفعات، لا تمهلك حتى مجرّد النظر، وتخرج من نصه الشعري وأنت مبهوت من الصور والهيئات المرتسمة الهاربة أمامك، منبهراً من نار وهجها الداخل إليك كأنفاس الصبح، في غابة من شجر النخيل وجوز الهند. وما على القارئ إلا تصفّح ديوانه ومحاولة الوقوف هنا أو هناك، فسيجد أن فعله إذ ذاك، كمن يريد أن يستوقف مجرى النهر ليعدّ ذراته، أو موج البحر ليجمع زبده. إن شاء أمتعك بفرجات قزحية اللون، كستنائية الطعم، يبتدرك بها في طيات النصوص، فلا تقرأ شعراً، بل أشرعة بيضاء أبحرت قبل الشروق. ولا تبصر شطوراً أو مقطّعات موزونة وتوقيعات صوتية متناسقة، بل دفقات من ماء الزهر المقطّر في أوان زمردية، وأهازيج صبايا يمتشقْن جراراً من عطور الصندل والوزال الحرشي، تخترقها هبّات النسيم الصنوبري من غابات بعيدة. وأنا هنا لا أتمدّح ولا أتكسّب في كلامي، فقد ولّى زمن هذه الصناعة، بل ينساب الكلام فيّ بعفوية وتلقائية، مدفوعا بسيل من الإعجاب الشديد بلغة هذا الشاعر التي تطاوعه في رسم أي صورة شاء، وأيّ تركيب مجازيّ اختاره، فلا تجد تعسفا أو تعقيدا أو معاظلة، ولا إسفافا أو استخفافا بصياغة ما يرسم وينحت. وندخل الآن في موضوعتنا التي وسمنا بها المقال: شاء جوزف حرب أن يختم فصول «ملحمته» الشعرية، بالجثو عند مقام المرأة التي جاهد في السفر إليها بحراً وبراً، وفي فدافد الأيام وزعازع الليالي القارسة، ماخراً عباب شهوته وهلعه الشبقي إليها، صالياً بنار هجيّراها.. وماذلك بكثير حيال ما تشكلت مضغة الخلق في أحشائها، وجبلت بها ريح الوجود. لا، بل هو قليل ما فعله جوزف، لأنه جعلها في نهاية المطاف قديسة، ولية من أولياء التقوى، الذين اصطفتهم العصور ليكونوا منارات اهتداء ومتابة، لا حائط مبكى لا يضرّ ولا ينفع، كما هي حال عبدة الأوثان وورثة الطقوس الصنمية، وما أكثرهم في مختلف الأزمنة! مقام المرأة «الحربية» هنا أرقى من كل مقام رسمته أرياش الفنانين والشعراء وأبعد من أن يجرؤ أحد بحمل حصاة واحدة لرجمها، أو حتى مجرد الظن بفجورها، مع أنها رجمت وجرّحت، فخرجت أطهر، وأصفى، معصومة من الخطيئة، ملفعة بعباءة الحنان والغفران لكل من أساء إلى مقامها وغرق ببهتان الظنون بها. ومن مدرّجات هذا المقام: 1 - الوقوف الخاشع عند مقامها «لا شيء أقسى سيرة من لطف سيرتها، فكيف عذابها؟!! هي راية الأشجار، لكن لم تعش في الريح. وهي النبع، لكن كلما شربوا أصابوها بجرح. (الديوان/ ص433) بداية مهيبة الجرس حيال ما ومن يصف. وبديعة هي هذه «الحصى» الملقاة على (القدّيسة)، فامتلأ به مجرى النهر! والأجمل، تحوّل الصوت الرتيب المذهل إلى أنين تصدره الأمواه توجعا وجدانيا، لا استثقالا للحصى. تتّسع دائرة المهابة لتغدو أعمّ من أن تشمل امرأة واحدة، فهي «حكاية أي أمرأة». ويكبر إحساس الشاعر بالمظالم التي نزلت بالنساء، فيدعوهن إلى الانقضاض، لابمعنى الثورة والتمرد، بل بنفض أجسادهنّ، بعد غرقهنّ في النهر المقدس، فيسقط من هذه الأجساد، (عفن الرجال وزنجارهم). «... وما الصدأ الذي يعلو مفاتنكنّ إلا لون (الديوان/ ص437). 2 - مرحلة التوبة والتكفير يصوغ جوزف حرب، في عدة صفحات، نضارة مشاعره المصفّاة، من كل درن غريزي، ويصعد إلى المرأة/ المثال، مُثْخناً بجراح الأزمنة والعصور التي سيمت فيها المرأة ومرّغ جمالها بكل عفن الرجولة وزكام البغاء، إلى جانب مراحل الذلّ والامتهان والاستغلال، ويقدّم لنا صفحات نديّة الديباجة، مشرقة البوح، ومنها المقطع الآتي الذي يعد من أقدس ما قيل في النساء، وأكثره تكفيراً عمّا ارتكبه الرجل في حق المرأة عبر التاريخ. «كيف يحمل يا نساء الأرض، ظهر من ندى (الديوان/ ص 440 - 441) المداد الذي كتب به جوزف، هو من قبة الفلك الدوار الذي ترتع فيه كل الكواكب والأقمار التي كان الشيطان يترصد فيها دفعات الوحي المتنزّل إبّان انهمار سحب الوحي والتبليغات الإلهية. وبذلك يتطهّر الشاعر من كل موريات الشهوة التي صبغ نفسه، وشعره، ولسانه وهدير صبواته، بها (على مرّ عشرات النصوص التي عبرتها تباعاً في ثنايا هذا الديوان). أوقل: كلُّ ما قيلَ هناك إفرازات فطرية، نبتتْ على جذع الضمير الشعري الموزع بين عفّة النظرة القدسية، وفجور الحس الشهواني. فما إن استقرّ أمام ملكوت المرأة وتاجها النوراني الأقدس، حتى ارتمى مجهدا، على شاطئ الرؤيا الانبهارية، ينفض عن أثوابه كل غبار الدنس والرجس المعشّش في تلافيف الكيان الإنساني. يؤكد حرب، ما رسمته الآن وتأولته، قوله في النص الكبير الذي أنا فيه: «آه أيتها البهيّة كما أهَنَّا الوقتَ!! (الديوان/ ص444) 3 - مغناة الرفض والتمرّد يدخل حرب فيما يأتي، حقل التاريخ ومعتقل الحريات التي كفلها الرحمن لجميع بني الإنسان. ويقلب الصفحات، فلا يكاد يعثر على فرجة ينسلّ منها نور إلهي يعتصم به من بيدهم «العصمة» النافذة، فيرفض ذلك، ويتمرد ويثور، من غير ما زبد يعلوالشفاه وهي تصخب وتتشدق من فوق المنابر، بل في سياقه الهادر في الأعماق. ويبدأ ببلقيس، واحدة من كبريات ملكات التاريخ التي كادت تعبد من جموع رعاياها وأبناء مملكتها. «تسلّقت بلقيس مرتفع السنين إلى (الديوان/ ص445) - وينخضُّ قلمه الشعريّ، في ثورته المتسربلة بحروف اللغة، وقواعد الحياة الاجتماعية، فيقف مشدوهاً أمام حرفي (الواو والنون) اللذين يضافان أبداً إلى جمع الذكور العاقلين، بينما تحرم منهما أو من مقاسهما المؤنّثين، لجموع النساء اختلط بهن ذكر واحد: «يا لهذي الواو والنون اللتين (نفسه/ص446) إنه الرفض الساخط لهيمنة الرجل الشاملة، على المرأة، ساهمت في تكوينها، قواعد اللغة العربية، فغلب المذكّر الواحد كل الإناث المجتمعات معه. وفرض على المتكلم استخدام الضمائر المذكّرة لترسيخ هذه الهيمنة. إزاء هذا الجور الوجودي المكرّس لغة وسلوكا وأحكاماً وتقاليد، ينعطف إلى المرأة التي عقد العزم على الرحيل الجهاديّ إليها، بصحبة نساء شهيدات وفوارس ورسولات، رافقهم «رجال آمنوا بيديك، ماتوا في سبيلك، عـــُلِقت أعناقهم فوق الرماح». فيناديها مبتهلاً إليها، ضارعاً أن تفتح نوافذ الروح الأسمى، لعلّه يحظى بواحة حياة لا لغو فيها (ولا رفث ولا جدال)، ولكن، هيهات هيهات: «فافتحي أبوابك (الديوان/ص449) 4 - نهاية المطاف في نهاية مطافه الطويل المضنك، يستقرّ جوزف حرب عند الحقيقة الأزلية التي ليستْ، في خاتمة الأمر، إلا أعماقنا التي لم نع شيئا منها، على الرغم من وجودها فينا. حقيقة ساطعة لدرجة البهر والإعماء، وسطوعها ليس أنوارا وأبراجا مشتعلة من بعيد، بل هو العمق السحيق، والأمواج العاتية في علوها، والملح الأجاج في جسد البحار التي ترسل إلى شطآن الثغور، الزبد العذري المطروح مع كل موجة تتكسّر قبيل تلاشيها، عندقدس الرمال والصخور المشرئبّة على المشارف وربا الآفاق البعيدة. ولم يكن بدّ من مخاض ولادة جديدة قوامها غابات من الأشجار المستظلة بحماية أعظم كواكب السماء، ألا وهي الشمس التي استوهبها الشاعر نبات دوّار الشمس الذي تتجدد الحياة فيه مع كل دورة نماء وتطور، تطبعها الشمس على جباه الكائنات. فهل اختزل جوزف حرب دربه الشبقي الجهاديّ الطويل، وفصول مأساة العشق والانعتاق، وأطوار التمرد والثورة على الأعراق والتقاليد المتجذرة في تربة العقائد والطقوس والتقاليد، بالشمس التي لم يلمح إليها جهاراً، إلا في المقاطع الأخيرة من ديوانه؟ وهل استخدمت الشمس هنا، منارة إلهية دامغة، ورديفا إلهيا للمقام الأنثوي السرمدي، كياناً خالداً لا حياة من دونه، لا في الأرض ولا في السماء؟ لنقرأ مع الشاعر مُسْتقطَرَ ديوانه، ورشحات قريحته الخلاقة، التي لا تشي بارتخاء أو فتور برغم النقطة الأخيرة على آخر سطر الديوان! «كنّا البحر. كان العمق أنت. (الديوان/ ص470 - 471) ويختم الشاعر سياقاته التأملية الاعتبارية بما رآه هو، نهاية طوافٍ ورسوّ في فضاء الشمس: «يا شمس بكاء الجسد الخاطي، (الديوان/ ص473) إنها المخيّلة العبقرية التي لها وحدها اختلاق أواستلهام ما تشاء من قوى ماورائية خارقة، لا فرق في تسميتها وتوصيفها، مادامت ترمز إلى العظمة المعجزة، والقوة اللامتناهية التي يستحيل اعتراضها، والتلكؤ في التسليم بمشيئتها من أي مخلوق على وجه البسيطة. ولِمَ الاستغراب؟ أليس هناك جماعات وأقوام شتى لاتزال حتى اليوم تعبد الشمس منذ فجر التاريخ؟.
|