الطيب صالح ومروان ناصح

الطيب صالح ومروان ناصح

  • نقل الروايات إلى السينما شبيه بعملية الترجمة بين اللغات.
  • أعد الرواية العربية بين أعظم الإنجازات في الحياة العربية المعاصرة.
  • التأثر ليس سوى إيقاظ لما في النفس.
  • التفكير العربي يلغي أمرا لصالح أمر آخر.

‎‎من من القراء لا يعرف الطيب صالح ذلك الأديب العربي النادر ندرة الذهب، إذا تحدث وإذا صمت، وإذا شارك في مسيرة آدابنا العربية أو وقف شاهدا عليها، خرج من أعماق السودان محملا بتراث الصوفية والوجد ثم غاص في دهاليز الحضارة الغربية ناقما ومفتونا، امتزجت في كتاباته هواجس الماضي، ورحل في شرايين دمه فرسان عرب اكتسبوا سمرة الجنوب وحلموا دون جدوى بالعدل المفتقد، وأعطاه الغرب نوعا من البصيرة فرأى نفسه وقومه كما لم يرهم أحد من قبل، يبدو هذا واضحا في "موسم و مروان ناصح الهجرة إلى الشمال" وفي "دومة ود حامد"، وحتى في أغنية العرس الطويلة التي أطلق عليها "عرس الزين"، ورغم قلة أعماله الإبداعية إلا أن بصماته كانت غائرة، وما زالت كتاباته المتناثرة في الصحف والمجلات العربية عنوانا على أستاذية النثر وعشق التراث والرغبة الحارة في البحث عن الجذور. أجرى معه الحوار الكاتب السوري مروان ناصح وهو يتطرق مع الطيب صالح إلى مجالات جديدة شملت السينما وأشكال الفنون المختلفة ثم عرجت على الأدب ومتاعب القصة القصيرة والأدب العربي بشكل عام.

  • لعلها نقطة بداية ملائمة أن أسألك: ما علاقتك بالسينما؟.

- علاقتي بالسينما؟! الله يعلم ما علاقتي بالسينما!! علاقتي بالسينما كروائي أنني مشاهد مهتم ومتابع للمتميز من الأفلام، وأعتبر نفسي مشاهدا غير عادي.. إذا كان المشاهد العادي يبحث في السينما عن مجرد المتعة، فأنا أزيده في أنني أتتبع النشاط السينمائي فنا قائما بذاته، ويهمني أن ألاحظ مزايا مدارس هذا الفن وإنجازاتها، وأعجب بإبداعات السينمائيين الكبار في كل أنحاء العالم، أما علاقتي الشخصية بالسينما - وأقصد علاقتي الروائية- فلا تزيد على أن إحدى رواياتي وهي "عرس الزين" قد حولت إلى السينما، على يد المخرج الكويتي "خالد الصديق".

ولكنني أرى أن ثمة علاقة واجبة بين مختلف أشكال الفن وفروعه، ومن المفترض أن تنفتح الفنون على بعضها بعضا، ثم إنني أرى في وسائل الاتصال الجماهيرية وفنونها والسينما والتلفزيون تعزيزا للإنتاج الروائي، فهي تنقل الرواية من حيز الورق إلى حيز الصورة المجسدة حيث يراها أكبر عدد من الجمهور وخصوصا الجمهور الواسع الذي لم يعتد قراءة الكتب في حياته اليومية، وهذا مكسب يعد في صالح الروايات وكتابها.

أما قضية المطابقة أو عدم المطابقة بين الأفلام وأصولها الروائية، فأعتقد أن علينا أن ندع هذا الأمر للعاملين في ميدان السينما، ولمدى حساسيتهم، وإدراكهم للعلاقة الحميمة بين الأدب والسينما.. ولو نظرنا إلى ما يجري في عالم اليوم لرأينا أن السينما والتلفزيون يعيشان على الإنتاج الروائي بالدرجة الأولى، ويقدمان من خلاله أبرز إبداعاتهما الدرامية، والأمر لا يتعلق بالإنتاج الروائي المعاصر والحديث فحسب، بل يمتد ليشمل عيون الإنتاج الكلاسيكي إن في الرواية أم في المسرح، ولكن إذا تساءلنا: هل نقلت هذه الأعمال الروائية إلى السينما كما يريد الكاتب، أم أن السينما غيرت وبدلت في هذا العمل أو ذاك؟ فتلك في رأيي قضية أخرى، هنا لا بد من الاعتراف- وهذا هو رأيي الذي أكرره دائما - بأن لكل وسيلة فنية منطقها الخاص، ولغتها المميزة، ولذلك فإن مسئولية الكاتب الروائي تنتهي عند حدود ما كتب بين دفتي روايته.. وإذا ما وثق هذا الكاتب بمخرج معين، وقبل أن ينقل هذا المخرج روايته إلى لغة السينما، فإن المسئولية عند ذلك تقع على عاتق المخرج، ويكون الكاتب في حل من هذه المسئولية الفنية في هذا النتاج السينمائي الجديد.

المشهد الروائي

  • نأتي إلى حديث الرواية - وأنت معدود بين الروائيين الذين استطاعوا أن يقدموا شيئا متميزا في الرواية العربية - كيف ترى المشهد الروائي العربي في عقد التسعينيات؟.

- إنه - كما أرى - مشهد عظيم.. ولعلني أعد الرواية العربية بين أعظم الإنجازات في الحياة العربية المعاصرة، وإذا أجرينا مقارنة سريعة بينها من جهة، وبين الإنجازات الاقتصادية والسياسية وحتى الإعلامية، فسوف نجد كفتها هي الراجحة. وإذا لم تكن واضحة الرجحان، فإنها- على أقل تقدير- ستبدو موازية لتلك المناشط الحياتية حضورا وتأثيرا.

ولعل من أهم ما فعلته الرواية العربية أنها قامت بملء الفراغات في الخيال العربي، وما أكثر الفراغات في هذا الخيال العربي التي تخص تصوره للأمة العربية جغرافيا وبشريا وثقافيا وحضاريا بصورة عامة.

إننا نكرر ونعيد - منذ أن استيقظ وعينا - أننا أمة عربية مترامية الأطراف.. ولكن السؤال يقفز إلى أذهاننا باستمرار: هل نحن أمة عربية على أرض الواقع؟.. وهل نحن أسرة واحدة حقا.. وإذا كان الجواب بالإيجاب فاسمح لي بأن أسألك: هل تستطيع - إذا كنت من أهالي مدينة "حمص" أو "حلب" في سوريا - أن تتصور حياة أهلك الذين في "صلالة" بعمان.. أو أشقائك وإخوتك في "مسقط "، أو "الأبيض" في السودان.. أو "أصيلة" في المغرب..؟؟ هذه هي الفراغات - القائمة في الخيال العربي - التي بدأت الرواية العربية ملأها.. وهي عازمة على المضي في هذا السبيل.. قد تقول لي: إن مثل هذه المهمة يمكن أن يقوم بها الإعلام العربي بكل وسائله المتطورة وإمكاناته الهائلة.. وأقول لك: نعم. ولكنه - لسوء الحظ - لم يفعل ذلك بالكفاءة التي أدت بها الرواية هذه المهمة الخطيرة، وإلى جانب الرواية في تأدية هذه المهمة تقف بعض الفنون الأخرى.. وبمناسبة وجودي في مهرجان السينما.. أود أن أعبر عن إعجابي الشديد- في هذا المجال - ببعض الأفلام الوثائقية التي قدمها السينمائيون العرب عن أقطارهم، مثل فيلم "الريس جابر"، والفيلم اللبناني "أحلام معلقة" الذي جسد تفاصيل المأساة اللبنانية.. كما أعجبتني جدا بعض المشاهد التي تضمنتها الأفلام الروائية التي أنتجتها سوريا مثل فيلم "صهيل الجياد" الذي هزني بمشاهده البيئية التي تبرز خصوصية هذا الجزء من الوطن العربي، وقد ذكرتني الصورة المنتزعة من صميم الريف السوري، بالكثير مما يشبهها في السودان تمام الشبه.

شكل عربي للرواية

  • إذا كان هذا هو أحد الأدوار التي تقوم بها الرواية العربية خدمة للوطن العربي ومجتمعاته، فكيف ترى ما وصلت إليه من حيث البناء الروائي؟.. لا سيما أن نقادا وكتابا كثيرين يرفعون الصوت بضرورة البحث عن شكل عربي للرواية.. وهل تؤمن بجدوى مثل هذه الجهود المبذولة لهذه الغاية؟.

    - لقد عرف العرب الشكل الروائي - بعامة - فهو ليس جديدا عليهم لأنهم هم الذين أنتجوا أعظم رواية كتبتها الإنسانية، وهي "ألف ليلة وليلة" هذه الرواية العجيبة التي دونها الوجدان الشعبي العربي على مدى قرون عديدة، وأفاد منها الآخرون شيئا كثيرا.

    على أن المهم - في نظري - هو أن يكتب الروائي عمله بأمانة شديدة لما يؤمن به، ويريد أن يقوله للناس، ومتى استطاع أن يفعل ذلك فإن كل شكل من الأشكال الروائية يختاره لموضوعه سيكون رواية حقيقية.. ولا يهم بعد ذلك أن نتساءل عن هوية هذا الشكل أو ذاك.. لأن الأشكال جميعها إرث وابتداع إنساني، يستطيع الإفادة منها كل كاتب مهما كان انتماؤه الجغرافي أو القومي.

    أنا شخصيا لا تشغلني لعبة الشكل.. كما لا تشغلني قضية البحث عن شكل عربي، الذين يبحثون عن ذلك غالبا يمثلون أصداء لبعض الصرعات التي تظهر وتختفي من حين لآخر لدى بعض الشعوب. إن الفرنسيين - على سبيل المثال - يميلون باستمرار إلى اللعب في الأشكال، حتى غدا هذا الميل جزءا من تراثهم الفني، هم أحرار على كل حال، ولكنني معني بالمضامين إلى حد أنني لا أجد وقتا للوقوف عند مسائل الشكل التي يسر الآخرين الإصغاء إلى ضجيجها الفارغ، وما دمنا وصلنا إلى هذا الحد من إيضاح أهمية المضمون، فإنني أستطيع أن أقول إن الرواية العربية المعاصرة تمت بصلة ملحوظة إلى الرواية الإنجليزية في القرن التاسع عشر، والغريب إن ناقدا إنجليزيا كنت أقرأ له منذ أيام قد وجد مثل هذه الصلة بين رواية أمريكا اللاتينية والرواية الإنجليزية في القرن التاسع عشر، يقول هذا الناقد- كما أذكر: "إن ما أدهشنا في رواية أمريكا اللاتينية - في الوقت الذي كان فيه كتابنا مشغولين بمعالجة قضايا صغيرة- كانت هذه الرواية الوافدة تذكرنا بقوة - بأعظم إنجازات الرواية الإنجليزية في القرن التاسع عشر".

    كذلك أرى السمعة الغالبة على الرواية العربية في هذه المرحلة.. ولا أجد ضيرا في أن يكتب الروائي أعماله بطريقة السرد التقليدية.. لأن المهم - هنا - هو أن يجد شيئا مهما وعظيما يقوله أو يعالجه.

    وبهذه المناسبة أحب أن أذكر رواية متميزة قرأتها منذ زمن للكاتب السوري يوسف المحمود، وعنوانها "مفترق المطر".

    انحسار القصة القصيرة

  • نتذكر جميعا - قراء ونقادا ومتابعين - صعود القصة القصيرة في الستينيات وظهور أسماء عديدة من المجلين في مضمارها.. وقد لاحظ بعض النقاد أن ذلك الصعود جعلها تطغى على الشعر - في تلك المرحلة - ثم لم تلبث مع بداية السبعينيات، أن شهدت انحسارا ملحوظا من الساحة الأدبية، وكان هذا الانحسار- كما لاحظ نقاد آخرون- نتيجة طغيان الرواية بحضورها القوي كما وكيفا.. هل توافق أولئك وهؤلاء من النقاد في نظرتهم تلك إلى القصة القصيرة؟ أم أن لك تفسيرك الخاص لهذه الظاهرة؟.

    - قناعتي الشخصية - حول هذه المسألة وغيرها من المسائل العامة - هي أنه لا شيء يعيش على حساب شيء آخر، ولشد ما يحيرني في آلية التفكير العربي أنه يركز دائما على تغليب اهتمامه بأمر واحد، أو شيء واحد، ويغيب الأمور والأشياء الأخرى من الصورة أو الموقف الذي يستقرؤه وينظر إليه.. فلا بد - في هذا التفكير العربي- من أن يلغي أمر ما أمرا آخر.. وعند وجود شيء ما أو بروزه فلا بد أن يقترن باختفاء شيء آخر من ساحة الوجود!! وفي اعتقادي أن هذا منطق غريب يجافي حركة الواقع، ومنطق الحياة نفسها!! ذلك أن الأشياء يمكن أن تتعايش بكل بساطة.. وفي مجال الأدب يمكننا أن نرى فنونه المتنوعة وهي تتعايش وتتناغم في سيمفونية الوجود، فلا قصة تقوم بإلغاء الشعر، ولا رواية "تشطب" القصة القصيرة أو المقالة، من سجل الحضور.

    وإذا كانت القصة القصيرة قد انحسرت - حقا - في مرحلة ما بعد الستينيات، فهذا يعود- في رأيي- إلى افتقاد هذه المرحلة الكتاب الموهوبين بما يكفي للحفاظ على أمجاد القصة القصيرة، واستمرارها في الوجود والصعود.. خذ مثلا "يوسف إدريس" - رحمه الله - لقد كان كاتبا عبقريا في هذا الميدان، وأنا أستعمل كلمة "عبقري" هنا بدقة شديدة. وعندما يقرأ المرء ليوسف إدريس مجموعة قصصية مثل "بيت من لحم" أو "أرخص ليالي"، أو "آخر الدنيا"، فلا بد له من أن يشعر بأنه يصحبه إلى عوالم واسعة حيث الرؤية الشفافة، والحس العميق برعشة الفن الأصيلة التي نجدها - أيضا - في الروايات العظيمة وسواها من الإبداعات الفنية الحقة.

    إننا نفتقد الآن إلى يوسف إدريس وأضرابه من المبدعين الكبار، وفي غياب هؤلاء الموهوبين، وانصراف بعضهم إلى فنون أخرى - كالرواية - بدت لعيون المتابعين ظاهرة تراجع القصة القصيرة، وفي كل الأحوال.. لن يعني هذا أن الرواية قد ألغت القصة القصيرة، وكل ما في الأمر أن ظروفا ما هي التي تجعل لونا من الفن يعم وينتشر أكثر من الألوان الأخرى.

  • ترتفع الأصوات عادة - عند الحديث عن ظواهر الركود والتراجع في ميادين الإبداع كافة - بالشكوى من غياب النقد!! فكيف تنظر إلى النقد الأدب العربي في هذه المرحلة؟.. وما طبيعة العلاقة التي تقوم بينكما؟.

    الخوض في قضية النقد مسألة صعبة، لأنه نشاط آخر - تماما - له أصوله وميكانيكيته الخاصة، وبالنسبة لي - شخصيا - أعتقد أن علي أن أكتب فحسب، دون أن أشغل نفسي برأي الناقدين، مع أنني قرأت الكثير من النقد الجيد، كما أعتبر نفسي محظوظا في علاقتي مع النقاد، أي أنهم كانوا- دائما- طيبين معي.

    وأنا حين أقرأ في النقد إنما أفعل ذلك لمتعتي الذهنية، ولإيماني بأن النقد الجيد عمل إبداعي مواز للإبداع الروائي وسواه من الأنواع الأدبية، لا مجرد تابع لتلك الإبداعات، إن النقد- حين يكون خلاقا- يتجلى إبداعه في مجال التطبيق إذ يتناول الأعمال الأدبية فيجلو لك شيئا في هذا العمل أو ذاك، ويكشف لك عن أبعاد لا تخطر على بالك، تزيد في متعتك الفنية، وتعمق إحساسك بحرارة الحياة في العمل المنقود، وإذا كان هناك خلاف بين هؤلاء المبدعين - كتابا ونقادا - "وأعترف هنا بأن كلمة "المبدعين " هذه تحيرني، ولا أستطيع أن أجد لها بديلا أفضل منها"، أقول: إن كان ثمة خلاف بين هذين الفريقين فينحصر في أن مزاج النقاد يميل إلى الهدوء والبرودة، بينما تحكم مزاج الكتاب الحرارة والوجد الذي يبلغ حدود الذهول، وخصوصا في لحظة الكتابة.

    إننى أتصور - دائما - الكاتب وهو غاطس في حلم ما، وأتخيله جالسا على حافة بركة صافية الأديم، ولكنه منهمك في تعكيرها، لأنه يمد أصابعه إلى قاعها، ويلمس الطين القابع في قعرها ويحركه باستمرار، بل هو لا يكتفي بذلك، لأنه يريد أن يحفر في أعماق ذلك الطين نفسه ليتعرف إلى خفاياه.

    بينما أتخيل الناقد جالسا بهدوء، ينظر بعاطفة مثلجة إلى ما يحدث على سطح هذه البركة!!.

  • إن ظلم النقد لكاتب ما قد لا يكون في صورة هجوم متعمد ولدوافع مريضة أو حاقدة، إنه كثيرا ما يأتي في صورة تجاهل أو عتيم مقصود أو غير مقصود، فتكون الخسارة حينها أشد فداحة، يدفعها الكاتب مشاعر قاتلة من الغبن، وتدفعها الأعمال الكبيرة استبعادا عن دورها الفاعل، ويدفعها الجمهور حرمانا من الأجمل والأثمن من درر الإبداع.

    ولقد ذكرت لي - قبل قليل - مثالا عن هذه الأعمال الجميلة التي مرت دون أن يلتفت إليها النقاد، هذا المثال هو رواية "مفترق المطر" ليوسف المحمود، وقد وصفتها أنت بأنها "رواية متميزة".. فما قولك؟؟

    - هل تجاهل النقد هذه الرواية حقا عندكم؟؟.

  • نعم.. ولم يتنبه لأهميتها سوى قلائل من النقاد والقراء!!

    - هذا شيء مؤسف.

    علاقة الرواية بالواقع

  • لو عدنا الآن إلى عالم الرواية، فسنجد أن قراء الروايات يميلون - بل يتلهفون - إلى معرفة شيء عن منابعها الواقعية، وسؤالي هو: ما علاقة رواياتك بالواقع؟.. وهل الواقعية التي تظهر في أعمالك هي صور منعكسة عن تجارب الواقع الذي تنهل منه؟؟.

    - علاقة الفن بالواقع علاقة محيرة، فأنا - مثلا - عشت حياتي في بيئة محددة، فتشربت روح هذه البيئة، وتأثرت بكل ما فيها من مؤثرات طبيعية وبشرية وتاريخية وثقافية، كانت هذه هي البيئة الأولى، بيئة السودان، ثم انتقلت بعد ذلك لأعيش في بيئات أخرى عربية وأجنبية، فكان لها هي الأخرى مؤثراتها في ذاتي الفنية، فكيف يمكن تلمس آثار هذه البيئات جميعا في أعمالي، وإرجاع كل أثر منها إلى أصله المحدد والمعروف في واقع ما عشت وما رأيت، وما حملت من مؤثرات؟؟.

    هنا.. أعتقد أن الأمر - في حقيقته - بعيد كل البعد عن البساطة التي يتبدى فيها مثل هذا السؤال.. إذ كيف لنا أن نسأل مخيلة الكاتب سؤالا كهذا، وهي التي اعتادت على أن "تطبخ " كل تلك المؤثرات بطريقة غامضة جدا، وتقدم لنا- بالغموض نفسه- أدبا يضج بالحياة الواقعية، دون أن يكون شبيها بما نراه في هذا الواقع أو ذاك، أو دون أن يبرز فيه بشكل مباشر هذا التأثير أو ذاك بالطريقة الفجة التي يتحقق بها ذلك على أرض الواقع؟!.

    إنني لا أؤمن بواقعية الرواية، وما من رواية واقعية - في الواقع - حتى لو أقدم كاتب على بناء رواية تدور أحداثها في مصنع للنسيج، وتقدم لنا حياة العمال ومعاناتهم ومشكلاتهم، ثم قال لنا هذا الكاتب: انظروا إلى هذه الرواية الواقعية.. فلن يصدقه أحد من العارفين بجوهر العملية الإبداعية!!.

    وعندما بدأ الناس يتحدثون عن "الواقعية السحرية" في أدب أمريكا اللاتينية كنت أتساءل في نفسي: ما هذه الواقعية السحرية؟، ثم ما هذا الخلط في التعبير وفي استخدام المصطلحات؟! وكيف تتجاور هاتان الكلمتان: الواقع والسحر؟ لقد عرفنا - في منطقتنا العربية - الشرقية منذ أقدم الأزمنة- بمقدرتنا على تحويل المادي إلى معنوي، فهل هذا هو ما يصفونه بالواقعية السحرية؟؟! وغاية القول- فيما يخص أعمالي - هو أن كثيرا من الشخصيات التي قدمتها في رواياتي، وكثيرا من الأماكن كذلك تجد لها موازيات في أرض الواقع، ولكن الروايات نفسها- ككل- ليست بواقعية، لأنني أقف حائرا، أمام أسئلة تطرح علي وتخص واقعيتها: هل حدثت هذه الرواية منذ زمن؟ أم أنها تحدث اليوم؟ أم ستحدث غدا؟ وكل ما أعرفه عن أي رواية أنها حدثت في أعماق الكاتب.. وحسبي هذه المعرفة "الواقعية"!!.

    مشروع روائي جديد

  • الآن.. ما مشاريعك الروائية؟.

    - عمليا. أنا متوقف عن الكتابة الروائية في هذه الفترة، ولكن الأفكار لا تكف عن الدوران في رأسي، ولا غرابة في هذا، فالكاتب يمارس عملية الكتابة في ذهنه باستمرار.

    الآن عندي مشروع روائي طويل لم أفرغ منه بعد، هذا المشروع هو رواية "بندر شاه" التي نشرت منها جزأين هما "ضو البيت" و"مريود"، وبقي الكثير فيها مما لم أكتبه بعد، ولا أعرف متى سأعاود الكتابة لاستكماله.

  • حول ظاهرة الروايات الطويلة: الثلاثيات والرباعيات والخماسيات.. أو ما يصفه النقاد - أحيانا- بالأعمال "الملحمية" وقد نختلف مع هؤلاء حول هذا المصطلح، هل يعتقد الطيب صالح أن مثل هذه الروايات تلقى قبولا عند قراء عصر السرعة هذا؟

    وهل يحتمل القارئ العصري- حتى لو كان من الأدباء- ما احتمله قراء عصر تولستوي الذي كان يقف صفحات كثيرة على وصف قطعة أثاث، أو ركن معتم من أركان صالة؟.

    - هذا الأمر رهن بما يريد الكاتب قوله، في هذه الأعمال- المطولات- فإذا كان ما يقوله جديرا بأن يفرد له ثلاثة أجزاء أو أربعة أو خمسة، فإنه لن يقع في مطب الثرثرة والاستغراق في تفاصيل لا قيمة لها. إن رواية "البحث عن الزمن الضائع" لبروست- مثلا- لا يمكن أن تكتب بأقل مما كتبت فيه من أجزاء، وكذلك عمل جيمس جويس العظيم "يوليسيز" ما كان له أن يكتمل بغير هذا الحجم الضخم الذي ظهر فيه، إذن فالإطالة والاقتضاب إنما يحددهما المحتوى ولا يمكن أن يتدخل "مزاج" قراء عصر ما في شكل الرواية وحجمها، ومثال "تولستوي" الذي ضربته- قبل قليل - يثير عندي الحديث حول نقطتين: الأولى أن تولستوي لم يكن يهمه أن تروج رواية "الحرب والسلام "- مثلا- بين الناس، فالمهم- عنده- أن هذا العمل العظيم قد ظهر إلى الوجود وأصبح حقيقة قائمة بذاتها وقابلة للاستمرار في الحياة، وقد تمر سنوات طوال على بعض الأعمال وهي غارقة في الإهمال، ثم تعود فجأة إلى الظهور ويتخاطفها الناس وكأنها بنت يومها، والسبب أنها لم تغادر يوما حالة الوجود، وظلت طاقة محبوسة كالمارد في القمقم.. حمل إمكان انطلاقها في ذاتها عاجلا أم آجلا ما دامت ذات قيمة عظيمة.

    أما النقطة الثانية فهي أن الأعمال العظيمة لا تخلو- دائما- من أشياء مملة.. ومن العبث أن تتوقع من كل عمل عظيم أن يكون عظيما في كل جملة من جمله وكل تفصيلة من دقائقه، إنه عظيم في وجوده الكلي فحسب، وفي هذا المجال أحب أن أذكر مقدمة شرح "البرقوقي" لديوان المتنبي، فقد رد هذا الناقد الكبير ردا جميلا على من قال إن في شعر المتنبي الكثير من الغث الرديء، رد البرقوقي على هؤلاء بقوله: "إن الغث في شعر المتنبي مثل دخان النار، إنه جزء من النار، ولولاه لما كانت النار.." .. وفي قوله هذا إيضاح كاف لهذه المسألة- كما أعتقد.

  • الجلسة إليك ممتعة، ولكم يتمنى المرء لو تطول، على رأي المتنبي الذي تساءل ذات يوم عن طريق كان يركبه:

    "أطويل طريقنا أم يطول؟!".

    لقد لاحظت - أيضا - أنك مشبوب العاطفة الشعرية، ومغرم بالشعر العربي حفظا ورواية، ولعلي أشكرك على أنك قلت "أطويل طريقنا أم يطول".. لأن الكثيرين يروونها: "أقصير طريقنا أم طويل؟".. وفي هذه الرواية الأخيرة قتل للصورة، وللحالة النفسية التي بلغ المتنبي بها مداها في الإبداع.

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الطيب الصالح





مروان ناصح





من مؤلفات الطيب الصالح