جوزف حرب وشعرية اللغة الموازية

جوزف حرب وشعرية اللغة الموازية

لو أردنا تتبّع شاعرية جوزف حرب، لاسيما منذ بداية تكثيفه الإصدارات الشعرية في العام 1986 وحتى اليوم، لاحتجنا أولا إلى معرفة قاموسه الخاص، لأن لغته هي المفتاح الأساسي، وأكاد أقول الوحيد، للعبور إلى عالمه الشعري. فجوزف حرب منذ ديوان «شجرة الأكاسيا» يجهد لتشكيل لغة خاصة به، يسعى إلى بلورتها متكئا على ذاكرة الطفولة وإلى أشياء الطبيعة التي تحرّك فيها وهو بعد طفل، وإلى تأملاته الماورائية التي جعلته ينظر إلى الأحداث بعين أخرى، ويستخدم، في أحيان كثيرة، معادلات صوفية - روحانية. بمعنى أنه مارس المكابدة في جمع الأضداد ليصل إلى ما يمكن وصفه بوحدة الوجود، عبر انخطافات تقع على تجلياتها في كل دواوينه اللاحقة، كل هذا على متن لغة شفافة لا يمكن أن يقال عنها إلا أنها لغة جوزف حرب الشعرية.

الشغل على اللغة ليس رياضة بلاغية وإنما هو دربة على التصفية والتشذيب والمقدرة على الإيماء، بحيث يكون المقال أقل بكثير من المراد قوله. فاللغة تنوء تحت ثقل المعنى فتعجز عن حمله كاملاً، لذلك هي تضطر إلى الاكتفاء بما هي قادرة، تاركة للمتلقي تصوّر المومي إليه. بهذا المعنى يحمل جوزف حرب اللغة أحمالاً مختلفة عما هو متداول، وحتمي عما هو متعارف أو متفاهم عليه. تماما كما كان نوفاليس يقول عندما اعتبر أن الشعرية تضمّد الجراح التي يتسبّب بها التفاهم العام والعقل السائد. لذلك، فإن تجريد قصائد جوزف حرب من لغته الخاصة هو مهمة مستحيلة. وما قاله غريماس عن ربط الشعرية باللغة واعتبارها موجودة فيها حتما، إنما يبدو وكأنه قيل في شعرية جوزف حرب.

فهناك شعراء غالبا ما تكون لغتهم تجميعاً لمفردات متداولة في قواميس أخرى، موجودة خارج ذواتهم. لذلك، فلا وجود للمومي إليه عندهم، لأن لغة قصائدهم تقول ما يقوله الجميع ولا تتفرد ببصمات جينية خاصة بهم. من هنا فإن شعريتهم - في حال وجودها - تنبع من خارج لغتهم - بعكس ما كان يقول غريماس - لأنهم يستوردون بضاعتهم اللغوية من الخارج.

جوزف حرب واثق من لغته، وتالياً من قصيدته، بأنها مميزة، متفردة، لا قبلها ولا بعدها، كما يقول عن شعره في قصيدة بالمحكية اللبنانية كما جاء فيها:

«محسود؟ بعرفْ
والجمال اللي فيا
لا انخلَقْ مثلو
ولا رح ينخلق
هيي القصيدي الكلْ ما حَبّْ الشعر
يلقي قصيدي
بيلْقيا،
وغيرا
ورقْ»

وفي قصائده الفصحى كذلك، الشعرية هي الهدف الأسمى الذي إليه يتطلع. فالقصيدة هي سماؤه المرتجاة: «وصاعدون/ بعد موتكم/ إلى سمائك/ بعد موتي/ صاعد/ إلى/ قصيدتي». والآخرون يلتقطون ما يرميه هو: «كلّ صباح، تحت الشباك ببيتي، يقف/ الشعراء ليلتقطوا ما أرميه من الشباك».

هذا الاحتفال الكبير بالقصيدة يتكرر أكثر من مرة في كل دواوين جوزف حرب، الذي يستعير أشياء الأرض وأدوات المزارعين وأنين المضطهدين ليجعل منها جميعاً أجزاء من اللغة الشعرية ونسغا يسري في جسد القصيدة. فهو يربط ربطاً وثيقاً بين الشاعر والفلاح مثلا. فكلما ذابت صورة بريشة الشعراء كما يقول: «أتذكّر الفلاّح وهو يخطّ/ بالمحراث في ورق التراب» فالتطابق الاستعاري بين الحداثة والخط والتراب والورق، شاهد على أن جوزف حرب يرى في الفلاحين شعراء لهم أدواتهم الخاصة.

«في كلّ بيت/ عندهم أقلام رمّان، ومكتبة تضم رفوفها كتب الجهات الأربع، التفصيل في علم الغيوم، دليل ماء الصيف، ديوان العتابا، سيرة الزيتون، أصل القمح، أوراق المعاصر./(...) أفضل الأقلام للتأليف عندهم المعاول، والمحاريث الرميحة، يكتبون بها سطوراً في التراب، كأنها لغة جميع حروفها عشرون حرفاً من بذار الأرض، عشرة أحرف من كل/ أنواع التمر/.

لغة لها ورق، كأن غمامة /قد بللتْ بالشمس، أوقد شُرِّبتْ/ ضوء القمر/ والنص فيها ليس يصبح أخضر المعنى، جميلاً، موحياً، إنْ لم يشارك في صياغته المطرْ/(...).

عروضيا، من الواضح أن جوزف حرب حريص على التوزيع النغمي، وفق موسيقاه الخاصة، وكذلك هو يحترم، أحياناً، نظام التقفية، حتى ولو كان الإخراج الطباعي للنص يوحي بأنه نثر.

ليس هذا فقط، بل إن «اللعبة» الشعرية الأثيرة عند جوزف حرب، كما يتجلى من كل دواوينه، إنما هي أسلوبية البناء على شيء هو غير معد أساساً للبناء عليه. بمعنى أنه يستعير من الصورة جزءا فيربطه بقطب مقابل لم يتعوّد العاديون من الشعراء ومن الناس اكتشافه، وبالتالي توظيفه في البناء الشعري، والأمثلة على هذا كثيرة، نكتفي بواحد منها حيث يقول:

«(...) ما الذي يفعله العصفور في القرميد؟ والمصباح في قنطرة الدير؟ وهذا العشب في خصر النوافير التي تذهب من مدرسة الماء إلى الريح كتلميذة غيم حملت شمسية في يوم عطلة».

معجم الطبيعة

معجم الطبيعة هنا سائد ليس فقط من خلال انتشاره الظاهر، وإنما أيضا وخصوصا من خلال العلائق الداخلية حيث إن لكل ما في الإنسان ما يعادله في الطبيعة. ثم إن البناء على وهم (أي على صورة ظاهرها محسوس وباطنها غير مألوف) واضح هنا. فالنوافير تذهب من مدرسة الماء إلى الريح. طبعاً ليس هناك مدرسة للماء، بالمعنى المألوف، لكن ربط المدرسة بالتلميذة يوحي بإقامة علاقة منطقية وقابلة للتصديق. مدرسة الماء وهم أول، وتلميذة الغيم وهم ثان. لكن وتمادياً في «اللعبة» الشعرية، يخلع جوزف حرب وظيفة إضافية توحي بالمصداقية فيجعل تلميذة الغيم المفترضة تحمل شمسية، ويحدّد لهاإطاراً زمنيا للتحرك هو يوم عطلة!

معادلة الإيهام ليست جديدة شعريا، فجبران خليل جبران، في مستهل قطعته «حفّار القبور» يستثمر الإيهام بمهارة شعرية بالغة، مع أن المقطوعة نثرية، وذلك حين يقول: «في وادي ظل الحياة، المرصوف بالعظام والجماجم، سرتُ وحيداً في ليلة حجب الضباب نجومها..».

إن عناصر معادلة الإيهام عند جبران، تماماً كما هي عند جوزف حرب، ثلاثة. أولها التأسيس على غير المألوف. فالحياة غير محسوسة ليكون لها ظل وبالتالي واد. وثانيها إدخال الإنسان على المعادلة إمعاناً في تسويق الوهم. وثالثها تحديد الإطار الزمني الذي يساعد على جعل الوهم يبدو وكأنه حقيقة واقعة.

لسنا هنا لنستنتج أن جوزف حرب متحدر من المدرسة الجبرانية، فالأمر يحتاج إلى دراسات أكثر تعمقا ليس الآن مجالها، وإنما نكتفي بالإشارة إلى احتمال انتهاء القصيدة التي تحمل اسم جوزف حرب لملامح من شجرة العائلة الجبرانية إن على مستوى اللغة لجهة إرغام العبارة القاموسية على قول ما لم تتعوّد قوله، أو لجهة الموضوعات التي تناولت الحياة وما وراء الحياة، واتخذت من اليومي العادي مادة لها، فهناك الفقراء والأغنياء، وهناك المزارعون والشعراء، وهناك المؤمنون والملحدون، وهناك الطبيعة وأشياؤها والسعي إلى «شخصنة» تلك العناصر الطبيعية، لأن توَلْول الريح عند جبران، ويهجم الليل، ويحمل الأثير أثقال النواح والعويل وينثر الفضاء الثلوج على الحقول والأودية ساتراً بأكفانه البيضاء أجسام الزنابق الهامدة. أما عند حرب فالأرض تكتب القصائد، والمساء يقدّم إلى الريح غيمة للعشاء، والشبابيك تنام، والبحر ينهد كالأبراج.

بالنسبة إلى مواضيع قصائد جوزف حرب فهي تدور حول «الأنا» وفق ثلاثة إيقاعات أو محاور. الأول هو «الأنا» الذاكرة، مع ما فيها من طفولة وحنين وتخيلات، وصولاً إلى كل التجارب المعيشة سابقا» حتى ما قبل كتابة النص.

والثاني هو «الأنا الصيرورة» وهو غالبا ما يكون مضمّخا بأسى شاعري شفيف لأنه يوصل إلى ما يشبه الانحلال فالموت. والغريب في محور الصيرورة هذا أن جوزف حرب لا يخاف على نفسه من التراب وإنما على قصائده، كما سنرى بعد قليل.

أما الثالث فهو «الأنا الطبيعية». فشاعرية جوزف حرب مغمّسة بكل ما هو طبيعة، لاسيما في الريف. الفاظة مستقاة من قاموس الطبيعة، صوره، معظم موضوعاته، فالطبيعة عنده تتحرك تكتب الشعر وتقاوم الظلم.

ضمن هذه المحاور الثلاثة يندرج معظم شعر جوزف حرب، بالفصحى أوبالمحكية، ذلك أن خبزه الشعري مأخوذ من معجن واحد ومن مادة مشتركة، وهو قادر على صوغها باللغة التي يريد.

مع التراث

وشاعرية جوزف حرب، رغم إيغالها في ما يمكن وصفه بالحداثة بحيث تبدو نصوصه أحياناً وكأنها نثر، لكنها تتضمن إيقاعاً داخلياً مدروساً يصل أحياناً إلى حد التثقيفية في آخر كل مقطع، كما رأينا سابقا، هي شاعرية مشبعة بالتراث الشعري العربي. فأنت تقع في مجموعات جوزف حرب على نصوص تخالها، لبعض الوقت إنها آتية من العصر العباسي المتين و من أدب المهجر المتحرك حياتيا. مثلا، وصفه للمتسوّل ذروة في المتانة الكلاسيكية الشعرية لاسيما حين يقول بعد تفشي الهزال في «المتسوّل».

(...) مضى شهران بعدهما بدأنا
نرى خيط الهواء ولا نراهُ
لدقّة جسمه إن قام يمشي
كأن لوحدها تمشي عصاه(...)

الإيقاع العروضي (مفاعيلن، مفاعلتن، فعولن) يبدو نافراً بعض الشيء في سياق المجموعة الكاملة التي قوامها النثر المشبع بصور مضيئة وبإيقاعات داخلية نابضة. ما يعني أن شاعرية جوزف حرب لا تتوقف أمام عوائق أو قوالب أو لغات. ذلك أنه هو الذي يهدر بها وهو قادر على توجيهها أنى شاء!

ونصوص جوزف حرب الشعرية متفاوتة الأطوال، فثمة نصوص من بضع عشرة كلمة وأخرى من عشرات الصفحات، لكن المفارقة التي يلمسها القارئ بسرعة تنبع من كون التكثيف الشعري واحداً في كل النصوص.

المثال على هذا نص مؤلف من 23 مفردة فقط لا غير، يكتنز بما يمكن اعتباره هواجس جوزف حرب الشعرية. والنص معبّر ليس فقط لجهة المضمون ولكن خصوصا لجهة الإخراج الطباعي والأسلوبية المعتمدة. والنص، كما هو منشور، جاء على الشكل التالي:

أرنو إلى كفّي، أفكّر كيف
تصبح بعدما أمضي ترابْ
وجهي
ترابْ،
قلبي
تراب،
وفمي
ترابْ،
يا ربّ نجّ قصائدي
بعد الغياب من التراب.

من اللافت أسلوبيا، أن هذاالنص يتوزع على 5 مقاطع ينتهي كل منها بلفظة «تراب» ما يعني سيطرة الهاجس القاتم على الشاعر. وإذا تطلعنا إلى السطر الأول لاحظنا النغمية الصوتية الواضحة المعالم من تلاقي مصوّتات (ك+ف+ي) بأشكال متبدلة. كذلك نلاحظ أن المقاطع الخمسة فيها خمس علامات وقف (4 فاصلة + نقطة انتهاء)، وفيها أيضا خمس كلمات تنتهي بياء المتكلم (كفي، وجهي، قلبي، فمي، قصائدي)، وفيها خمسة أفعال (أرنو - أفكّر - تصبحُ - أمضي - نجّ). هذا إضافة إلى عودة لفظة «تراب» خمس مرات، واحدة في نهاية كل من المقاطع الخمسة.

ومن البدهي، عروضيا، أن نكتشف توزيع تفعيلة «مستفعلن» بما خلق انطباعاً بأن المقطع عمودي الإيقاع في حين أنه في الواقع قد شهد توزيعاً عروضيا وفق ما ارتآه جوزف حرب.

المحترف

هذه الشاعرية المشغولة بكدّ خفي،تبدو وكأنها عفوية في بعض الأحيان. وفي هذا سرّ من أسرار نجاحها الكبير، فالقارئ العادي يقرأ فيها فيعيش أجواءها وتأخذه إلى تأملات واكتشاف جمالية الإبداع. أما القارئ الخبير فيجد وراء كل هذه الشاعرية سهراً من الشاعر لاختيار الكلمات والصور والإيقاعات.. وهو اختيار محترف لأنه يبدو وكأنه سهل، إنه الممتنع بالتأكيد!

وإذا ما انتقلنا إلى النصوص الأكثر طولاً، قد يكون من المناسب مقاربة قصيدة للشاعر جوزف حرب مكتوبة باللغة المحكية. فنصف شعر جوزف حرب، على الأقل، هو بالمحكية. هذا ناهيك بالأغاني الكثيرة التي جعلت المحكية الراقية تصل إلى ملايين الناس، والتي حملت توقيع شاعرية جوزف حرب وليس اسمه فقط.

والقصيدة هي «مواج»، علماً أنه ليس هناك في النص أي ذكر للموجة أو للأمواج، كذلك ليس هناك قرينة مباشرة تؤشر إلى ذلك. غير أن حالة التردد التي عاشتها العاشقة، وتبدلات الأقدام والإحجام، والقسوة واللين، الرحمة والغضب.. هي التي أوحت بالعنوان الذي استخدمه جوزف حرب هنا بالمعنى الأبعد وفق مبدأ الـ Connotation الذي يتحدث عنه علم الدلالة. وهذا نص القصيدة.

مْوَاجْ
ساعَة، بْفَكّرْ كيف بدّي زَعْلك بعد الغياب،
وإقهرك.
ساعه، م بعمل غير إتوهّم بإنو بعد رح ترجع،
وبِقْعُدْ إنطرَكْ.
ساعه، عَ مَهْلا دمعتي عندالمسا بتنزلْ
إذا بتْذكَّركْ.
يا
ريْتَك
الشَّمعه،
كِنت بِطَيفكْ.
يا ريْت فيّي دوبك، حتى م إقدر إرجع
وضويك.
لأ،
ياريت في بالقلب محايي كنت
بمحيْكْ.
لكن إذا مجيتك شو بعمل لو
أنا حسَّيْت إني بجنّ يما بنتهي، لو م قدرت فكر بعد
فيك؟
يا ريتْ فيّي، غير بيتي،
كِلّْ مَطْرَحْ بالدني نسّيكْ.
هَلَّقْ بحبَّكْ،
بَسْ مَعْ حِزني مَ فيّي إشتهيك.

ثمة ثلاثة محاور أساسية في النص، بعضها ينقسم إلى محاور داخلية. لكن هوية واحدة تشدّ هذه المحاور تجعل النص رغم تعدّد محاوره متماسكا بتركيبته وبالرؤيا التي تلفّه، وبالمقارنة التي تجعله قصيدة. والتماسك، كما يقول النقد الأسلوبي الحديث، مرتبط بتأويل اللغة المستخدمة، وبتوافر أربعة عناصر هي التواتر، التنامي ووحدة التوجّه الضمني ووجود علاقة بين العناصر ولكنها متوافرة في نص «مواج».

المحور الأول يشمل المقاطع الثلاثة الأولى التي يبدأ كل منها بقرنية الزمن (ساعة)، وهي هنا ليست لتحديد الوقت (ستون دقيقة) وإنما لإبراز الحيرة والتردّد. أما قافية المحور فواحدة، وهي «ك» المخاطب. وهناك داخل المقاطع الثلاثة، تدرّج نحو الهزيمة والانكسار، فالأول تصميم على القهر، والثاني تراجع صوب الانتظار، والثالث انحدار صوب البكاء.

ويبدأ المحور الثاني في حركة عكسية متدرّجة صوب التصعيد، وهو محور يتضمن خمسة مقاطع تتأسس جميعا على لفظة واحدة هي «ياريت» (ليت)، وتشترك مع المحور الأول في القافية القائمة على «ك» المخاطب، رغم اختلاف المروي. التدرج هنا إلى التصعيد يقابل تدرج المحور الأول إلى الانحدار.

فمن تمنى الإطفاء (الأول) إلى تمني التذويب (الثاني) إلى تمني المحور (الثالث)، ثم تأتي أداة الربط التي تفيد التعارض والتحول لتفتح صفحة صوب الدقة المرتدية ثوب القسوة، وبعده تمني إنساءه كل المطارح إلتي بيتها (والرابع) وتتوجها بتمني تعذيبه على الجمر (الخامس) لكن أداة التعارض تعدد من جديد لتفضح رقتها المخبأة.

بعدها يأتي المحور الثالث، وهو مثل الثاني، مؤلف من خمسة مقاطع موحدة القافية. اللافت في هذا المحور كثافة الجمل المستقلة التي تكتفي بوصف الحالة، والجمل الاسمية. كذلك من اللافت وجود خمس جمل في المقاطع الخمسة تنتهي بنقطة داخل السطر الشعري، مما يوحي بأن المشاعر محسومة ومحدّدة، وإن الإحساس بالمرارة اتخذ شكلاً نهائياً مكرّساً. وهنا أيضا تكتمل حركة الموج من خلال استخدام شاعري لمعجم الوقت.

فالقصيدة تبدأ بلفظة ساعة، وتنتهي بلفظة دقيقة: تركيزالزمن من الحيرة الأولى إلى العذاب المستمر. وهناك في النص عشر مفردات واضحة من معجم الزمن: ساعة (3) + أيام (1) + عمر(1) + سني (1) + وقت (3) + دقيقة (1). ولأن النص مؤلف من 157 كلمة، فهذا يعطي إشارة إلى الوقت كل 16 كلمة تقريبا.

أما المقطع الأخير الذي تضمن 20 كلمة فقط، ففيه 5 مفردات واضحة عن الزمن، أي هناك إشارة إلى الوقت كل 4 كلمات. يعني وتيرة الإحساس بثقل وقت الفراق أعلى من النص كله بنسبة 400%، ما يعني الإحساس المتزايد بوطأة الوقت على العاشق.

محكيته شاعرية مدروسة

من كل هذا نتبين أن شاعرية جوزف حرب، بالمحكية مثلها مثل الفصحى، هي شاعرية مدروسة بالمعنى الإبداعي، وهي شاعرية مشغولة بالتأكيد وإن بدت غيرذلك، فاللغة الشعرية، بمدلولها الواسع الذي يشمل الصور والإيقاع الداخلي وطريقة تنامي النص، إنما هي لغة خاصة بجوزف حرب، خاصة لأنها وإن توكأت على اللغة المشتركة، فإنها بعلائقها الداخلية تشكل لغة موازية لها. بتعبير آخر هي تستخدم المفردات المتداولة ولكنها تربطها ببعضها عبر روابط وعلائق غير متداولة. من هنا فرادتها ومقدرتها على التمايز واكتساب صفة الشاعرية، كما تقول الدراسات الأسلوبية.

من كل ما تقدم يتبيّن لنا أن جوزف حرب بموضوعاته (الإنسان = الأنا والآخر، الطبيعة، الموت، الطفولة، الشعر، الوحدة... إلخ)، وبأدواته جميعا، إنما هو شاعر ذو هوية خاصة وبصمة مميّزة، لا يمكن إلا أن يترك أثراً عميقاً في بنية الشعر العربي وفي بنيانه على حد سواء. حسبه أن يفعل هذا، فيكون «أشعر العرب»، أو أشعر «الإنس والجن»، أو «أشعر أهل عصره»!.

 

 

جورج طراد