الجواهري وسعد صالح: صديقان وثالثهما الشعر!

الجواهري وسعد صالح: صديقان وثالثهما الشعر!

كان يمكن أن أستبدل كلمة «صديقان» الواردة في عنوان المقالة هذه، لأضع بدلها «كتابان.. وثالثهما الشعر»، إشارة إلى كتابي عن «الجواهري - جدل الشعر والحياة» وكتابي عن «سعد صالح - الضوء والظل - الوسطية والفرصة الضائعة».

وقبل أن أتناول أركان الصداقة بين الجواهري وسعد صالح، أود أن أشير إلى أن الجواهري في حواراته المطوّلة معي، المنشور قسم منها في كتابي، والقسم غير المنشور والذي أعدّه للطبع، إضافة إلى مذكراته بجزئيها المنشورة في حياته، يأتي على ذكر سعد صالح في عدد من المرات ليقول بتأس: «لقد رحل وهو في عنفوان عطائه، وتفتق مواهبه وكفاءاته، لا أدري إذا كان قد رأى بعض الحقائق مثلنا! لكنني دائماً أتساءل مع نفسي، من أين أتت هذه النزعة الوسطية في مجتمع متناقض ومحتدم ومتعصب وحاد الاستقطاب».

ويرى الجواهري ومثله كثيرون «أن ساحة السياسة والإدارة حين كسبت سعد صالح، فإن ساحة الثقافة والأدب خسرته شاعراً مبدعاً، ومثقفاً بارزاً، وتعكس لغته الجميلة ومقالاته وخطبه ونثره نموذجاً متقدماً في حينه.

يقول الدبلوماسي والمؤرخ العراقي نجدت فتحي صفوت، في تقييمه لسعد صالح: «إن بغداد شهدت - «أي فترة الأربعينيات» - مولد شيء جديد هو الأدب السياسي، وكان سعد صالح الأديب الموهوب، والكاتب الملهم، قد عاد بعد استقالته «استقالة وزارة توفيق السويدي التي كان فيها وزيراً للداخلية» إلى جريدة الأحرار معارضاً يكتب افتتاحياتها بعقل السياسي الناضج، وقلم الشاعر الناقد، الذي أخذ البلاغة من جميع جوانبها، فكانت مقالاته حديث النوادي الأدبية قبل المجالس السياسية. ويضيف صفوت أن سعد صالح اتصف في جميع مراحل حياته بالنزاهة والاستقامة، وكان خطيباً برلمانياً جريئاً ومعارضاً حرّ الرأي، صُلب العقيدة، ثابت المبدأ، لم يتوان عن دعوته إلى الإصلاح، وكان إضافة إلى خبرته الإدارية وحنكته السياسية، أديباً ضليعاً وشاعراً مطبوعاً، خصب القريحة، ولو لم تستأثر الإدارة والسياسة بمعظم وقته لكان له في عالم الأدب شأن كبير.

ويعتبر المؤرخ اللبناني حسن الأمين «الحياة 18 / 2 / 1992»: أن الأربعينيات هي التي أطلقت بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وعاتكة الخزرجي ولميعة عباس عمارة وبلند الحيدري رواد الشعر، إلا أنه لم يول تأريخ تلك الفترة أية عناية، وكان الأبرز في ذلك، كسياسي بدأ نجمه يسطع شعبياً ونيابياً، باعتباره رجل مبادئ وقيم وذا كفاءة قيادية وفكرية، مضافاً إلى ذلك أنه شاعر مجيد، وكاتب متفوق، وخطيب، إنه سعد صالح.

أركان الصداقة

صداقة الجواهري وسعد صالح أركانها عشرة:

الركن الأول: ولادتهما ونشأتهما في عمر متقارب في النجف، المنبع الأول، حيث التمرّد الأول، والمشاكسة والتطلع للتجديد والتغيير ورفض الواقع السياسي والاجتماعي.

الركن الثاني: دراستهما في الحوزة العلمية، لاسيما في منهجها التمهيدي المعروف باسم «المقدمات»، وبخاصة في دراسة الفقه والعلوم الدينية واللغة والعروض.

الركن الثالث: شجاعتهما، فقد عرف سعد صالح ثائراً وكان له دور مهم في ثورة العشرين، لاسيما بنقل الرسائل بين معقل الثورة وقيادتها في النجف والفرات الأوسط وبين بغداد، واتصاله بمحمد جعفر أبو التمن ومحمد الصدر، كما كان الجواهري يومها قد عرف طريقه إلى المشاركة في الثورة، وكتابة أولى قصائده تمجيداً لها، ومثلما عُرف سعد صالح خطيباً، غير هيّاب، كان الجواهري يعتلي المنابر ليقرّع الحكام وينزل الحمم على رءوسهم، يتحدّاهم، غير عابئ بما ترتبه هذه المواجهة، وكان سعد صالح يندد بالظلم والفساد وسوء الحكم من خلال قبّة البرلمان، الأمر الذي قال عنه كامل الجادرجي زعيم التيار الوطني الليبرالي «لم أشعر قط بأني قد اتقت مع أي سياسي من حزب آخر، اتفاقي وسعد صالح في أيامه الأخيرة».

الركن الرابع: انغمارهما في الأدب، كونهما شاعرين مجيدين، الجواهري اعتلى منصة الشعر وجلس على مقاعده الذهبية تاركاً ما سواه فناً ومزاجاً وفضاءً، وسعد صالح ظل الشعر رفيقه وصديقه، بالرغم من انغماره في عمله الوظيفي، ولعل رثاءه لنفسه كان آخر لقاء بينه وبين الشعر في قصيدة الأشباح، فكأنه أراد أن يودّع الحياة بالشعر وكان كلاهما غير هيّاب بالموت، الشبح الذي ظل يترصدهما، فالجواهري منذ الثلاثينيات اعتبر الموت كالذئب الذي يريد أن يفترسه وظل يطارده من مكان إلى آخر، في حين تمكن الموت سريعاً من سعد صالح، لكن كليهما واجها حياتهما مثلما واجها حتفهما بشجاعة، والجواهري ساوى بين الحياة والموت حين قال:

وأركب الهول في ريعان مأمنةٍ
حبّ الحياة بحبّ الموت يُغريني

إذاً هو لم يحاول الزوغان من ذلك الذئب وكانت تتساوى عنده الحياة والموت، لاسيما لأنه يريد العيش في عز، وكما يقول الشاعر:

لا تسقني كأس الحياة بذلةٍ
بل فاسقني بالعزّ كأس الحنظل

أما سعد صالح فيخاطب الموت فيقول:

وأنا وأنت مهاجمٌ ومدافعُ
أنا ما اندحرتُ ولا فررتَ أمامي
أتخافُ من طعم الردى فتعافه
لا تخشَ فهو ألدّ كل طعام

الركن الخامس، بالرغم من أن الجواهري وسعد صالح عاشا في بيئة منغلقة، فإنهما كانا تقدميّين في نظرتهما للحياة ويتطلعان للتجديد والتغيير، بل يطربان لكل تطور، وهكذا كانا يميّزان في نظرتهما الإيجابية إلى المرأة ودورها وحقوقها، فضلاً عن مواقفهما من القضايا الاجتماعية، لاسيما تأسيس مدرسة البنات في النجف العام 1929، وكانا ثورة على العادات والتقاليد السياسية والمتخلفة.

الركن السادس: اصطدما مع المؤسسة الدينية التقليدية ونبذا الطائفية والتزمّت، وبالرغم من حب النجفيين والعراقيين عموماً لهما، فإنهما لقيا توجساً من المؤسسة الدينية الثيوقراطية، لاسيما مطالبتهما بالتحرر وتوعية المرأة ومساواتها، وفي الوقت الذي كان فيه الجواهري راديكالياً، كان سعد صالح أميل إلى الوسطية والاعتدال مع تمسكه الشديد بحقوق المرأة، وكان قد بدأ مع أهل بيته في الدعوة إلى السفور، كما تذكر ذلك كريمتاه الأستاذتان سلمى ونوار، وهو ما يؤكده، نجله المحامي لؤي سعد صالح.

الركن السابع، ميلهما إلى العدالة الاجتماعية، وإذا كان الجواهري أقرب إلى اليسار وغنّاه ومجّده بقصائده، فإن سعد صالح ساهم في تدعيمه عملياً بإجازة أحزاب يسارية، لاسيما حزب الشعب برئاسة عزيز شريف وحزب الاتحاد الوطني برئاسة عبدالفتاح إبراهيم، إضافة إلى أحزاب وطنية وقومية مثل الحزب الوطني الديمقراطي برئاسة الجادرجي وحزب الاستقلال برئاسة محمد مهدي كبة، أما حزب الأحرار فقد أصبح سعد صالح رئيسه بعد استقالة الوزارة العام 1946، وهو الحزب الذي خرج من معطف الحكومة ليرتدي زي المعارضة الوطنية.

الركن الثامن، التحدّي كان جامعاً لهما، وحتى عندما كان سعد صالح في الوزارة أو نائباً أو محافظاً، فقد كان يطرب لقصيدة الجواهري ذات الرنين العالمي والتحدي الكبير، ومَن يدري ما كان يخفيه عن أنظار السلطة، فقد يكون مشجعاً له، لاسيما وهو يحرّك في نفس سعد صالح إيقاع المواجهة والتحدي، الذي كان يستجيب له، وهو الأمر الذي قيّمه الجواهري على نحو عال.

الركن التاسع، هو انغمارهما في العمل الصحافي، فقد كانت المقالات التي يكتبها سعد صالح في افتتاحيات حزب الأحزاب أو لجريدة الزمان أو لغيرهما مؤثرة، وهي حديث المجالس الأدبية والثقافية، كما جرت الإشارة إلى اقتباس من المؤرخ حسن الأمين الدبلوماسي والكاتب، ونجدت فتحي صفوت، وهو ما يوثّقه أيضاً المؤرخ والباحث مير بصري وغيرهم، كما كانت مقالات الجواهري ودور جريدة الرأي العام مؤثرة جداً في الحياة السياسية والثقافية العراقية.

الركن العاشر، حبّهما للذائذ الحياة ومتعها وللسفر وللاطلاع، وباختصار، فقد كانا «الجواهري وسعد صالح» وإن سعيا للخلود، لكنهما لم يكونا يريدان أن تفلت لحظة من بين أيديهما، وأرادا أن يغرفا من الحياة ما استطاعا ولكن بإباء وكبرياء.

تناقضات الأصدقاء

أما تناقضهما فيعود إلى أن سعد صالح سلك طريق الوظيفة في حين اعتلى الجواهري سلّم الشعر، ربما يعود الأمر أيضاً إلى أن سعد صالح تخرّج في كلية الحقوق، وكانت الوظائف آنذاك تساعد على إحداث التغيير، في حين اتجه الجواهري للجمهور، فقرّع الحكام وتنابز معهم، واختار الشعر طريقاً للحياة وربما للتغيير، لاسيما بعد تجربته المريرة مع ساطع الحصري عندما تم تعيينه، ثم فصله من وظيفته التعليمية، وكذلك شعوره وهو في البلاط الملكي 1927-1930 بالضيق ورغبته في الإمساك بجناح الحرية، لاسيما أنه كان قد اتجه لنشر قصائد غزل مكشوف، كانت سبباً في إحراج الملك فيصل الأول، ولعل قصيدة «جربيني» التي ذاع صيتها كان قد نشرها العام 1929.

كان الجواهري راديكالياً جذرياً، وقد رافق عبدالفتاح إبراهيم في تأسيس حزب الاتحاد الوطني العام 1946، والحزب الجمهوري عام 1960، ومنظمة أنصار السلام في بداية الخمسينيات، وحركة الدفاع عن الشعب العراقي بعد انقلاب 8 فبراير 1963، أي أنه كان أقرب إلى الوسط اليساري بالرغم من أنه وضع مسافة بينه وبين اليسار، وكانت كلمته كالسيف، وموقفه يثير مواقف الآلاف، وهو ما عبّر عنه فهد زعيم الشيوعيين بالقول: هاتوا انتفاضة يغرّد لها الجواهري.

أما سعد صالح فقد انضم مع توفيق السويدي إلى حزب الأحرار الذي قيل إن نوري السعيد شجع على تأسيسه، وأصبح السويدي رئيساً له وسعد صالح نائباً للرئيس وبعد استقالة أو إقالة السويدي أصبح سعد صالح رئيساً للحزب، الذي أعطاه نكهة وطنية مستقلة، فاستدار به من موقع السلطة إلى موقع المعارضة، لكنه ظلّ متوازناً ومعتدلاً في أطروحاته بالرغم من نقده الشديد للسلطة، لاسيما لقمع الحريات، ولم يتردد من النقد الشديد لنوري السعيد وأتباعه.

هناك ثلاثة أصدقاً يتفقون ويختلفون، وإذا كانت جوانب الاتفاق والاختلاف بين شخصين كالجواهري وسعد صالح قد تحدّثنا عنها، فالصديق الثالث كان المشترك بينهما، وكان ولاؤهما له بحكم شيطانه الذي يحلق فوق الرءوس وملكوته الذي يسلب الألباب، إنه الشعر الجامع، والصديق الصدوق لمبدعين كبيرين، حيث كان الشعر صديقهما الثالث الذي استطاع أن يجمع بينهما، في حين أنهما افترقا في المسار والمصير، على أن أحدهما لم يتخلّ عن الآخر ولا عن الموقف المشرّف تجاه الآخر في كل المواقف والظروف. وسبق وأن أثرت ما ذكره لي الشاعر الجواهري في حوار نشرته في كتابي عن صداقته مع سعد صالح.

كان اعتماد الجواهري على سعد صالح كبيراً، إذ إنه يذكر أن الجو السياسي كان مملوءاً بالنفاق والتزلف والخضوع لأصحاب المراتب العليا، وهي أجواء لم يألفها سعد صالح، بل كان يستاء منها، وعندما ألف قصيدته «طرطرا» للاستهزاء والتهكّم من الساسة الملفّقين، استثمر وجود صديقه سعد صالح كما يقول لنشر القصيدة، التي أصبحت لها شهرة كبيرة.

ولو عدنا إلى القصيدة على ما فيها من استهزاء، فقد استثمرها الوصي على العرش لتهديد بعض السياسيين، لاسيما وهو لم يحرّك ساكناً واستغل القضية للمناورة ضد خصومه، وذلك لتوافقها مع ما تحمله من ازدراء واستخفاف ببعضهم، فكان يهددهم بها بالقول: «أتسكتون أم ترغبون في طرطرا»؟ بتهديدهم بكشف أوراقهم.

وكان الجواهري هو الآخر حريصاً على الحفاظ على صاحبه، ويذكر الجواهري أنه عندما ألقى قصيدة « القسم» في ذكرى أربعين جعفر أبو التمن بحضور نوري السعيد رئيس الحكومة فيما بعد، أثارت تلك القصيدة ضجة كبرى على الشاعر، خصوصاً وأن رئيس الوزراء اعتبرها موجهة ضده فترك الاحتفال، فما كان من «صديقي سعد صالح إلا أن عرض علي أن أذهب معه إلى بيته للاستراحة أو القيلولة إدراكاً منه للعواقب المحتملة جراء غضب الحكام ونقمتهم بسبب القصيدة»، ويقول: وبالفعل ذهبت معه فافترش لي فراشاً نظيفاً في صالون الزوار، لكني لم أتمكن من النوم فانتفضت مرتدياً ملابسي وغادرت بيته إلى بيتي الواقع في محلة الجعيفر في الكرخ أيضاً، فقلق علي الرجل وهاتفني مستفسراً ومطمئناً، فقلت له: يا أبا لؤي أنا مغامر طيلة حياتي وأتوقع كل شيء، وإذا اختفيت عندك اليوم أو عند غيرك غداً فماذا سيكون بعد غد؟

يقول الجواهري في رثاء أبو التمن:

قسماً بيومك والفرات الجاري
والثورة الحمراء والثوار

إلى أن يقول مندداً بـ«الدولة» العراقية

خمسٌ وعشرون انقضت وكأنها
بشخوصها خبرٌ من الأخبار
ضقنا بها ضيق السجين بقيده
من فرط ما حملت من الأوزار

ولعل الاثنين الجواهري وسعد صالح وصلا إلى حد اليأس من إمكان التغيير في العراق، وإذا كان سعد صالح قد اختتم حياته وودّع أحباءه بقصيدة الأشباح التي يؤكد من خلالها على النظرة التشاؤمية إلى المستقبل، فإن محمد مهدي الجواهري وصل إلى المستوى نفسه من اليأس في تلك الأيام حتى أنه قال فيها:

ولم يبق معنى للمناصب عندنا
سوى أنها ملك القريب المصاهر
وكانت طباع للعشائر ترتجى
فقد لوّثت حتى طباع العشائر

وأكاد اليوم، حين أذكر هذا الترابط بين الطرفين أشعر وكأنها الصداقة الصحيحة والحقيقية التي تبدأ بالاحترام بين الفريقين، فإنْ فصلت بينهما دروب السياسة، فإن وحدة المشاعر بقيت القوة الجامعة لهما حتى اليوم بالرغم من الممات، ولعل نبع الشعر كان ملاذاً لكل منهما ينهل منه ما يريد!

 

 عبدالحسين شعبان 






الجواهري





سعد صالح