لعبة «السيف والترس» لغة جسد متمرس وعقل متوقد

لعبة «السيف والترس» لغة جسد متمرس وعقل متوقد

تختلف النظرة إلى موروثنا الشعبي من «الحنين إلى أيام زمان» مروراً بعلاقة الثقافة الشعبية بالذاكرة الجماعية، وصولاً إلى المدارس الفكرية الحديثة التي تدرس وتحلل وتقدم لنا الفولكلور أو «الفولك أرت» كفن يزاوله الناس ويبدعون فيه، ويتطور معهم كجزء حي من أساليب حياتهم المعبّرة عن أحوالهم.

يعني الفولكلور جمع عادات الشعب وحكمه ومعارفه، وهو مصطلح ابتدعه عام 1846 العالم والباحث الإنجليزي يوليم جون توماس (1803 - 1855)، ليدل على دراسة العادات المأثورة والآثار الشعبية القديمة والمعتقدات، والتي تشمل كل ما تعلمته الشعوب وما اكتسبته من خبرات ذاتية توارثتها الأجيال، وهي بذلك لا تشمل دراسة التاريخ ولا الأديان. ويطلق التعبير على جميع أنواع الفنون الشعبية سواء المادية منها أو الشفهية من موسيقى وأغانٍ وأدب. ويقابل هذا المصطلح تعبير «علم المأثور الشعبي» عند بعض الباحثين العرب. وقد جعل لها المجمع اللغوي العربي مرادفاً هو «الفن الشعبي». ويعتبر الفن الشعبي مظهراً من مظاهر ثقافة المجتمعات كما أنه يعدّ بمنزلة لغة تمتلك الدور الأساسي والحتمي في بناء الحضارة، من خلال تزاوج الحركة والخط والشكل والمسطح اللوني، وإيحاءات الكلمات المصاغة في حكايات وأمثال وأشعار وأغان وألحان، ومعتقدات وتقاليد، وهي في حقيقتها نسيج واحد وبناء متكامل المكونات تجمعه وحدة عضوية واحدة هي الإنسان في مختلف قدراته المؤتلفة من فكر وحس ووجدان.

ألعاب الفروسية

وتعتبر ألعاب القوة والفروسية من الألعاب الشعبية في المشرق العربي والتي تروج عادة بين الشباب الذين بلغوا سن الرجولة وهدفها إظهار القوة العضلية والجسدية للاعب من منطق الأخوّة والمودّة والتسلية لا من مبدأ التحدي وتسجيل أهداف، ومنها المكاسرة وسباق الخيل والمباطحة.

اخترنا التعريف بلعبة «السيف والترس» وهي من أهم ألعاب الفروسية التي تدل على الجرأة والرجولة وميزتها أنها توائم بين لغة الجسد المتمرس والعقل المتوقد، وهذه اللعبة بالذات تحتاج إلى جسم مرن يقدر صاحبه على الإتيان بحركات معينة تتسم بالخفة والرشاقة والانسيابية وسرعة التنقل. وقد كانت تنظم في مناسبات عامة كالأعراس، وعودة الحجاج من الديار المقدسة سالمين، وأمام مسيرات العراضات في عيد المولد النبوي الشريف وغيرها من الأعياد الدينية والوطنية.

وفق أقوال بعض المؤرخين وصلتنا هذه اللعبة من اليونان وعبر الجيوش الغازية، وكانت رائجة في الحروب ولغايات التحشيد والتحميس. ويبدو أنها نظمت منذ أيام الإمام علي بن أبي طالب - كرّم الله وجهه - والدليل على ذلك أن اللاعبين ولغاية اليوم متى أمسكوا بالسيف والترس قرأوا الفاتحة قائلين «لوجه سيدنا علي» باعتباره عهداً بينهم يلتزمون به بـ «التعليم» بين بعضهم بعضا دون الوصول إلى حدّ الإيذاء الجسدي. وفي عهد المماليك، تطورت أصول اللعبة، كما بات لاعبو السيف والترس في عهد العثمانيين من ضمن الفرق النظامية، وكان يعهد إليهم بمهمة «تحميس الجنود» قبل المباشرة بالمعارك.

لعبة الحكم

تبدأ التدريبات منذ الطفولة أو مرحلة الشباب بلعبة «الحكم»، حيث يستعاض عن السيف بقضيب من سنديان، أي الخيزرانة، ويبلغ طوله حوالي متر وعشرين سنتيمترا يحملها الفتى بيمينه، ويمسك بيساره بـ«الشميلة» وهي ترس من جلد الماعز محشو باللباد حتى يصبح صلباً بدلاً من الترس وله من باطنه ممسك ليحمله اللاعب بيده. وتعرف اللعبة بـ «الحكم» وتكون بإشراف مدربين يسمى واحدهم «شيخ اللعب».

تتشكل لعبة الحكم بوقوف لاعبين مقابل بعضهما، مسافة ثلاثة أو أربعة أمتار، ثم يتقدمان ويتصافحان ويقبل كل منهما أنامل الآخر، ورأسهما إلى بعضهما، ثم يفترقان إلى تلك المسافة. وقبل المبارزة بعشر دقائق ينفرد كل منهما باللعب بخيزرانته وضرب شملته بيده اليسرى. ثم تبتدئ المباراة فيتقدم كل منهما من خصمه خطوة بحيث تتلامس الخيزرانات ثم يعودان إلى مكانهما مع ضرب كل واحد لشملته بيده اليسرى دليل الاستعداد للعب. ويمد أحدهما اليد حاملة الشملة إلى خصمه فيقدم هذا رجله اليمنى ويضرب ثلاث ضربات مختلفة على الحكم، حيث يتوجه يمنة ويسرى، ويعود برجله إلى الوراء، ثم يباشر زميله عمله نفسه عدة مرات، ثم يتبادلان الضرب بالخيزرانة والخصم يضع شملته ليرد الضربات على الرأس والخاصرة اليمنى، ثم اليسرى حتى يشتد الوطيس. عندها يتدخل شيخ الحلقة ليفصل بينهما بعد أن يتلاحما بالأجسام ويبعدهما ثانية ليتوسط بينهما لاعب ثالث يتقدمهم بالتدريب واللعب وهو يحمل بيديه خيزرانتين يجيد اللعب بهما، وينهال بهما على خصميه. فيضرب ذات اليمين وذات اليسار واللاعبان يصدان بحكميهما، ويزداد تسارع الضربات، ثم يستخدم اللاعبان خيزرانتيهما بالهجوم ويشتد الحماس واللعب وتشجيع المتفرجين، وفي أوج اللعب يتدخل شيخ الحلقة ثانية لينهي المبارزة. ومن تقاليد لعب الحكم عندما يبرز اللاعبان يحملان خيزرانتيهما يتقدم كل منهما من الشيخ الذي يسلمهما الحكمات ليقبل كل منهما حكمه وعندها يقول الجميع «اللهم ارض عن سيدنا علي».

ضربة القلم

يقضي نظام لعبة «السيف والترس» أن يتبارى لاعبان أو أربعة مزودين بالسيوف والتروس اللازمة ومن أصول اللعبة اعتماد سبع ضربات في معرض الهجوم أو لدى الدفاع عن النفس، وهي ضربة الشق عندما يوجه أحد اللاعبين ضربة على رأس خصمه، وعندها يرفع الآخر السيف والترس بموازاة رأسه كي يتلقى الضربة. وضربة القلم وهي محاولة أحد اللاعبين ضرب الخصم قرب الأذن، فيضطر عندها الآخر إلى حماية أذنه شابكاً السيف والترس لهذه الغاية بمحاذاة وجهه. أما ضربة الجانب، فتتم لدى محاولة اللاعب ضرب خصمه في جنبه، فيباد الآخر بحماية جانبه بالسيف مشبوكاً مع الترس. وضربة التنهيد ويحاول اللاعب ضرب خصمه على الصدر، فيتلقاها الآخر بحركات موازية لحماية نفسه بالسيف والترس. أما ضربة البراني فيحاول من خلالها اللاعب الالتفاف على خصمه، فيتصدى له الأخير بحركات معينة يتشابك فيها السيف والترس خلف الإبط طلباً للحماية. وعلى المنوال نفسه، ضربة الخاصرة حيث يتشابك السيف والترس خلف الخاصرة، وضربة الخلخال، وهي محاولة توجيه الضربة على القدم، ولتلافيها يلجأ اللاعب الآخر إلى شبك السيف والترس في حركة دفاعية.

ويُعزى إلى علي طالب شيخ السيافة في مدينة صيدا في جنوب لبنان في النصف الأول من القرن العشرين أنه ابتكر ضربة جديدة هي ضربة المسمار. وذلك حينما يستعرض اللاعب ويقوم بحركات رشيقة أشبه ما تكون بالرقص، أي يطوي قدمه اليسرى نحو الخلف ويقف على قدم واحدة. وعندما يحاول الخصم تصويب السيف إليه، على كعب القدم تحديداً، يسارع إلى حماية قدمه بشبك السيف والترس بخفة وإتقان وهذه الضربة بالذات تعتبر من أصعب الضربات المعتمدة في اللعبة.

ضربات سبع مشفوعة بضربة صيداوية المنشأ تختصر مبادئ هذه اللعب الشعبية التي لطالما ترددت أصداؤها في حاراتنا الشعبية وأزقة حواضرنا العربية، شاهداً على حسّ الفروسية والنبل والشعور بالفوز النبيل في «معارك» رفاقية ووفاقية تحمّس الجمهور وترصّع معالم اجتماعه الثقافي في غير بيئة عربية مشرقية.

 

 

هدى طالب سراج






الراقص الأول إلى اليمين مع سيفه وترسه في مدينة صيدا في لبنان في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي