أثر الفن الإسلامي على التصوير في عصر النهضة

أثر الفن الإسلامي على التصوير في عصر النهضة

وقفت الفنون الأوربية منذ العصور الوسطى حتى العصر الحديث من الفن الإسلامي على الرغم من انتقالها من مدرسة إلى أخرى، عند حدود السطح، فلم تأخذ منه إلا المعالم الشكلية الظاهرة فحسب، ولم تستوعب منه إلا مجرد القشور، ولم تقدر على سبر أغواره والغوص إلى أعماقه، ولم تستوعب آفاقه وأبعاده، ولم تكتشف جوهره وحقيقته، ولم تتفهم مضمونه وفلسفته.

وعلى الرغم من المنزلة التي يحتلها الفن الإسلامي، فإن العناية به - توثيقاً ودرساً وتحليلاً - لم تكن بالقدر الذي يكشف عن منزلته تلك، فثمة بعض جوانب هذا الفن - أثر الفن الإسلامي على التصوير في عصر النهضة - بعيدة عن مجال الدرس والتحليل، ولم تلق الاهتمام الكافي لتوضيح تأثيراته على الفنون الأوربية.

ويجيء هذا الكتاب: أثر الفن الإسلامي على التصوير في عصر النهضة، للباحثة «إيناس حسني»، والواقع في 264 صفحة من القطع الكبير، الصادر عن «دار الجيل للنشر والطباعة والتوزيع»، ببيروت، يجيء ضمن الدراسات الجادة التي حاولت نفض الغبار عن هذا الجنس الفني من نشأته وتطوره إلى أثره في الفنون الأوربية، ولكنه - في رأيي - واحد من أهم هذه المحاولات وأوفاها حتى الآن.

أما فصول الكتاب فهي أربعة فصول طويلة، وقد بدأت الباحثة بمقدمة طويلة أشارت فيها إلى أن تاريخ الفن يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ الإنسان نفسه، إذ لا وجود لفن بلا إنسان، كما انه قد لا يكون هناك وجود حقيقي للإنسان بغير فن.. وتاريخ الفن كان دائماً المدخل والوسيلة لمعرفة الإنسان نفسه، معرفة فنية وواقعية ولولا ما سجله الإنسان الفنان القديم على جدران الكهوف وعلى جداريات المعابد وعلى صحائف الفخار وأوراق البردى إلى غير ذلك من مواد استخدمها لتسجيل مكونات حياته، بالرسم والصورة والكتلة، ما كان لنا أن نعرف شيئاً عن الإنسان القديم، وما أحاط بهذا الإنسان على مر العصور.

ومن هنا فالفن ليس مظهراً روحياً أو مادياً وإنما هو في نظر البعض مظهر اجتماعي يستمد وجوده من حاجة الناس إلى اجتماعهم. فهو استجابة تلقائية لمظاهر الوجود في شكل جماعي، ولا يخلو مجتمع أياً كان من الفنون بصورة أو أخرى.

استلهام الماضي

وأضافت المؤلفة أن التزود بالماضي واستلهام التراث شرط لا بد منه لخلق الجديد الذي ترتبط به الجماعة. إنه عصر الاستمرار الضروري، وليست العودة إليه ضماناً لتحريك وعي الإنسان في العصر الحديث، الذي بدأت فيه الأمم تفقد هويتها وشخصيتها بفعل العالمية والكوكبية الجديدة، نحو الإحساس بالقيمة الشكلية وبالقيمة الروحية ولتعويض النقص الروحي الذي يعانيه عصرنا الغارق في الإنجازات المادية بالكشف عما قدمه الفنان المسلم في مختلف أشكال الآداب والفنون، خاصة في العصر الفاطمي، والأساس الذي قام عليه التصوير الإسلامي، ثم التصوير في عصر المماليك في كل من مصر وسورية إضافة إلى التصوير في الأندلس، والمدرسة المغولية، والمدرسة التيمورية، والمدرسة التركية، ثم التصوير في الهند، ثم إلقاء الضوء على الرموز المهمة التي أثرت الفنون الإسلامية عامة، والتصوير الإسلامي خاصة، من: يحيى بن محمود الواسطي، وأخيراً الكتابة العربية كوحدة رمزية زخرفية وتجريدية وهو ما لا تشاركها فيه أي ثقافة فنية أخرى من العالم.

وزادت بالقول: وبعد أن استقرت الحضارة الإسلامية وتشربت الحضارات الأخرى عبر الفتح والدخول في الإسلام من قبل حضارات كانت مختلفة بدأت المعاني والأفكار الإسلامية تنتقل إلى هذه الحضارات، ولا شك أن على رأس هذه الانتقالات كان الفن الإسلامي عبر التجارة الخارجية، خاصة مع غرب أوربا وشمالها ومع الشرق الأقصى وأفريقيا، وقد ظل التبادل التجاري مستمراً بين العالم الإسلامي والدولة البيزنطية ومع قلب أوربا، ومن ثم أضحت التجارة أهم وسائل انتقال الفنون الإسلامية، وهو ما تحاول الباحثة أن تلقي عليه الضوء بالتفصيل في الفصل الثالث.

وترى الباحثة ان دراسة الفنون التشكيلية إحدى نقاط التماس بين الحضارتين العربية والغربية، وعبر أربعة فصول تحاول الكاتبة إثبات ان الفنون الإسلامية أثرت في أوربا، كما أن الفنون الأوربية نفسها أثرت في الفن الإسلامي، وانه أصبح فناً مستقلاً نستطيع ان نطلق عليه أحد أبرز الفنون التي أنتجها الإنسان على مدى تاريخه الطويل.

بعد المقدمة العامة تعالج الباحثة في الفصل الأول نشأة الفن الإسلامي، وعلاقته بالدين وطرق تطوره وفلسفته، وانتشاره بدءاً من نشأة الفن نفسه في صدر الإسلام إلى نهاية العصر العثماني، موضحة سمات الدول والعصور المتتالية، وتأثير المكان فيها وكذلك تأثيرات الفنون السابقة عليه فيه، وتطرقت إلى علاقة الفن بالدين ومسألة منع التصوير التشبيهي وهل الفن حرام أم حلال؟

كما تناولت مفهوم الفراغ والتجريد في الفن الإسلامي، وسماته وتنوعه، وتخلص إلى أنه فن يضاف إلى بقية الفنون الإنسانية، كالفن الأوربي، والفن الفرعوني والبابلي والفينيقي، كما أنه لا يقل أهمية عن فنون شرق آسيا والصين واليابان والهند.

تاريخ من التصوير

أما الفصل الثاني فتلقي فيه الكاتبة الضوء على فن التصوير الإسلامي - تاريخه ومدارسه - ثم تطوره في العصور المختلفة من الإسلام، وذلك من خلال استعراض مدارس التصوير الإسلامية المختلفة كالعراقية والمصرية والفاطمية والمملوكية والأندلسية والمغولية والتيمورية والتركية والهندية.

ثم انتقلت الباحثة لدراسة إنتاج أهم المصورين المسلمين الذين أثروا الفن الإسلامي مثل يحيى الواسطي ومحمد كمال الدين بهزاد، موضحة سمات فنهما، ليصل البحث إلى سمات عامة للفن الإسلامي وبخاصة تلك السمات التجريدية التي تميز بها ذلك الفن العظيم. وتطرقت أيضا في هذا الفصل إلى علاقة بيزنطة بالشرق الإسلامي وبالغرب.

وتناولت في الفصل الثالث طرق انتقال وتأثير الفن الإسلامي في أوربا، وحاولت أن تكشف الأثر الذي خلفته الفنون الإسلامية، بعد خروج العرب من الأندلس، كما اختارت الباحثة نماذج إسلامية في المدن الأوربية مثل صقلية، من خلال الفنون الزخرفية الإسلامية المختلفة حيث ألقت الضوء على أهم أنواع الفن الإسلامي في صقلية، كالخط والكتابة والخزف والفخار والزجاج وفنون الحفر على الخشب والعاج والتطعيم والتجميع والتصوير وكذلك التحف المعدنية المتنوعة الأشكال، والتحف الزخرفية على الحجر والجص والرخام وكذلك الفسيفساء، ثم فنون النسيج والسجاد، وتخرج الباحثة من هذا أن مدرسة صقلية هي مدرسة إسلامية في فنونها، وليست أوربية.

مدخل إلى عصر النهضة

وفي الفصل الرابع والأخير، تحاول «إيناس حسني» رصد «مدخل إلى عصر النهضة» العصر الذي صاحب أهم إنجاز في المدينة الحديثة، كما أشارت إلى أثر الفنون الإسلامية في فنون عصر النهضة تلك الفنون التي تظل شاهدة على قوة الفنون الإسلامية حتى الآن في أوربا، في إسبانيا وإيطاليا وفرنسا، وحتى داخل شمال أوربا نفسها.

وقدمت الباحثة دراسة تاريخية موجزة لأثر الفنون الإسلامية على فنون النهضة عامة وعلى مصوري عصر النهضة خاصة، بداية من نيقولا بيزانو مروراً بجيوتو، وهو من أوائل الفنانين الذين استخدموا الكتابة العربية كعناصر زخرفية والذي يعتبر بحق أهم رواد النهضة الأوربية في ميدان التصوير.

بالإضافة إلى جيوتو نجد مصوراً فلورنسياً آخر من القرن الخامس عشر يستخدم أيضاً الكتابة العربية كزخرفة على ثياب الأشخاص في صوره وهو المصور فيليبو ليبي. وكذلك الفنان جانتيلي دافبريانو.

ويمكن أن نضرب مثلاً لأثر الفنون الإسلامية على فن النهضة بفنانين أوربيين هما جنتيلي بلليني في إيطاليا، وهانس هولباين الأصغر في ألمانيا وإنجلترا. ونهاية بالفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي الذي قام أيضاً باستخدام الزخارف العربية في رسوماته.

وقد واجهت الباحثة العديد من المشكلات، أهمها:

- لم تسعف الكتابات العربية القديمة في دراسة الفن الإسلامي؛ فلم يعن المؤرخون بتدوين أخبار المصورين عنايتهم بغيرهم من الشعراء والأدباء والعلماء، وكل ما وصل عنهم اسم كتاب واحد، ذكره المقريزي في «خططه» وهو «ضوء النبراس وأنس الجلاس في أخبار المزوقين من الناس» دون أن تصلنا، أية نسخة عن هذا الكتاب النادر.

- على الرغم من وجود بعض النظريات الجمالية في كتابة المسلمين خاصة منهم الأدباء من أمثال التوحيدي والزمخشري وأبي حامد الغزالي إلا انه لم يعن كتاب تلك العصور بـ«فلسفة الفن».

ـ بالرغم من وجود رسائل ومقالات عن فن الخط وخطاطيه، إلا أننا قلما نعثر على معلومات، أو تحليلات عن فن الزخرفة أو عن فن المنمنمات أو أخبار فنانيه، ودون شرح لتقنياته وأساليبه.

- إن سبب الندرة هذا، عائد بالدرجة الأولى إلى «تهميش» الممارسة الفنية في المجتمعات الإسلامية: إن مسألة «تحريم الصور» في الإسلام لم تحرم، ولم تمنع بالتالي إنتاج الصور، إلا أنها لم توفر للتصوير مكانة معتبرة، لا بل عانى هذا الفن في بعض الفترات، على الأرجح، سخط الحكام والفقهاء أو بعض الجماعات.

- أما بالنسبة للمحاولات الجمالية والنقدية المتأخرة والحديثة لفهم «الجماليات الإسلامية»، فقد أصابت في مواقع وأخفقت في مواضع أخرى، عاكسة أسئلة الحاضر الفني وإجاباته الحديثة عن هذا الفن القديم.

وترى الباحثة «إيناس» أن الحضارة الإسلامية أنتجت فناً خاصاً يمكن أن نسميه الفن الإسلامي، وترى أنه أسهم في لحظة التنوير الأوربية ويكاد يكون، الجسر الذي نقل الغرب إلى النور، وما نراه من نقوش على الأبواب الأوربية والكنائس وبعض المعابد المنتشرة هناك ما هو إلا نتاج الحضارة الإسلامية إضافة إلى الأثر الواضح في فنون عصر النهضة وما تلاه من عصور قادمة.

ومن خلال بحثها عن أثر الفن الإسلامي في الفنون الأوربية اكتشفت الباحثة أن كثيراً من الفن الإسلامي تأثر بالحضارة الأوربية وفنونها، ومن يطالع بوابة المسجد الأموي في دمشق يكتشف أثر الفن البيزنطي عليها.

وتخلص الباحثة إلى أن الفنون الإسلامية نشأت في حضن الحضارة العربية الإسلامية، التي مدت جغرافيتها من الصين والهند شرقاً إلى الأندلس غرباً مروراً بأفريقيا وإيران وتركيا، ومازالت الحضارة الإسلامية في عمارتها وفنونها التشكيلية شاهدة على عظمة تلك الحضارة، وليس أدل على ذلك من أنها منذ القرن التاسع عشر أثرت في فنون عصر النهضة حتى العصر الحديث، وهذا تأكيد على ان الفنون هي التي تسهم في إذابة الفوارق الحضارية بين الشعوب.

بقي أن أشير إلى ميزة مهمة لهذا البحث، وتتمثل في تلك الإحالات والحواشي التي ضمها الكتاب بين دفتيه، إضافة إلى تلك المصادر والمراجع العامة والخاصة التي قدمتها الباحثة للقارئ إن هو أراد مزيداً في هذا الجانب أو ذلك، إن تلك المصادر والمراجع التي تضعها الباحثة بين يدي قارئها عقب كل صفحة، وفي نهاية الكتاب، لتكشف كذلك عن عمق ثقافتها شرقاً وغرباً، قديماً وحديثاً، وعن حرصها البالغ على خلق وعي ثقافي لدى المتلقي.

بالإضافة إلى كل ما ذكر، فقد جاء الكتاب بورقه المصقول غنياً بالصور واللوحات والرسوم التي احتلت 42 صفحة منه، فأضفت عليه حيوية ورونقاً، وزاده ثقة وتوثيقاً، وأقل ما يقال فيه إنه إضافة نادرة ومهمة إلى المكتبة العربية.

--------------------------------

رَحَلَتْ سُمَيّة ُ، غُدوَةً، أجمالَها،
غضبى عليكَ، فما تقولُ بدا لها
هذا النّهارُ بَدَا لهَا مِنْ هَمّها،
ما بالها باللّيلِ زالَ زوالها
سَفَهاً، وَمَا تَدْرِي سُمَيّة ُ، وَيحها،
أنْ ربّ غانية ٍ صرمتُ وصالها
ومصابِ غادية ٍ كأنّ تجارها
نشرتْ عليهِ برودها ورحالها
قَدْ بِتُّ رَائِدَهَا، وَشَاة ِ مُحَاذِرٍ
حَذَراً يُقِلّ بِعَيْنِهِ أغْفَالَهَا
فظلتُ أرعاها، وظلّ يحوطها،
حتى دنوتُ إذا الظّلامُ دنا لها
فَرَمَيْتُ غَفْلَةَ عَيْنِهِ عَنْ شَاتِهِ،
فَأصَبْتُ حَبّةَ قَلْبِهَا وَطِحَالَهَا
حفظَ النّهارَ وباتَ عنها غافلاً،
فخلتْ لصاحبِ لذّة ٍ وخلا لها

الأعشى

 

 

إيناس حسني