هو .... هي

أبي المتسلط

    في البداية استقبل أبي الخبر بشيء من عدم المبالاة.

يبدو أنة لم يصدق أنني بعد كل تلك السنوات التي أمضيتها زوجة وربة بيت وأما، يمكن أن أعود مرة أخرى إلى الدراسة، بالرغم من تأكيدي وإصراري، إلا أنه استقبل الكلام من أذن ومرره من الأذن الأخرى.

أما أنا فقد قررت وأعلنت وفعلت. درست لعامين كاملين، وأقف الآن مرفوعة الرأس أمام ذلك الرجل الذي حرمني سعادة أن أكون طالبة جامعية.

ذهبت إليه في الأسبوع الماضى وقلت له:

أبي، لقد حصلت على شهادة الثانوية العامة، سوف ألتحق بالجامعة، وبعد إنهائي لدراستي الجامعية سوف ألتحق بعمل !!

أجاب بكل هدوء

مبروك!

ثم ذكرت لي أمي أنه، وبعد أن عدت إلى بيتي، قال لها "عنيدة.. طوال عمرها عنيدة!

***

أنا كبرى بنات أمي وأبي، رزقا بعدي بثلاثة أبناء وبنات، فنحن كلنا أربعة.

كنت ككل بنات جيلى تلميذة. في المرحلة الابتدائية ثم الإعدادية. وعندما وصلت إلى المرحلة الثانوية- وتحديدا في منتصفها- تقدم لي أحد أقارب والدي، كان شابا لا بأس به، من أسرة طيبة هي أسرة أبي، يحمل شهادة جامعية ويعمل في شركة هندسية تضمن له. مستقبلا جيدا.

عندما عرض أبي الأمر علي، عارضته من أول دقيقة. كنت أحلم بالجامعة ثم بالعمل، وأخيرا بالزواج.

ذهبت إلى أمي، لأقنعها، لكنها لم تستطع الاستماع إلي. كان أبي رجلا متسلطا، لم أنتظر، ذهبت إلى كل أصدقاء وأقارب أبي وطلبت منهم إقناعه بالعدول عن الزيجة. بعد وساطات ووساطات، استمر أبي يرفض ويزداد تصميما على الزيجة. طلبت التأجيل لحين إتمام دراستي، رفض.

في واقع الأمر لم ينصب اعتراضي على الشخص ذاته ولكني كنت بالفعل أريد إتمام تعليمي.

في النهاية تزوجت وأنا فى الثامنة عشرة من عمري. خلال السنوات الأربع الأولى رزقت بابني وابنتي، ثم انتظرت ثلاثة أعوام أخرى وبدأت أستعد لاستكمال دراستي وتحقيق هدفي.

لم يمانع زوجي، فهو إنسان ديمقراطي ومشجع، عندما فاتحته في الأمر، قال لي:

على بركة الله. لكن ضعي في اعتبارك أنك ستتحملين مشقة البيت والأولاد ثم الدراسة، هل تقبلين التحدي أجبته بنعم. وقد كان.

قررت الدراسة. وفي العام الأول لم أتقدم إلى الامتحان لأنني أحسست أني لن أحرز نتيجة جيدة. وفي العام الثاني، وبعد أن استطعت توفير المزيد من الوقت والتركيز دخلت الامتحان وحصلت على النتيجة التي كنت أريدها، في العام الدراسي القادم سألتحق بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية، وبعد أربع سنوات سوف أكون امرأة عاملة بإذن الله.

.. هى

ابنتي ملعونة!

أعلم أن هذه الابنة عنيدة أنا كذلك. لقد ورثت العناد مني.

ولأنها عنيدة فقد كنت على ثقة من أنها ستحقق طموحاتها ولو بعد مرور بعض السنين.

عندما تقدم لها أحد أقاربي وكان حاملا لشهادة جامعية هندسية وحاصلا على منحة لاستكمال دراسته المتخصصة. عرضت عليها الأمر فرفضت بحجة رغبتها في الالتحاق بالجامعة ثم بالعمل. لو كان الشاب ذاته قد تقدم لابنتي الثانية لرفضت أنا شخصيا، لأن ابنتي الثانية لا تملك إرادة وطموحات ابنتي الأولى. هذه تختلف عن تلك.

أنا أعلم جيدا ألاعيب النساء والبنات. لقد حاولت هذه الابنة إقناعي بالعدول عندما أحالت علي أصدقائي وأقاربي. جاء كل منهم يقول لي "الابنة تريد العلم والعمل، لماذا تريدها أن تتزوج الآن؟"، وكنت أبادر بالسؤال "إذا توافرت شروط هذا العريس لابنتك.. فهل تتردد؟".

كانت إجابة كل منهم: "لا أتردد".

إذن وافقني الكل على المبدأ، ولكنهم طالبوني بأن أسعى إليها بالإقناع، خاصة أنها لم تمتلك اعتراضا واحدا على الشخص ذاته.

ولأني كنت أعلم طبيعتها، فقد كنت شديد الحرص على إعلان الخطبة أولا. كذلك كنت شديد الحرص على أن يتم التقارب بين الخطيب وبينها. كم من مرات تركت لهما فرصة التفاهم والتحاور. كنت أسمح لهما بالخروج معا لزيارة الأصدقاء ولتناول الغداء أو العشاء في الخارج.

ناقشت خطيب ابنتي في الأمر، شرحت له طبيعتها وطلبت منه إفهامها أنه على استعداد لأن تكمل تعليمها في المستقبل، وأنه لا يمانع كذلك في أن تلتحق بالعمل. المهم إقناعها بأن زواجه منها لن يتعارض مع مستقبلها بل سيكمل حياتها. أتذكر أنني قلت له "خطيبتك عنيدة مثلي، رأسها كالحجر الصوان، مثلي تماما، لكنها تمتلك قلب طفل، أيضا مثلي.

بعد فترة تزوجا وسافرا إلى البعثة. وهناك حصل زوج ابنتي على درجة الدكتوراه كما رزق الاثنان بابنة. وابن.. حفيدي، وفور عودتهما بدأت ابنتي في إعداد نفسها للدراسة.

لم أفاجأ بقرارها. كنت أشعر به.

ولم أفاجأ بنجاحها. كنت أتوقعه.

جاءت إلي في الأسبوع الماضي لتبلغني ورأسها مرفوع. "أبي، لقد نجحت في الثانوية العامة، وحصلت على درجات تسمح لي بالالتحاق بقسم اللغة الإنجليزية".

أجبتها: مبروك".

كنت فرحا بها. أعشق رأسها العنيد وإصرارها وقوة عزيمتها.

هذه الابنة الملعونة. لا تعرف أنني عرفت بنجاحها قبل أن تعرف هي به.

الملعونة تتصور أنها أذكى من أبيها!