اليهود كمستوطنين ومرتزقة عبر التاريخ عبدالوهاب المسيري

اليهود كمستوطنين ومرتزقة عبر التاريخ

التاريخ ليس فقط مطالعة في كتاب الماضي، إنه أيضا وسيلة لقراءة الحاضر، واستشراف المستقبل. والجماعة اليهودية تغرينا بالمطالعة والقراءة، والتنبؤ إن أمكن. لا لمجرد إغناء البعد المعرفي، بل لإثراء المواجهة التي باتت جزءاً من القدر العربي.

يبدو أن كثيراً من المجتمعات عبر التاريخ نظرت إلى العبرانيين وأعضاء الجماعات اليهودية باعتبارهم مادة بشرية استيطانية وقتالية.وهذا لا يعني أن شتى المجتمعات كانت تنظر إلى كل العبرانيين وإلى الجماعات اليهودية كافة في كل زمان ومكان من هذا المنظور، كما لا يعني أنها كانت تنظر إلى اليهود فقط من هذا المنظور (إذ إنه توجد مواد بشرية استيطانية وقتالية أخرى كاليونانيين على سبيل المثال). ولا يعني هذا أيضاً أن اليهود بطبيعتهم مادة بشرية استيطانية وقتالية أو أن عندهم قابلية طبيعية ليصبحوا كذلك. فمن المعروف أن الغالبية الساحقة من العبرانيين ومن أعضاء الجماعات لم تضطلع بأي من هاتين الوظيفتين. فالقضية إذن هي قضية مجموعة أو مجموعات من البشر عاشت تحت ظروف تاريخية اقتصادية وثقافية معينة أدت إلى اضطلاع قطاعات منها بهذه الوظيفة. وما سنتناوله في هذا الموضوع هو نمط قد تكرر بشكل لافت للنظر في عدد من المجتمعات في العالم القديم، ثم تكرر في بلاد الغرب بشكل أكثر وضوحاً في العصر الوسيط وبداية العصر الحديث، وترجم نفسه في نهاية الأمر إلى وعد بلفور ثم الدولة الصهيونية في العصر الحديث، ولكن الطبيعة الاستيطانية والقتالية للدولة الصهيونية (التي نسميها بالدولة الوظيفة) وهيمنة هذه الدولة على أذهان الغالبية الساحقة ليهود العالم في الوقت الحالي، يكسب هذا النمط أو النموذج أهمية غير عادية، ويضفي عليه مركزية لم يكن يتمتع بها من قبل. ومن ثم يصبح من اللازم علينا اكتشاف جذوره وسبيل تشكله في ماضي العبرانيين والجماعات اليهودية.

وقد تعمق هذا الاتجاه بسبب ما نسميه "المسألة العبرانية" أي قلة عدد العبرانيين وتخلف المجتمع العبراني الحضاري والتكنولوجي والعسكري مع وجوده في واحد من أهم المواقع الاستراتيجية في العالم. فلم يتمكن المجتمع العبراني من استيعاب الطاقات البشرية داخله، ومن ثم كان لابد من تصديرها. وإلى جانب هذا، كان هذا المجتمع عرضة لغزوات جيوش الإمبراطوريات الكبرى التي كانت تقوم بأسر أعداد كبيرة من العبرانيين ثم تهجرهم إلى أماكن أخرى أو تجندهم في صفوفها.

من أجل الربح

ويبدو أن العبرانيين القدامى كانوا من المرتزقة منذ بداية ظهورهم في التاريخ، فكلمة "عبراني"، ذاتها تشير إلى العبدالذي أصبح كذلك برضاه وحول نفسه إلى أداة في يد الآخر. ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن كلمة "الخابيرو" (التي يذهب البعض إلى أنهم هم أنفسهم العبرانيون) تعني الجندي المرتزق، وأن الكلمة كانت تطلق على أي جماعات من الرحل أو الغرباء أو الأشقياء المستعدين للانضمام إلى صفوف أي جيش لقاء أجر أو بدافع الحصول على الغنائم. ولكن يبدو أن الخابيرو كانوا مرتزقة بمعنى البدو الذين يغيرون لاستلاب الغنائم أو ربما بمعنى الجماعة التي تنضم بشكل مؤقت لقوة محاربة نظامية أو غير نظامية من أجل تحقيق الربح. ومن هنا يقال ن الخابيرو اشتركوا مع الهكسوس في غزو مصر. وعلى كل ومهما كانت اشتقاقات الكلمة، فإن هناك مؤشرات عديدة على أن العبرانيين القدامى مع استقرارهم في كنعان كانوا يعملون كمرتزقة، كما انهم حاربوا في صفوف الفلسطينيين كمرتزقة ضد بني جلدتهم.

وقد قام الملك العبراني أمصيا (798- 769 ق.م) تاسع ملوك المملكة العبرانية بجمع جيش من المرتزقة من المملكة الشمالية وحاول إخضاع أدوم للهيمنة العبرانية. وقد تم تجنيد العبرانيين مرتزقة في جيوش مصر الفرعونية حينما بدأ ملوك المملكة الجنوبية مبادلة الأحصنة المصرية بالجنود العبرانيين، ثم استعان بهم بسماتيك الأول (663- 605 ق. م) في الأسرة السادسة والعشرين الذي كون جيشا من المرتزقة كان بضم في صفوفه يهودا. وقام بسماتيك الثاني (594- 589 ق.م) من بعده بتوطين جماعة استيطانية في إلفنتاين. وحينما سقطت المملكة الجنوبية، فرت جماعات من العبرانيين إلى مصر واستقرت في أماكن معروفة بأن فيها حاميات عسكرية. ويلاحظ أن الدياسبورا هنا (أي انتشار اليهود في بقاع الأرض) مرتبطة بنشاطين متلازمين هما في واقع الأمر نشاط واحد: الاستيطان، والقتال كمرتزقة. والانتشار لا علاقة له بتحطيم الهيكل كما يدعي الصهاينة. ومما يجدر ذكره أن التهجيرين، الآشوري والبابلي، لم يكن الهدف منهما تأديب العبرانيين وحسب وإنما نقلهم ليصبحوا جماعة وظيفية استيطانية، إذ تحول المهجرون إلى العمل بالزراعة والشئون المالية، وليس هناك ما يدل على تحولهم إلى جماعة وظيفية قتالية. وقد استخدم الفرس العبرانيين كجماعة استيطانية قتالية، فأقاموا جماعات يهودية موالية للدولة الفارسية على هيئة مستعمرات في أرجاء الإمبراطورية، كما عمل اليهود جواسيس وجنودا مرتزقة.وقد حولت حامية إلفنتاين ولاءها إلى السلطة الفارسية الفاتحة، فالمرتزقة كما أسلفنا يتبعون من يدفع لهم. وأسس دارا الأول جيشاً قوياً يضم جنوداً يونانيين ويهوداً مرتزقة.

وحينما فتح الإسكندر الشرق الأدنى القديم، تصاعدت ظاهرة تحويل اليهود إلى جماعات استيطانية قتالية بالدرجة الأولى خصوصاً أن الحكم البطلمي والسلوقي كان مبنياً أساساً على المرتزقة. وقد أبقى الإسكندر على المزايا التي منحها الفرس لليهود، فانضموا إلى الجيوش اليونانية كمرتزقة. ولم يكن هناك فرقة قومية خاصة باليهود، ولذا انضم المرتزقة اليهود إلى فرق الآسيويين الذين تكاثر عددهم بين عامي 200 و 150 ق.م. وكان يشار إلى اليهود أحياناً على أنهم "فرس"، ويذكر يوسيفوس أن المرتزقة من يهود الإسكندرية كان يشار إليهم على أنهم "مقدونيون".

وكان البطالمة ينظرون إلى اليهود كجماعة استيطانية قتالية وتجارية يتوقف أمن أعضائها على رضا النخبة الحاكمة مما يجعل منهم عنصراً مأمون الجانب، ولذا شجعهم البطالمة على الهجرة إلى مصر للعمل فيها مرتزقة وتجاراً ومزارعين وشرطة وموظفين وملتزمي ضرائب. وحينما أسر سوتر الأول عدداً كبيراً من اليهود في إحدى حملاته على فلسطين، وطنهم في مصر ليستخدمهم أداة لقمع المصريين.وقد قام بطليموس الثاني (فيلادلوفوس) (283- 244 ق.م) بإعتاق العبيد العبرانيين الذين أسرهم ثم وطنهم في معسكرات باعتبارهم وحدات قتالية استيطانية (باليونانية: كليروخوا). وحينما فتح البطالمة برقة في عام له 145 ق. م، وطنوا اليهود فيها ليشددوا من قبضة البطالمة عليها (على حد قول يوسيفوس). وفي نفس العام، شيد أونياس الرابع معبداً يهودياً في لينتوبوليس كانت ترابط حوله فرقة من المرتزقة اليهود.

وقد خدم اليهود في فرق المشاة والفرسان على حد سواء، خصوصاً إبان حكم بطليموس السادس (180 - 145 ق. م) الذي سلم تقريبا مملكته إلى المرتزقة اليهود الذين وصلوا إلى أعلى المراتب العسكرية بما في ذلك القيادات. ويقال إن الملكة كليوباترا الثالثة اعتلت العرش بفضل مساعدة قادة الجيش من اليهود. وكان من بينهم خلكياس وأنانياس ولدا أونياس اللذان قادا جيشها في فلسطين. وكان المرتزقة اليهود من أرباب الإقطاعات، وكان في وسعهم تأجير أرضهم وتوريثها لأبنائهم دون عناء كبير. وقد انخرط اليهود أيضاً في سلك الشرطة وحراسة الممتلكات وتحصيل المكوس الجمركية على ضفتي النيل، وهو عمل كان ذا طابع عسكري، ولذا كان المحصلون يسمون "حراس النهر". وإن كان هناك من يذهب إلى أنهم كانوا موظفين من قبل الإدارة المالية ولا شأن لهم بأعمال الحراسة.

ولم يختلف موقف السلوقيين (حكام سوريا الهيلينيين) كثيراً عن موقف البطالمة، فقد نقل أنطيوخوس الثالث ألف أسرة يهودية من بابل (التي كانت تابعة للإمبراطورية السلوقية) مع أجهزتها الحربية إلى ليديا وفريجيا في آسيا الصغرى في عام 210 ق. م. لتأسيس حامية منهم هناك موالية للسلوقيين، ولقمع حركات السكان ضد الحكم السلوقي. ويبدو أن مثراديتيس السادس (120- 63 ق.م) حاكم إمبراطورية بونتوس في آسيا الصغرى قد وطن بعض هؤلاء أو غيرهم في شبه جزيرة القرم.

ومع وصول الرومان إلى المنطقة تم تسريح الجيش البطليمي، فانهار الوضع الاقتصادي المتميز لليهود والذي ارتبط بوظيفتهم كمرتزقة، خصوصاً أن الرومان كانوا لا يجندون سوى اليهود الذين تخلوا عن دينهم. ومع هذا، فقد انخرط اليهود في سلك الجندية كمرتزقة واستمروا يعملون في الجيوش الرومانية حتى القرن الرابع الميلادي. وهذا يعني أيضاً أن الرومان كانوا يوطنونهم كعنصر استيطاني قتالي. ونحن نعرف أن أول توطين لليهود في أوربا كان مع الحامية الرومانية التي وطنت في مدينة كولون (كولونيا حاليا) وهي كلمة لاتينية تعني "مستعمرة" (وكلمة "كولونيالية" مشتقة من نفس الجذر). ولكن يبدو أنهم لم يوطنوا كعنصر قتالي وإنما كعنصر مالي. ولكن، مع هذا، يمكن القول إن الاستيطان والقتال كانا متلازمين في معظم الأحوال في العالم القديم.

مسوح عقائدية

لقد اختلف الأمر بشكل جوهري مع انتشار المسيحية والإسلام. فالقتال لم يعد يتم من أجل الكسب المالي وتحقيق المغانم الاقتصادية وحسب وإنما أصبح يتم أيضاً من منطلق عقائدي ديني، الأمر الذي نجم عنه استبعاد غير المؤمنين، ولذا لم يعد من المكن للمرتزقة اليهود الاستمرار في ممارسة مهنتهم، فانخرطوا في سلك وظائف أخرى وأصبح أعضاء الجماعات اليهودية من الجماعات الوظيفية المالية الوسيطة التي تعمل بالتجارة والربا. ولابد هنا من ملاحظة أن حامل الرأسمال الربوي لا يختلف كثيراً عن حامل السلاح نظير أجر، فكلاهما عنصر متعاقد غريب لا ينتمي للجماهير التي يضربها أو يستغلها، تم "حوسلته" تماماً أي تحويله إلى وسيلة تستخدمها الطبقة الحاكمة. وكلاهما عنصر حركي لا ولاء له (إلا إلى أرض بعيدة أو وطن وهمي أصلي يحلم بالعودة إليه ولا يعود له قط) ومن هنا تسميتنا للجماعة الوظيفية المالية "المماليك المالية" حتى يتبين الاستمرار بين وظائف أعضاء الجماعات اليهودية الاستيطانية والقتالية ووظائفهم المالية (التجارية الربوية).

وقد صنف اليهود في الحضارة الغربية على أنهم غرباء، والغريب في العرف الألماني (الذي حل محل القانون الروماني في كثير من المجالات) كان تابعاً للملك تبعية مباشرة، ومن ثم أصبح اليهود أقنان بلاط. ولكن من الصعب الحديث عن أقنان البلاط باعتبارهم جماعة استيطانية.

ومع هذا، فهناك حالات محددة من الاستيطان اليهودي في العصور الوسطى، فقد قام شارلمان بتوطين اليهود في جنوب فرنسا في ماركا هسبانيكا لتكون بمثابة حاجز على حدود العالم المسيحي لوقف التوسع الإسلامي. ويمكن أن نستخدم عبارة "جماعة استيطانية" بشيء من التجاوز للإشارة إلى أعضاء الجماعة اليهودية الذين دعاهم شارلمان للاستيطان في فرنسا ذاتها بهدف تشجيع التجارة، ولأولئك الذين صاحبوا الغزو النورماندي لإنجلترا في القرن الحادي عشر، وإلى أولئك الذين استقروا فيها باعتبارهم مادة استيطانية تجارية.

وقد عرفت شبه جزيرة أيبريا الاستيطان اليهودي سواء في إسبانيا الإسلامية (الأندلس) أم المسيحية. ففي أثناء الفتح الإسلامي، كان المسلمون يوطنون اليهود في المدن التي يفتحونها مثل قرطبة وغرناطة وطليطلة وإشبيلية حتى يتفرغ المسلمون للعمليات القتالية. وقد ثار المسيحيون في إشبيلية وفتكوا بأعضاء الجماعات اليهودية باعتبارهم عنصراً استيطانياً قتالياً. وقد فعلت القوات المسيحية نفس الشيء في أثناء حرب الاستعادة، فقد كانت تسمح من الناحية الاسمية لكل من اليهود والمسلمين بالاحتفاظ بمنازلهم والبقاء فيها ولكنهم كانوا من الناحية الفعلية يسمحون لأعضاء الجماعة اليهودية وحسب بالاستيطان والبقاء في المناطق المفتوحة مثل بالينسيا ولامنشا والأندلس وغيرها.

ولا ندري هل كانت الفرق المسماة "التشاليزيان" في المجر في القرن العاشر جماعة استيطانية قتالية أم كانت جماعة قتالية وحسب. وكلمة "التشاليزيان" مشتقة من نفس الجذر الذي اشتقت منه كلمة "حالوتسيم" العبرية (بمعنى رائد)، وهي الكلمة التي استخدمها الصهاينة فيما بعد لوصف طلائع المستوطنين. والرائد هو الجندي الذي يوضع في مقدمة الصفوف. ويبدو أن جنود التشاليزيان كانوا من بقايا يهود الخزر إذ إن مملكة المجر اجتذبت أعداداً كبيرة منهم عند تأسيسها، فعملوا بالقتال نظير المال، أي أنهم كانوا جماعة قتالية وربما استيطانية، ولكنهم تحولوا بالتدريج إلى جماعة وظيفية مالية.

وسطاء في اعتصار البشر

ومن المعروف لدينا أن الدولة العثمانية حينما ضمت أجزاء من المجر في عام 1526 قامت بتهجير 2000 يهودي إليها ليكونوا عنصراً استيطانياً موالياً للسلطان العثماني. ولعل هذا كان ضمن نظام السورجون العثماني، و "السورجون" كلمة تعني "نفي أو ترحيل أو تهجير عنصر بشري ما، إما كشكل من أشكال العقاب أو لتحقيق خدمة للدولة العثمانية". وقد وطن العثمانيون اليهود في قبرص لموازنة العنصر المسيحي فيها، كما وطنهم ملوك بولندا في المدن البولندية لتشجيع التجارة.

ولكن أهم التجارب الاستيطانية شبه القتالية للجماعات اليهودية على الإطلاق (قبل التجربة الصهيونية) هي تجربتهم كجماعة استيطانية تجارية شبه قتالية في إطار الإقطاع الاستيطاني البولندي في أوكرانيا، حيث اضطلع بعض أعضاء الجماعة اليهودية بوظيفة الأرندا (استئجار عوائد الأراضي الزراعية) من أواخر القرن السادس عشر، فقاموا باستئجار ضياع النبلاء البولنديين (الشلاختا) في أوكرانيا وإدارتها لحسابهم. فكان الأرنداتور (المديرون أو الوكلاء) اليهود يستأجرون مناطق ومدناً بأكملها فيعتصرون الأقنان الأوكرانيين لحساب النبلاء البولنديين. ولحماية هؤلاء الوكلاء وأسرهم، شيد النبلاء لهم مدناً صغيرة تسمى "الشتتل" كانوا يعيشون فيها تحميهم القوة العسكرية البولندية، كما كان عليهم هم أنفسهم أن يتدربوا على حمل السلاح. ولذا نص القانون على أنه "على كل رب عائلة يهودية أن يحتفظ ببنادق بعدد الذكور في بيته وبثلاث خرطوشات وثلاثة أرطال من البارود". كما كانت المعابد اليهودية تأخذ شكل قلاع يوجد في حوائطها كوات حتى يمكن أن تخرج منها فوهات البنادق والمدافع. ويتضح مدى تحول اليهود إلى مادة استيطانية شبه قتالية في أنهم أصبحوا حلبة الصراع بين القوى الشعبية الفلاحية الأوكرانية المنتفضة من جهة والقوى الاستغلالية البولندية من جهة أخرى. فحينما حقق بوجدان شميلنكي (الزعيم الفلاحي الأوكراني) انتصاراً على البولنديين في عام 1649، نصت المعاهدة المبرمة بين الطرفين على عدم السماح لليهود بالاستيطان في أوكرانيا إذ إن وجودهم فيها كان علامة على الهيمنة البولندية، فهم أداته الطيعة. وحينما ألحقت القوات البولندية الهزيمة بقوات شميلنكي عام 1651، اضطر إلى الاعتراف بحق اليهود في الاستيطان في ضياع الملك والشلاختا في أوكرانيا.

القتال.. دخول إلى العصر

ويجب أن نتذكر أن يهود بولندا/ أوكرانيا (أي يهود اليديشية) كانوا يشكلون أكبر جماعة يهودية في العالم في القرن السابع عشر وأنهم أخذوا يتزايدون في العدد إلى أن أصبح معظم يهود العالم من نسلهم. وهذا يعني أن الاستيطان والقتال جزء أساسي من التجربة التاريخية للجماعات اليهودية في الغرب، وأنهم دخلوا العصر الحديث وعندهم قابلية للاشتراك في العمليات الاستيطانية، وفي هذه التربة ظهر جوزيف فرانك الذي طالب بتسليح اليهود وإنشاء دولة لهم.

ومن التجارب الاستيطانية الأخرى للجماعات اليهودية تجربة يهود رومانيا الذين كان يطلق عليهم "هرسوفلتسي" الذين وطنهم النبلاء الإقطاعيون (البويار) في رومانيا بعد منحهم ميثاقا (هرسوف - يعني في اللغة الرومانية الميثاق) حصلوا بمقتضاه على ميزات معينة من بينها الإعفاء من الضرائب لعدة سنين والحصول على أرض فضاء دون مقابل لإقامة معابدهم ومدارسهم وحماماتهم ومقابرهم. وكانت علاقة الهرسوفلتسي بالبويار تشبه إلى حد كبير علاقة يهود الأرندا بالنبلاء الشلاختا، فقد أسس البويار لليهود مدناً صغيرة تشبه الشتتلات إلى حد كبير. ويلاحظ أن اليهود هنا كانوا عنصراً استيطانيا تجاريا غير قتالي. وعلى الرغم من أن تجربة اليهود الاستيطانية في رومانيا استمرت أساساً في الفترة من نصف القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر، إلا أننا ذكرناها مع تجارب الجماعة اليهودية الاستيطانية في العصر الوسيط في الغرب لأنها من ناحية البنية تقع داخل إطار الاستيطان الوسيط. وعلى كل فقد كانت العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الروماني تشبه إلى حد كبير العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في أوربا الوسيطة.

 

عبدالوهاب المسيري

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات