عندما يتم ظهور هذا
الجهاز في السوق وقد يكون ذلك بعد خمس سنوات على الأقل، وثلاثين سنة على الأكثر،
فإنه سيدخل تغييرات على كل الطرق التي نتبعها اليوم، سواء في تربية وتعليم أطفالنا،
أو التصرف في أموالنا ورعاية صحتنا وتوسع علاقاتنا مع الغير، يزيد في إحكام أعمالنا
ويرفع من مردودنا.
لكن السؤال
الأساسي: هل المستهلكون مستعدون للتعامل مع هذا الجهاز، وهل هم في حاجة إلى خدماته
الجديدة؟ والجواب لا يكون إلا إيجابيا، خصوصا فيما يتعلق بالرعاية والصحة والتعليم
والخدمات اليومية.
ومن ضمن
الاستعمالات في ميدان الصحة، فقد يصبح بإمكان الطبيب الاختصاصي فحص المريض عن طريق
شاشة الجهاز عوض نقل المريض إلى عيادته.
أما في ميدان
التعليم، فإنه ستصبح في الإمكان الدراسة عن بعد، ففي أمريكا مثلاً، وحسب "بول
نيوتن" PAUL NEWTON وهو أحد المتحمسين لهذا
النظام الدراسي فإن السنوات القادمة ستشهد شمول نظام الدراسة عن بعد في جميع أنحاء
الولايات المتحدة الأمريكية. حيث سيكون الأستاذ وحده على الشاشة أمام الطلبة في
مختلف أرجاء أمريكا، والأهم من ذلك أنه سوف يكون في إمكان الطلبة طرح أسئلة بصورة
مباشرة على الأستاذ، بواسطة آلة بسيطة مرتبطة بجهاز الحاسوب، كما يمكن للأستاذ أن
يوجه أسئلة إلى كل طالب مباشرة أثناء الدرس، وبقدر نجاعة هذا التفاعل يكون نجاح
تجربة التعليم عن بعد. وسوف يكون الجهاز الجديد قادرا على الربط بين النص المكتوب
والأرقام، والأصوات والصور والأفلام، والقيام في وقت واحد بوظيفة التلفزيون،
والحاسوب والهاتف.
ومن أكبر فوائد
الجهاز المنتظر مقدرته على وضع سبل الملاءمة بين كل وسائل الاتصال، اعتمادا على
تركيب الأرقام (واحد وصفر) وهذا ما يساعد على جمع مختلف أنواع وأشكال المعلومات وما
يسمح بنشرها أو بالاحتفاظ بها بواسطة وسيلة واحدة. وبذلك فإن الوسيلة المرقمة، بما
فيها التلفزيون، تصبح جهاز إرسال للحاسوب، يمكن التعامل معه حسب
الإرادة.
ومن خاصيات هذا
الجهاز أيضاً مداخله العديدة، ولا تعتبر شاشة التلفزيون إلا واحدة منها. أما
المداخل الأخرى فهي كل الأشكال التي يتضمنها الحاسوب، وسوف توجد أكثر فأكثر أدوات
صغيرة للجيب، يمكن أن تترابط فيما بينها وأن تتحول إلى هاتف أو فاكس أو جهاز
تلفزيون.
ومن الواضح أننا
سنجد أنفسنا مقبلين على عالم جديد في ميدان الاتصالات، بكل ما يفرزه من عواقب
اقتصادية وثقافية وسياسية، لا بد من الاستعداد لها حتى يتيسر لنا التحكم فيها بما
يخدم مصالحنا الوطنية والقومية والإقليمية.
غير أن الهاجس
الكبير الذي يسكن رجال الصناعة في تكنولوجيات الاتصال، هو معرفة موقف المستهلكين من
هذه المستحدثات، وهل هم مستعدون للاندماج في هذا العالم الجديد الذي ينحته
المتقدمون في مجالات الاتصال؟ فمن البديهي أن عدم رواج هذه المبتكرات على المستوى
الجماهيري الواسع يكلف الشركات الكبرى الصانعة خسائر مادية محبطة.
وأمام ضخامة الجهود
والأموال، فإنه يستحيل على مؤسسة واحدة، مهما كان حجمها، أن تسيطر على كل
التكنولوجيات الضرورية في هذا الميدان، ولذلك فإننا نرى لقاءات حثيثة تجرى عبر
المحيطات بين الشركات العالمية المتخصصة في صنع أجهزة إعلامية واتصال لتوحيد
جهودها، وتكوين تجمعات كبرى فيما بينها، بهدف التعاون على مواجهة مشاكل وأعباء
إنجاز المستحدثات المتطورة التي ستزيل كل الحدود في مجال الاتصال.
ولا شك في أن إقبال
المستهلكين على هـذه الأجهزة الحديثة سوف يتوقف على مدى سهولة استخدامها، وعلى
نـوعية الخدمـات التي تقدمها ومـدى نفعها، والسؤال المطروح هو: مـا هو نوع الخدمات
التي يريدها المستهلكون وليس ما نـوع الجهاز الذي يحذق المهندسون صنعه؟.
وبالفعل فقد سجلت
بعض الاكتشافات انتشارا واسعا، لم يكن متـوقعا، وبقيت منسية في المخـابر اختراعات
إعلامية، توقع لها الصانعون رواجاً مكثفا.
وقد اقتنع الجميع
بأن المستقبل في بداية القرن القادم سوف يكـون للجهاز الذي يشمل أكثر مـا يمكن من
الوظائف ويوفر المرونة القصوى في الاستعمال.
ولأول مرة في
تـاريخهم، يجد خبراء الوسـائل الإعلاميات وصانعو أجهزة الاتصال السمعية المرئية
أنفسهم في مواجهة تنافسية مباشرة. فأي طرف سيربح المعركة؟.
وفي الواقع فإن
أوراق الطرفين تتكامل، فعلى خبراء الإعلاميات الاجتهاد من أجل كسب الاتجاه نحو
تلبية أذواق وحاجيات عموم المستهلكين؟ وتسهيل استعمال الحاسوب حتى يكون في متناول
المواطن العادي، أما المختصون في المجال السمعي والفيديو، فعليهم تنشيط وتحسين
مؤهلاتهم في الأجهزة الإعلامية.
وبذلك يمكن أن
تتوزع النشاطات في هذه القطاعات على مختلف القارات. فالأمريكيون متقدمون في
التكنولوجيات متعددة الوظائف، واليابانيون لهم السبق في قطاع الإعلاميات والليزر
"LASER" ويسبقون غيرهم في تصنيع الاختراعات
الجديدة.
أما أوربا فهي تنظر
إلى هذه القضيـة نظرة قومية، حيث إن المشرفين على هذه الصناعات، رغم امتلاكهم
لتكنولوجيـات مجددة ولمخـابر متطورة، يشعرون بالضعف وبأن التفـاوض على قدم المساواة
مع أمثالهم في أمريكا واليابان يمثل أمراً صعباً. وهم يترددون في فتح أبواب المخابر
وللعامل الأوربية على مصراعيها في وجـه الأمريكيين واليـابـانيين، وهذا ما يوضح
نسبيا خلفيات الخلاف الأمريكي الأوربي حـول اتفاقية التعرفة الجمركية GATT.
والجنوب يتابع باهتمام بـالغ تطور
القضية.
وفي هذا الإطار،
واعتباراً لأهمية الرهان سجل حدث تـاريخي تمثل في انعقاد ندوة عالمية في "هاكون"
باليابان شاركت فيها مؤسسات تمثل مجموع الصناعات في مجال الاتصال: اتصـالات سلكية
ولا سلكية، ممثلو صناعات المركبـات الإلكترونية، وممثلو صناعة الأدمغة الإلكترونية،
وممثلـو شركات معدات البرمجة ميكروسوفت، وكبار رجال الصناعة السينمائية، وصناعات
التلفـزيون والصحافـة ومعدات البرمجة الثقافية ومراكز البحث الكبرى.
وكان الهدف من عقد
هذه الندوة العالمية يكمن في خلق صناعة شاملة، تبلغ في سنة 2000 حوالي 3.500 مليار
دولار، وهذا يعني أهم صناعة إطلاقا على وجه الأرض، كما أكده ذلك نـائب الـرئيس
الأمريكي "ألجور". وقد تمحـورت المناقشات حول مشكل مركـزي يتمثل في انخفاض أسعـار
الأجهزة الإعلامية الصغيرة إلى درجة جعلت أهل الصناعة في هذا الميدان يشعرون بضرورة
قصوى لتنشيط صناعتهم بإنتاج جيل جديد من هذه الأجهزة يكون متجهاً إلى أوسع جمهور
ممكن من المستهلكين، وهو ما يتطلب تعاون جميع المتدخلين.
ولكن كيف يكون
العمل؟ إن تحقيق مثل هذا المشروع العالمي المتعقد تنسيقا لم يكن في الماضي موجودا.
فكيف يمكن لصناعات المحتوى مثل السينما والنشر ومعدات البرمجة أن تأخذ تعهدا جازما
باستثمار أموال في منتجات ملائمة، إذا كانت لا تعرف تاريخ عرض هذه الأجهزة الجديدة
بالسوق ولا تعرف خاصة إمكاناتها الفنية؟.
كما برزت في هذه
الندوة، فكرة أخرى تدعو إلى إحداث مركز للتدريب على استعمال وسائل الاتصال الجديدة،
يكون عبارة عن جامعة عالمية. كما سجلت الندوة العالمية خطوة إيجابية، تتمثل في
انطلاق الحوار بين الصناعيين في ميدان الاتصال تجهيزا وإنتاجا ولم يكونوا من قبل
يعرفون بعضهم بعضا.
ولكن مهما يكن من
أمر فإنه لا يمكن تقدير فاعلية الآثار الحقيقية لمؤتمر "هاكون" إلا من خلال النتائج
التي ستحدث للإنسانية بفضل هذا التعاون الدولي المنشود بدلا من التصادم والنزاع
العقيم.
ومن المتوقع أن
يكون لهذا اللقاء الأثر العميق في تطوير الفضاء الاتصالي بالبلدان الغربية التي سوف
تكون في مقدمة من يفتح سوقها أمام الجهاز الجديد ويستفيد منه في مختلف المجالات
استراتيجيا واقتصاديا وثقافيا.
وسوف يكون لهذا
الجهاز الجديد تأثير اجتماعي داخل المجتمعات الغربية وقد سبق تحليل مختلف هذه
التأثيرات من خلال التصورات النظرية للمجتمع الاتصالي كما تصوره ماكلوان (
MACLUAN ) في كتابه "القرية العالمية".
العرب والجهاز
الجديد
إن كل هذه المعطيات
لا بد من أخذها بعين الاعتبار ونحن نتهيأ لاستقبال هذا الجهاز الجديد الذي سوف يدخل
بيوتنا مثلما دخله ما سبقه من وسائل اتصال.
إن التوجه الدولي
يتمثل اليوم في تحويل مجتمع الإنتاج إلى مجتمع علمي معرفي، أي إلى مجتمع إعلامي،
فالمسائل التي يطرحها التوسع المطرد للمعرفة والتعقيد المتزايد للمسار التنموي أعطت
دورا حيويا للمعلومات الجديدة لتسهيل إمكانات إثرائها وادخارها ومعالجتها وتعهدها
بالمراجعة المتواصلة.
على أن اقتصاديات
الإعلام لم تجد حتى الآن اهتماما كافيا في البلدان العربية، ولم توظف فيها
استثمارات تذكر، ولعل ضعف مستوى التطور الصناعي والاقتصادي بشكل عام، وضعف مبادرات
المستثمرين، وندرة البحث العلمي، وعدم التوصل لتوحيد السوق العربية، وهشاشة التكامل
الاقتصادي والصناعي العربي، وندرة الإمكانات البشرية المدربة، والتخلف التقني،
ساهمت جميعها في عدم ولوج ميدان الصناعات الاتصالية والإعلامية والثقافية، مما أدى
إلى التقصير في هذا المضمار لدى جميع البلاد العربية.
لذلك لا ندري ما
نصيب البلدان العربية من الحجم الكبير للاستثمار الذي سوف يخصص لهذا الجهاز الجديد،
ولا الدور المتواضع الذي سوف يناط بعهدة مجموعاتنا ضمن التوزيع العالمي في هذا
المجال. لكن مما لا شك فيه أن صناعة هذا الجهاز أو ما ستخلقه من أنشطة فرعية سوف
يكون لها الأثر الواضح على تطور طاقة الشغل الموجهة لقطاع الاتصال والإعلام والنسبة
التي يحتلها هذا القطاع في الاقتصاد العربي، فستشهد هذه النسبة ارتفاعا مضاعفا لما
هي عليه اليوم حيث لا تتجاوز 5% مقابل 40% في البلدان المصنعة.
إنه من المؤكد أن
وسائل الاتصال عامة قد زادت في العشرية الأخيرة زيادة ملحوظة، خاصة أن معدل النمو
السنوي لاستيراد الحواسيب الإلكترونية إلى الوطن العربي وصل إلى حوالي 26% في حين
أن المعدل السنوي في العالم هو 11% فقط. وبالتالي فقد ازدادت القوى العاملة التي
تنتمي إلى قطاع المعلومات. وزادت الهيئات التي تقوم بالتدريس والتدريب في هذه
المجالات الجديدة.
والملاحظ أن بنوك
المعلومات المتوافرة في الوطن العربي هي في غالبها مستوردة من العالم المصنع.
فالأجهزة مستوردة ومثلها حزم البرامج والنظم وقطع الغيار والصيانة، بل هناك دول
عربية عديدة تعتمد على استيراد الخبرة البشرية لتشغيل نظم المعلوماتية المتوافرة
لديها.
وعلى الرغم من
استعمال البلدان العربية لهذه التقنيات الحديثة وخصوصا في مجال الإذاعة والتلفزيون
ووكالات الأنباء، فإن اتخاذ القرار باستعمال هذا الجهاز أو غيره، واستعمال هذا
النظام أو غيره، لا يلتزم دائما بالأسس العلمية السليمة كالمعرفة الدقيقة للحاجة
والإمكانات. لذلك ليس من النادر أن نرى في بعض الدول العربية ميلاً تحكمه الرغبة
والاهتمام بشراء الأحدث دون النظر بعمق وموضوعية إلى الاحتياجات
الحقيقية.
والنتيجة بالنسبة
للمستهلك الانتساب إلى أحد الصنفين التاليين:
- صنف المشاهد
الشعبي المقتنع بما تقدمه قنوات البث الوطني بجوانبها الإيجابية ولما تتضمنه من
تقسيط غير موفق للواقع الاجتماعي.
- وصنف المشاهد
للبث الأجنبي بمضمونه المتفاوت والذي يجد فيه عامة زادا ثقافيا متنوعا ورفيعا لكنه
بعيد عن الخصوصية الوطنية.
كما أن لقنوات
المعلومات في الوطن العربي مؤثرات غريبة، مثلها مثل قنوات المعلومات في أي منطقة
نامية أخرى بسبب غياب البيانات والإحصاءات، وضعف الالتزام بحقوق براءات الاختراع،
وحقوق اتفاقيات الإنتاج أو الاستغلال.
إن التأثير الثقافي
الذي سينجم عن دخول الشامل الإعلامي هذا الجهاز الجديد ينبغي أن يكون محل دراسات
اجتماعية معمقة، وقد تأكد من خلال انتشار البرامج التلفازية العالمية عبر الشبكات
الفضائية أن الإنتاج المحلي المرضي والمتجاوب مع حاجة المواطن يبقى الأفضل والأنسب
لدى المشاهد، فلا مجال للتهاون أمام هذه الظاهرة الإيجابية وما تستدعيه من جهود
وتكامل في مجالات الإنتاج التلفازي.
ولذلك فإنه لا بد
من وضع سياسة متكاملة، تضمن التنسيق بين البلدان المتوسطية، وتسهل اختيار النظم
الملائمة.
مقترحات
أخيرة
إن الاتعاظ بتجارب
الماضي واجب محتم حتى نستقبل المولود الجديد بدون تسرع وبدون تأخر في آن واحد وهذا
ما يدعو إلى:
1 - العمل على
تحديد حاجة البلدان العربية منفردة ومجتمعة لهذا الجهاز ومشتقاته وذلك من خلال
دراسة واقع التطور الاقتصادي والاجتماعي في هذه البلدان وآفاقه، وفي ضوء زيادة عدد
السكان، ومستوياتهم الثقافية، وآلية اقتصادهم.
2 - توجيه
الاستثمارات (في القطاعين العام والخاص) إلى هذه الصناعة الإعلامية الجديدة،
والنشاطات الناتجة عنها والمتممة لها.
3 - دعوة المؤسسات
التعليمية والتدريبية إلى تخطيط مناهج الاستفادة من هذه الوسيلة الجديدة واستخدامها
في إنجاح العملية التربوية والتثقيفية.
4 - العمل على
تطوير الطاقات البشرية اللازمة ومراجعة مناهج تدريس علوم المكتبية والمعلومات
وتخصصات علم الحاسوب من أجل تطويرها.
5 - العمل على
تحقيق التكامل بين الأقطار العربية والتنسيق وتجنب الازدواجية
والمزاحمة.
6 - ربط الصلة
بالمؤسسات الكبرى التي نظمت قمة هاكون لضمان مكانة المجموعة العربية في هذا المجهود
الاستثماري الكبير وحماية مصالحها.
7 - تنسيق المواقف
مع الأطراف المتوسطية التي شاركت في قمة هاكون والتفاوض معها في توزيع الأدوار
بالتكافؤ بين شعوب الشمال والجنوب.
إن البعض من هذه
المقترحات مستمد من كتاب "الإعلام العربي حاضراً ومستقبلا" الذي تم وضعه قبل عشر
سنوات بتكليف من منظمة أليكسو.
فالتوقعات الواردة
في ذلك الكتاب أصبحت اليوم في الكثير منها حقيقة ملموسة.
وخلاصة القول إننا
سنجد أنفسنا مقبلين على عالم جديد في ميدان الاتصالات بكل ما يفرزه من انعكاسات
سياسية واقتصادية وثقافية لا بد من الاستعداد لها حتى يتيسر لنا التحكم فيها بما
يخدم مصالحنا الوطنية والإقليمية والقومية على حد سواء.