النهاية ممدوح عزام

النهاية

هذه المرة أيقن أنه وجد أخيراً ذلك المكان المناسب، ففي "السماقيات"، وهي قرية نائية في الجنوب، التقى ثلاثة شبان كانوا يصطادون في البرية، وشرح لهم غرضه، فتطلعوا إلى وجوه بعضهم البعض، ثم قادوه إلى رابية صغيرة حيث فاجأه منزل قديم محاط بسور من أشجار الزيتون الهرمة، قالوا: ادخل إلى هنا، وسوف ترى أنه المكان الوحيد الملائم لتصوير قصة حب.

"لماذا؟!" سأل نفسه وهو يدفع بوابة خشبية عتيقة مقواة بحديد صدئ، فداهمه حالاً وسط الفراغ الموحش، إحساس بأنه محاصر، وتطلعت إليه من العتمة عينان حائرتان، فهم أن يقول: "صباح الخير" لكنه لن يسمع جوابا، إذ سرعان ما تبخرتا، ولاحظ أن الشبان قد اختفوا تاركين وراءهم مائة سؤال.

تمشىّ حذراً، حيث لا يظهر تحت قدميه، من تلك البلاطات الحجرية سوى بقايا سواد منخور مخرمش وسط دغل الحشائش، والأعشاب، وأغصان الشجر، والطحلب الأخضر والرمادي، والأشنيات القرميدية التي كانت يوماً ما تنفث رطوبة وندى.

وحين ولج إلى الغرفة الأولى انهار الباب كله، ولم تنفع الحركة الخرقاء المستعجلة التي أبداها في رده، ثار غيار فاتر في دوائر رقيقة، ثم هبت رائحة خواء وعفونة وسنين طويلة ولما انقشعت غيمة التراب، ارتطمت ساقه بطاولة زرقاء (باهتة بالطبع) اهتزت، ثم جنحت بجانب الباب مثل هيكل، وتساقطت أشياء من هنا وهناك، وسمع مثلما يسمع حالم، ضجيج التكسر وراءه، وإلى اليمين بدت جرة فخار منخورة محطمة، وبالقرب منها حمال مصباح خشبي اهترأت أقمشة زينته، وتآكلت، رحال لونها، وثمة بقربه مشكاة، وجيب ملاعق وأشواك، ونافذة يتسرب منها ضوء مريض متعب، لم كرسيان خشبيان كانا ذات يوم مقششين بأوراق قصب بلتها السنوات، وبضعة صناديق طافحة بالقناني والصحون والملاعق وفتافيت شاي وسكر، وبلورات المصباح، وجلاميد خبز أخضر، وطناجر متلاشية تفوح منها رائحة الهجرة. وفي خواء خزانة الطعام القريبة لم يجد شيئاً سوى أقواس أعمدتها المحطمة. وما إن فتح ضلفتها حتى انخلعت، وسقطت تاركة مكانا فارغا كفتحة قبر "يا الله!" غمغم مرتبكاً حين تعثرت قدمه اليمنى ببقايا سجادة صامتة فوق رقعة الأرض المزدحمة بشراك الأغراض: كان هناك عود صموت تقطعت أوتاره، وعلاقات، وصف من أباريق صدئة، وفي الركن فاجأته العينان التالفتان لرجل متكئ على جسر خشبي صغير داخل صورة، ارتعد بسبب النظرة، وحاول الهرب لكنه لاحظ أن الرجل يتابعه كالعقاب. ثم فوجئ بأنه صار الآن وجها لوجه أمامه، حيث كان ذلك الرجل كاملا، وحيداً وسط عماء من التلال الضبابية البعيدة، مؤطراً بإطار أسود، ناظراً إليه برجاء ولهفة.

أكانت لهفة؟!، لا يدري، لأن الرجل المربوع صار إنساناً آخر في الصور الملقاة فوق طبق قش ممهور في الوسط بدعاء: "يا رب! يا قادر!" بدا في إحداها جالسا يتناول طعامه، ويدخن، وبدا في الثانية ممسكاً بكرة، واقفاً قرب بركة ماء وقفة تأمل، لكنه ابتداء من الصورة الثالثة صار يشحب، ويتبدل. وقد اتكأ على جذع شجرة ونظر إلى البعيد نظرة حيرة وجزع كأنما كان خائفا من مجهول ما. (أين الحب) سأل نفسه.

وفي الركن الآخر اكتشف صورة أخرى، كانت وحيدة، وملتفة بحزن، وقد ظهرت فيها امرأة، أو فتاة، تبتسم لذاك الرجل الذي التقط صورتها، لأن عينيها حدقتا فيه، لا في الآلة. لكنها بدت برغم ذلك خرقاء بطريقة ما. إذ مسها عشق جارف لمصورها، جعلها شفافة وخفيفة حتى تكاد تطير.

لكن من الذي رمى بها هنا بعيداً؟ فمن الصعب أن يكون هو إذ إن شكله يوحي بالهوى والحنين أكثر مما يشي بالغدر والخيانة! ربما كانت امرأة أخرى، رأتها فجأة في المجموعة، تحدق إليها بتحد وفحش (لم تكن تفعل ذلك في الحقيقة) فحاولت تمزيقها، لكن الرجل منعها وتعاركا قليلاً، وحطما بضعة أشياء دون جدوى.

لا! قال لنفسه، وهو موقن أن المرأة كالطائر، سوف تدافع عن بيتها دائماً، لكنها لن تدمره مهما حصل، قد تستسلم، وقد تخضع وقد ترحل أخيراً تاركة وراءها كل شيء، حريصة على أن يظل عامراً مثلما كان دائما. ويمكن أن يكون قد اختلق مأساة من لا شيء، إذ إنه كان ميالاً بطبعه للجانب المظلم في القصص. فالتفاصيل السعيدة لا تعني شيئا للناس، وسرعان ما ينسونها، أو يستخفون بها، ثم إن تلك المرأة الأخرى لم تظهر في أكداس الصور بعد، بينما ظلت المبتسمة على ابتسامتها، وواصل الرجل حزنه وحيرته، وقد تجهم في إحداها، وجزع حتى الموت في أخرى، مم؟! لا بد أنه رأى مجهولاً غائماً مر لثوان في الدغل المقابل، أو برز من خلف جدار حين كانت هي تلتقط صورته. فهل رأى واحداً من أهلها؟ (أما كانا متزوجين؟) وهل أمسكوا به أخيراً وهو الذي أقسم بأنه لا يلتقي ابنتهم بعد أن رفضوا زواجه منها؟! ربما، فمن المؤكد أن الرجل إنما يخشى الموت حتى الرعب حين يكون عاشقاً. فما بالك إذا كانوا قد هددوه؟ نعم! تلك هي الحكاية، وحين دخل إلى الغرفة الثانية رأى أنه قد هيأ كل شيء للرحيل، وقد ساعدته هي قليلاً، وسوف يهربان معاً فثمة أصيص قرنفل (وقد عرفه من عيدانه اليابسة) وحقيبة تنكية تفوح منها روائح أنثى، وهي ملأى بثياب ناعمة كالروح: قمصان نوم، وسراويل مطاطة، وجوارب ملففة داخل بعضها، وحمالات نهود (هي كل ما أهداه لها).

وثمة حقيبة أخرى من الجلد (يا للحزن!) إذ إن الفئران قرضت محتوياتها، وجعلتها نثاراً مدقوقاً لا وجه له وبالقرب منها علبة ضمت أساور رخيصة وعقوداً ولآلئ وأكداس صور لها صارت سبباً في نهايته (هل مات الرجل؟!) أين نرحل؟! سألته قال: "هذا الكون واسع جداً إلى حد أنه لا بد أن يتسع لنا مكان ما" "لا أظن" أجابت وهي تراقب من خصاص النافذة الحائط الحجري العالي الذي لا يقهر سوى سماء خريفية باهتة، وقد خرجت مسرعة هاربة ولم يستطع هو أن يكمل ما بدأه، وهذا هو السبب في أن كل ضوء في المنزل كان خرباً، أو ناقصاً، ومن المؤكد أنهم وصلوا إلى هنا فجأة، وقد تسللوا من البوابة الخارجية، واقتحم كبير أخوتها الغرفة إليه، كان مشغولاً بأشيائه الكثيرة، وقد حار فيما يأخذ معه إلى بيت الزوجية الآتي، وحار أكثر حين فكر أنه سيظل مطارداً إلى أجل بعيد، وقد لا يحتاج إلى أكثر من ثيابه، لكن كل ما في المنزل كان أثيراً إلى نفسه، فواصل حزم حقائبه إلى أن فاجأوه لن يستطيع الإنكار، فقد رأوها وهي خارجة من المنزل (ماذا فعلوا بها؟!) لكنه لن يستسلم لهم، وذلك ما يدل على الخراب الفظيع الذي لحق بمنزله، وقد تعارك معهم، وتغلب على أحدهم ورماه أرضاً (هنا حيث الطاولة المحطمة) لكن الآخر طعنه في الظهر، وقد تطايرت دماؤه على الحائط (صار لونها الآن حائلاً مصفراً) فاستقام، وتطلع حوله بعينين حزينتين مليئتان بالدموع (وقد ظلتا عالقتين في المكان، وتلك هي النهاية. لكن الأمر كله صار لغزاً غامضاً لا يفهم، ولا مناص من أن يعيد ترتيب الحكاية إذا ما أراد إخراجها فعلا، غير أن ذلك يتطلب بناء المكان مرة أخرى، وإضافة عناصر جديدة إليه، وقد تشتبك الأحداث أكثر، وتختلط الأمور، وقد يعجز عن تقديم عمل لا يمنح الناس شيئاً سوى المآسي والأحزان. وللمرة الأولى منذ سنة، أحس بأنه يقف حائرا أمام قصة الحب التي سيقدمها. وقد أعجزه السؤال المحير: إذا كانت قصص الحب تنتهي هكذا، فكيف تبدأ إذن؟!.

 

ممدوح عزام

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات