الاستنساخ مرة أخرى

الاستنساخ مرة أخرى

الاستنساخ (Cloning) قضية لاقت اهتمام كل المستويات العلمية والدينية وكأنه شبح قد ظهر فجأة, ورأينا كثيرا من المجتهدين والكتاب والعلماء يدلون بآرائهم فمنهم من عارضه ومنهم من أيده, لذلك كان لابد من إلقاء الضوء على هذا الموضوع وإزالة الغموض والوقوف على حقائق الأمور. إن الاستنساخ لايزيد عن كونه عملية تجرى منذ وقت طويل في كثير من المعامل المتخصصة في مختلف مجالات علم الحياة (Biology). وهو في معناه العام ليس سوى طريقة من طرق التكاثر البدائية وهو شائع في بعض الكائنات الأولية وحيدة الخلية مثل البكتريا والخميرة والأميبا, ولكن مع ظهور الكائنات الأكثر رقيا كان لابد من وجود طريقة أكثر رقيا للتكاثر تؤدي إلى حدوث تباين واختلاف في الأنواع والأشكال. هذه الطريقة تتمثل في التزاوج بين ذكر وأنثى, فلكي نحصل على كائن جيد لابد من اتحاد خلية تناسلية (الحيوان المنوي) من الذكر مع خلية تناسلية (البويضة) من الأنثى لإنتاج خلية ملقحة تحمل الصفات الوراثية لكل من الذكر والأنثى معا, ومن هنا يحدث التباين. ولو تحدثنا عن الإنسان فإن الجسم البشري يحتوى على نوعين من الخلايا: خلايا جسدية (Somatic Cells) وهي خلايا متخصصة توجد في كل أعضاء الجسم ماعدا الأعضاء الخاصة بالتكاثر, حيث تحتوي على نوع آخر من الخلايا تسمى الخلايا التناسلية أو الجنسية (Germ Cells) وتحتوي كل منها على عدد من الكروموسومات سوف نرمز لها بالرمز (ن) والتي ينتج منها الحيوان المنوي في الذكر والبويضة في الأنثى وعند اتحادهما تنتج خلية تحتوي على (ن + ن) أي 2ن. خلية الإنسان عموما تحتوي على 2ن حيث ن تساوي 32 كروموسوما (Chromosomes) أي أن 2ن = 64 كروموسوما) والتي تحمل في طياتها مايسمى بالجينات الوراثية, وهي المسئولة عن نقل الصفات الوراثية من إنسان إلى آخر. والخلايا الجسدية تنقسم بالتضاعف حيث تتضاعف المادة الوراثية داخل الخلية (2 64) ثم يحدث تخصر في جدار الخلية لتنقسم من جديد إلى خليتين كل منها تحتوي على 64 كروموسوما, وهذا يحدث في كل الخلايا الجسدية ولكن في الخلايا التناسلية (Germ Cells) نجد أن كلا من الحيوان المنوي والبويضة يحتوي كل منهما على نصف عدد الكروموسومات الموجودة في الخلية الجسدية, لذلك فعند التقاء الذكر بالأنثى فإن الخلايا الناتجة عن الانقسام تحتوي على 64 من الكروموسومات (أي العدد الكامل من المادة الوراثية), وتسمى الزيجوت (Zegote) الذي له القدرة على الانقسام ليعطي جنينا يحتوي على خلايا جنينية غير متميزة (Undifferentiated Embryonic Cells) التي تتطور وتتميز إلى أن تتحول في النهاية إلى خلايا ناضجة كاملة التميز (Adult Differentiated) وتقوم بوظيفة محددة وهذا النوع من الخلايا يوجد في الأعضاء المختلفة للجسم مثل الكبد والكلية والجلد.. إلخ من هنا إذا عدنا مرة أخرى إلى تعريف الاستنساخ فإننا يمكن أن نقول إنه من خلية واحدة (Somatic Cell) مأخذوة من عضو من الجسم وتحتوي على العدد الكامل للكروموسومات (المادة الوراثية) وسواء كانت هذه الخلية من جنين أو من شخص ناضج فإنه يمكننا الحصول على ملايين من هذه الخلية التي يمكن أن تستمر في الانقسام والنمو مؤدية إلى نسخة طبق الأصل (Carbon Copy) من الكائن الذي أخذت منه الخلية الأم وتحتوي على كل الصفات الوراثية للكائن المعطي من لون الشعر والعين والجلد ..إلخ.

الجينات وتنشيطها

من الناحية العلمية فالاستنساخ من خلايا جنينية ربما يكون أسهل من الاستنساخ من الخلايا الناضجة كاملة التميز, لأن الخلايا الجنينية بطبيعتها قابلة للتخصص أما الخلايا الناضجة أي المأخوذة من كائن كامل النمو فهي خلايا قد تخصصت أي تحتوي على جينات متخصصة. والجينات هي مجموعة من التراكيب التي تتحكم في وظائف الأعضاء عن طريق إفراز مجموعة من البروتينات. ففي عضو مثل الكبد نجد أن بعض الجينات تكون نشطة (Turn _ On) لكي تؤدي خلايا الكبد وظيفتها, ونفس هذه المجموعة من الجينات تكون غير نشطة (Turn _ Off) في عضو آخر كالكلىة والعكس, فهناك جينات تكون نشطة في خلايا الكلية وغير نشطة في خلايا الكبد. وقد اعتقد العلماء أن هذا النوع من الخلايا من الصعب إعادته إلى مرحلة الخلايا الجنينية لتعاود الانقسام والتميز من جديد لاستغلالها في تكوين كائن جديد ولكن حاجة العلماء إلى استخدام خلايا معروفة الهوية كاملة التميز محددة المعالم والصفات أدت إلى محاولات عديدة لجعل هذه الخلايا تعمل وكأنها خلايا جنينية ومن هنا كانت بداية (دوللي).

عكف فريق روزلين بأسكتلندا على دراسة الخلية, حيث إن الدكتور ويلموت الباحث بالمعهد ذكر أن ماجعله يقدم على هذه التجربة هو نجاح تجارب النقل النووي (Nuclear Transfer) من خلية ناضجة من خلايا الضفدعة والتي استطاع العلماء أن يجعلوها تصل لمرحلة أبو ذنيبة (Tad Pole) ولكنه مات قبل أن يصل إلى ضفدعة ناضجة, وهذه التجربة فرضت سؤالا وهو: هل فعلا نستطيع إعادة برمجة الخلية الناضجة (Adult Differentiated Cell) لتعمل كخلية جنينية (Undifferentiated (Embryonic Cellغير متميزة.? أثبت ويلموت وفريقه هذه الاحتمالية حيث تم استخدام خلية ناضجة من ضرع نعجة حبلى (Pregnant Ewe) من سلالة فنلندية بيضاء اللون (Finn Dorset) ولكي يتمكن من إعادة برمجة المادة الوراثية لهذه الخلية (Donor Cell) كان لابد من أن نجعلها تخرج من أطوار النمو (Growth Phase) إلى طور الثبات والراحة (Resting Phase, Go), هذه العملية تؤدي إلى حدوث تغيرات في تراكيب نواة الخلية وذلك يسهل عملية إعادة برمجة الجينات (Reprogramming of Gene Expression).

ولكي يفعل ويلموت ذلك فقد قام بتجويع الخلايا بأن زرعها في المعمل (In vitro) في وسط غذائي يحتوي على نسب قليلة من المواد اللازمة لنموها لمدة خمسة أيام وبالتالي خرجت الخلية من طور النمو (Growth Phase) إلى طور الراحة (Go), بعد ذلك بدأت عمليات النقل النووي (Nuclear Transfer) حيث تم الحصول على بويضة (Oocyte) من سلالة أخرى من النعاج الأسكتلندية سوداء الوجه (Scottish Black face) وفرغوها من النواة ولكن تحتوي فقط على المادة الخلوية ,(Cytoplasm) وعندئذ وضعوا البويضة منزوعة النواة (Recipient Ova) مع نواة الخلية التي تم تجويعها (Starved Donor Cell) أي الخلية المعطية ثم بعد ذلك وضعوا هاتين الخليتين تحت تأثير نبضات كهربية ضعيفة (Electric Impulses) جعلت البويضة المفرغة تستقبل نواة الخلية المعطية والتي تحتوي على الشفرة الوراثية الكاملة للنعجة الفنلندية, وكذلك أدت إلى حدوث تغيرات كيميائىة أدت إلى بداية انقسام الخلية (Cell Division). وبالرغم من أن ميكانيكية حدوث عملية إعادة البرمجة لنواة الخلية المعطية غير معروفة بدقة فإنه من المحتمل أن سيتوبلازم البويضة المفرغة ربما يحتوي على عوامل مساعدة على إعادة البرمجة (Reprogramming Factors) ومع استمرار عمليات الانقسام والنمو تطورت الخلية إلى جنين (Embryo) ثم وضعه في رحم نعجة أسكتلندية أخرى سوداء الوجه (Scottish Black face) وبعد 051 يوما هي فترة الحمل انتهت بمولد (دوللي) وهي نسخة طبق الأصل من النعجة الأم التي أخذ من ضرعها الخلية المعطية (Donor Cell). ولابد أن نعرف أن هذه المحاولة تم إجراؤها 772 مرة منها 92 محاولة أدت إلى إنتاج أجنة عاشت أكثر من ستة أيام ماتت جميعها إلا دوللي والتي كانت في شهرها السابع وتتمتع بصحة جيدة جدا عند نشر نتيجة البحث في المجلات العلمية والإفصاح عنه إعلاميا لغير المتخصصين, ولكن لا أحد يعلم هل ستظل كذلك أم أنها سوف تواجه مشاكل?? وهل ستعيش دوللي عمرا يماثل عمر النعجة الأم? أم ستعيش أقل. حيث إن هذه النعجة (دوللي) قد نتجت من خلية عمرها ست سنوات وهل معنى ذلك أن السنوات الست ستحتسب من عمرها, عندها قد تعاني دوللي من شيخوخة مبكرة?. وهل من الممكن أن تصاب دوللي في وقت لاحق ببعض الأمراض الوراثية? فعملية النقل النووي قد يصحبها تلف في المادة الوراثية للنواة المنقولة, إذا حدث ذلك فإن دوللي من الممكن أن تعاني من بعض الأمراض ولكن ذلك لم يثبت حتى الآن والزمن كفيل بالإجابة عن هذه الأسئلة.

ليس الأمر بجديد

قال الله تعالى في كتابه الكريم سورة العلق الآيات 1-5 اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم, وهذا يعني أن العلم القليل الذي أمدنا به الله كما قال تعالىسورة الإسراء آية 85 وما أوتيتم من العلم إلا قليلا لابد أن نستغله لنفع البشرية والتجارب العلمية التي هي نتاج العلم الذي أمدنا به الله لابد أن يكون لها احترامها, ولابد أن نعطي العلماء الفرصة للبحث والتجريب والقيد الوحيد الذي يجب أن يوضع على العلم هو ألا يضر بحياة الإنسان أو البشرية. أما أن يكون العلم سببا للإفادة فيجب ألا يكون عليه قيود أو شروط, وقد أطلق الله للعلماء الحرية ليستغلوا علمهم كيفما شاءوا حين قالسورة الزمر آية 9 هل يستوي الذي يعلمون والذين لايعلمون كما قالسورة الرحمن آية 33 يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لاتنفذون إلا بسلطان كما وضع القيود حين قالسورة الإسراء آية 85 وما أوتيتم من العلم إلا قليلا وحين قالسورة البقرة آية 255 ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء. وقد توعد من يخل ب نظام الكون أو يأخذه الغرور حين قال سورة يونس آية 24 حتي إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا كما أنه وبناء على ما كتبه علماء الدين لا توجد آية قرآنية أو حديث يحرم التجارب العلمية أو يتحدى الاكتشافات, فالطب الآن يستطيع أن يتعرف على نوع الجنين داخل رحم الأم وقد يظن البعض أن هناك تعارضا بين ما توصل إليه العلم وبين نص الآيةسورة لقمان آية 34 إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم مافي الأرحام إلا أن الله تعالى قالسورة البقرة آية 255 ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء إذ لابد أن نعلم أن كل ما يتوصل إليه العلم ليس بمشيئتنا نحن ولكن بمشيئة الله ثم باجتهاد العلماء. وتجربة الاستنساخ التي نجحت أخيرا ليست إلا واحدة من التجارب التي يجب أن تأخذ فرصتها لنفع البشرية فإنه من الممكن أن يكون لها فوائد كثيرة, وعلى سبيل المثال فإن تجارب الاستنساخ لها فوائد عظيمة في عالم النبات كإنتاج سلالات مقاومة للأمراض إلى غير ذلك من الصفات, كما يمكن استخدامها في عالم الحيوان حيث إنه يمكن تحسين الصفات الحيوانية وإن شاء الله سوف يتمكن العلماء من إنتاج بويضات مستنسخة بعدد هائل لبعض الأبقار مثلا, وزرعها في أرحام أبقار من سلالة أخرى لإنتاج لحوم وألبان بكميات هائلة وبصفات خاصة, بالإضافة إلى أنه يمكن استغلال ذلك طبيا حيث إنه من الممكن جعل ألبان هذه الأبقار تحتوي على أنزيمات معينة أو عقاقير مضادة لبعض الأمراض وهذا ممكن وجائز علميا. وعلى مستوى الإنسان يمكن أن تؤدي تجارب الاستنساخ إلى فتح المجال إلى تجارب شيطانية يمكن أن تؤدي إلى اختلاط الأنساب وغيرها من المشاكل الاجتماعية الخطيرة, لذلك فالاستنساخ في الإنسان مخاطرة لابد من الاحتياط لها قانونيا واجتماعيا. كما يمكن تحت ظروف معينة أن تؤدي تجارب الاستنساخ إلى فوائد كما في حالة العقم الميئ وس من علاجها طبيا, فمن الممكن لمثل هذه الأسر أن تحصل على طفل بأخذ خلية من الأب ووضعها في رحم الأم ليُنتَج جنين معروف النسب. لذلك فإننا يمكن أن ننظر لتجارب الاستنساخ مثل تجارب الطاقة النووية, فكما أن لهذه التجارب فوائد عظيمة إلا أنه إذا أسيء استخدامها سيكون لها أضرار جسيمة. وإذا تكلمنا عن الاستنساخ في الإنسان فإنني أقول إن محاولات كثيرة لاستنساخ خلايا بشرية للحصول على أجنة قد حدثت من أعوام مضت. ففي عام 1993 قام علماء الأجنة في جامعة جورج واشنطن باستنساخ أجنة بشرية غير مكتملة ثم قاموا بتقسيم هذه الخلايا إلى أجزاء زرعت في المعمل لتنمو من جديد حتى وصلت إلى الحجم الذي يمكن وضعه في رحم المرأة ولكن ذلك لم يتم. سبق هذه المحاولة محاولات عديدة مشابهة في الحيوانات ففي سنة 1950 قام العلماء بتجميد خلايا ملقحة لأبقار معينة عند درجات حرارة منخفضة تحت الصفر وذلك لكي تنقل في أرحام أبقار أخرى, تلتها محاولة لنسخ ضفادع في سنة 1963 حيث قام العالم جون جارون باستنساخ ضفادع إلى أن تطورت أفكار العلماء لاستنساخ الإنسان, وقد أدى ذلك إلى ظهور فيلم الخيال العلمي عن استنساخ الزعيم الألماني هتلر وظهر ذلك في فيلم (أولاد من البرازيل) في أواخر السبعينيات. تلت هذه الأفكار محاولات عديدة وناجحة لعمليات التلقيح الصناعي, ففي سنة 1983 كانت هناك أول أم تحمل في بطنها أول طفل بالتلقيح الصناعي, والتلقيح الصناعي هو أن يتم تلقيح البويضة بالحيوان المنوي بواسطة تقنيات معملية ثم يتم زرع البويضة المخصبة في المعمل (In Vitro) وبعدها تنقل إلى رحم الأنثى. ولم يحرم الإسلام التلقيح الصناعي لأن الله تعالى قالسورة الواقعة الآيتان 58-59 أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون فالتحدي الحقيقي في خلق الحيوان المنوي أو البويضة والعلماء لايخلقون شيئا بل أجروا التلقيح في المعمل ثم وضعوا الجنين داخل الرحم فقط. وأيضا في الاستنساخ فالعلماء لم يخلقوا الخلية بل أخذوها حية وأثروا عليها بمؤثرات جعلتها تنقسم ثم وضعوها في الرحم فصارت جنينا بإذن الله. إذن فهناك فرق كبير بين الخلق والاستنساخ.

التحريم والتقنين

لقد أثيرت أسئلة عديدة حول قضية الخلق والاستنساخ منها من يفترض أن حواء ـ التي خلقها الله من أب بلا أم ـ استنسخت من خلية من سيدنا أدم عليه السلام وأيضا سيدنا عيسي عليه السلام ـ الذي خلقه الله من أم بلا أب ـ استنسخ من خلية من السيدة مريم العذراء. وهذا غير صحيح فلو كان كذلك لكانت حواء ذكرا وعيسى أنثى إذ لابد أن يشابه المستنسخ المستنسخ منه أما خلق حواء وعيسى فهذا هو الإعجاز, وتلك هي قدرة الله سبحانه وتعالى. ومن النظرة العلمية فإنني أقول إن العلماء قد نجحوا في استنساخ النعجة (دوللي) وتحريم تجارب الاستنساخ لن يمنع من الاستمرار في محاولة إجرائها على الإنسان لذلك فعلينا أن نستعد للمرحلة القادمة لا بالتحريم ولكن بالتقنين ولاندري ماذا سيحدث غدا.

 

عبدالفتاح محمد عطاالله

 
  




نجح استنساخ النعاج





مسبار في سمك شعرة اختراق البويضة