أوراق أدبية فضائل الكتابة جابر عصفور

أوراق أدبية فضائل الكتابة

بين صناعة الكتابة وصناعة الشعر صراع اجتماعي أخذ شكلا أدبيا، وجاء انعكاسا لتغير لحق ببنية الدولة العربية، فما أبعاد هذا الصراع وما دلالاته؟

لم تكن مكانة " الكاتب" التي تصاعدت مع تأسيس الدولة، وازدهار المدينة العربية، تمضي دون منازعة من أنصار المكانة القديمة التي احتلها "الشاعر" في الثقافة الشفاهية التي استبدلت بها "الدولة الجديدة" الثقافة الكتابية، فقد ناوشت مكانة "الكاتب" سهام الذين كانوا يدافعون عن سلطة الشاعر التقليدية من ناحية، ويلوذون بقيم البداوة التي ازدهرت فيها الثقافة الشفاهية من ناحية أخرى. وكان الدفاع عن سلطة الشاعر القديمة، ومنازعة سلطة الكاتب الجديدة، يعني الهجوم على "الكتابة" التي أخذت من المعاني والدلالات ما يؤكد حضورها الواعد الذي أخذ يخايل الأذهان، مع استقرار الدولة الأموية، وتأصيل أنظمتها الإدارية التي أكدت المرتبة الصاعدة للكاتب الوزير.

أشرف صناعة

لقد اقترنت المرتبة الصاعدة للكاتب الوزير بنوع من الوعي الذاتي بالكتابة من ناحية، والشعور بضرورة التضامن ضمن جماعة متكاتفة من ناحية ثانية، والإحساس بروح هذه الجماعة في الصلة بين أبناء الصناعة الواعدة من ناحية أخيرة. وتكشف رسالة عبدالحميد الكاتب التي وجهها إلى أقرانه الكتاب عن وعي آخر كتاب بني أمية البارزين بصناعة الكتابة التي انتمى إليها، وإيمانه بضرورة تضامن أبناء صناعتها بما يؤكد معنى الجماعة المتكاتفة في الدفاع عن مصالح الصناعة وصيانتها، وفي الوقت نفسه، تأسيس، وتأصيل آداب للمهنة، يهتدي بها الجميع، دعما لمكانة الجماعة، ورفعا من شأن الصناعة بالقياس إلى غيرها من الصناعات. وطبيعي أن يستهل عبدالحميد الكاتب رسالته بمكانة الكتاب بالقياس إلى غيرهم من الجماعات الغائبة عن السياق، لكن التي يومئ إليها السياق، أعني جماعة الشعراء الذين انحدرت بهم المكانة الاجتماعية، وجماعة أهل السيف الذين لم يكفوا عن منازعة الكتاب في مكانة القرب من السلطان والهيمنة عليه. ومنذ السطر الأول، في الرسالة، يتوجه عبدالحميد الكاتب إلى الله سبحانه وتعالى، داعيا أن يحفظ "أهل هذه الصناعة"، وأن يحوطهم ويوفقهم ويرشدهم. ويقرن الدعاء بفضائل الكتابة والكتاب، فالله جل وعز جعل الناس بعد الأنبياء والمرسلين (صلوات الله عليهم أجمعين) ومن بعد الملوك المكرمين سوقا، وصرفهم في صنوف الصناعات التي هي سبب معاشهم، وخص معشر الكتاب بأشرف صناعة بالقياس إلى غيرهم، ذلك لان الكتاب أهل الأدب والمروءة، والحلم والروية، وذوي الأخطار والهمم، بهم يستقيم الملك، وتستقيم أمور الرعية. يحتاج إليهم الملك في عظيم ملكه، والوالي في القدر السني والدني من ولايته، ولا يوجد كاف إلا منهم، فموقعهم من الملوك والولاة موقع أسماعهم التي بها يسمعون، وأبصارهم التي بها يبصرون وألسنتهم التي بها ينطقون، وأيديهم التي بها يبطشون. ولعل في إشارة عبدالحميد إلى "اليد" على وجه التحديد ما يشير إلى القوى المناوئة لمكانة الكتابة، وهي القوى الضاغطة التي تلمح إليها العبارة التي تقول إن الكتاب، إذا آلت الأمور إلى موئلها، وصارت إلى محاصلها، ثقات الملوك دون آهليهم وأولادهم وأقربائهم ونصحائهم.

وحين يدعو عبدالحميد الكاتب للكتاب بأن يمتعهم الله بها خصهم به من فضل صناعتهم، وأن يديم سربال النعمة عليهم، فإنه يقرن فضل الصنعة المعنوي بعائدها المادي، ويصل الرتبة بالراتب، والمكانة بالدخل، اشارة منه، فيما أظن، إلى تميز صناعة الكتابة عن صناعة الشعر، في سياق اجتماعي أدبي لم تنقطع فيه مناظرات المفاضلة بين الكاتب والشاعر. ومن المؤكد أن المناظرات المتكررة حول المفاضلة بين بلاغة الشعر وبلاغة النثر، وهي المناظرات التي بدأنا نسمع عنها مع تأكد معنى الدولة، ورسوخ دلالة المدينة، كانت شكلا من أشكال الصراع الاجتماعي الذي أخذ شكلا أدبيا، طرفاه: الكاتب الذي أصبحت كتابته مركز الحضور المديني للدولة المتعددة الأبعاد والوظائف، والشاعر الذي انزوى حضوره الشعري إلى الهامش الاجتماعي بالقياس إلى الكاتب والدولة في آن. وكما كان الهجوم على "الكتابة" يعني الدفاع عن وظائف "الشعر" القديمة، في هذا السياق، كان الدفاع عن "الكتابة" وتعداد فضائلها يعنى تأكيد التراتب الاجتماعي الجديد الذي تعددت به وظائف الكتابة، والذي فرض نوعا جديدا من التراتب الأدبي الذي ارتقت فيه الكتابة إلى الذروة من فضائل الصناعات.

بين الملوك والعامة

ولم يكن من المصادفة، والأمر كذلك، أن يبسط التراتب الاجتماعي الأدبي الجديد نفسه على حركة التأليف، ونقرأ عن "صناعة الكتابة" إلى جانب "صناعة الشعر"، وأن يتجاور الاثنان في كتاب العسكري "الصناعتين: الكتابة والشعر" أو كتاب ابن الأثير "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر"، ولكن بالقدر الذي سمحت به سطوة تصانيف جديدة أكدتها مكانة كتب من أمثال كتاب "الوزراء والكتاب" للجهشياري، و"أدب الكاتب" لابن قتيبة بشروحه العديدة، و"أدب الكتاب" للصولي، و"صناعة الكتاب" لابن النحاس، و"مواد البيان" لعلي بن خلف، و"حسن التوسل إلى صناعة الترسل" للشهاب الحلبي، وكلها كتب دالة على غيرها الذي انفرد بتأصيل صناعة الكتابة، وذلك في سياقات الزمن المتتابع الذي اكتملت دائرته بموسوعة القلقشندي الضخمة "صبح الأعشى في صناعة الإنشا". ولم يكن من المصادفة، في الوقت نفسه، أن يبدأ أغلب هذه الكتب بموضوع محدد، ثابت، متكرر، هو "فضل الكتابة، وبيان منفعتها وقسمتها"، وهو باب يتضمن معنى الدفاع عن الكتابة في وجه خصومها الذين عارضوا احتلالها قمة التراتب الأدبي الاجتماعي، ويتضمن تأصيل مكانة الكتابة بما هو حصر لفضائلها، وتعداد لمنافعها، وذلك على نحو يبدو فيه موضوع هذا الباب، من حيث دلالته المائزة، أقرب إلى التبرير الأيديولوجي للمكانة السياسية - الاجتماعية - الأدبية للكاتب/ الوزير، سواء من منظور علاقته بالخليفة الذي هو قمة التراتب الاجتماعي السياسي، أو علاقته بالرعية الذين تتدرج مراتبهم هابطة إلى أدنى السفح الاجتماعي السياسي.

ولقد قال علي بن خلف الكاتب، صراحة، أن صناعة الكتابة من المرافق المشتركة التي لا يخلو خاص ولا عام من الأخذ منها، لحاجته وضرورته إلى استعمالها أو الإفادة منها، ولقيامها بمصالح الملوك الذين هم نظام الأمور وقوام الجمهور، ووقوع الاضطرار إلى المتحلين بها من الكتاب لتوسطهم بين طبقتي السلاطين والرعية، لأن كلتا هاتين الطبقتين في الطرف الأبعد من الأخرى، وقوام كل واحدة منهما بأن تتصل بصاحبتها، ولا سبيل إلى اتصالهما بأنفسهما مع تباينهما، وإنما يتم ذلك بحصول طبقة ثالثة مشاركة لهما في خواص أفعالهما، آخذة من أخلاقهما بنصيب، لتؤدي عن كل طبقة إلى الأخرى ما يصلها بها، إذ لا يوصل بين الطرفين المتباعدين إلا بمتوسط بينهما آخذ من كل منهما بمجاورته له. وليس من طبقات الناس من حصل في هذه الرتبة، رتبة التوسط بين الملوك والسرقة، فيما يقول علي بن خلف، سوى الكتاب الذين يشاركون الملوك في كبر الهمة وجلالة الخطر، ويشاركون العامة في التواضع والاقتصاد، ولذلك اختصوا بالسفارة في مصالح الرعية عند السلاطين، واستيفاء حقوق الملوك من الرعية، والتلطف في الصلة بينهما، فالحاجة إليهم ضرورية لانتظام أحوال الملوك والرعية، والحفاظ على نظام الدولة وتراتبه الهرمي الذي يحل الكتاب - في هذا التبرير - محل العقل المنظم والمعيار الضابط لكل الأطراف. وظني أن هذا التبرير الأيديولوجي لا يقتصر على رفع موقف الكتاب بالقياس إلى نظائرهم التقليديين، الشعراء، أو نقائضهم المحدثين، قادة الجند أو العسكر، بل يعلي من مكانتهم بالقياس إلى الملوك أنفسهم. وذلك هو المعنى الذي قصد إليه الزبير بن بكار، في تقديري، حين قال عبارته الملتبسة: "الكتاب ملوك وسائر الناس سوقة"، وفي عبارة لا تختلف كثيرا، من حيث الدلالة، عن عبارة سهل بن هارون التي تقول: "الكتابة أول زينة الدنيا التي إليها يتناهى الفضل، وعندها تقف الرغبة"، وكلتا العبارتين يسهل فهم مراميها المراوغة حين نقرنها بما صرح به ابن المقفع حين قال: "الملوك أحوج إلى الكتاب من الكتاب إلى الملوك".

تبرير أيديولوجي وقد أضاف علي بن خلف ما ينقل التراتب من مستوى سلطة الدولة إلى مستوى العلاقة بين أنواع الأدب، ومن ثم الأدباء والبلغاء، فذهب إلى أنه ما من أحد يتوسل إلى السلاطين بالأدب، ويمت إليهم في البلاغة بسبب، إلا وهو نافلة لا ينال ما يناله إلا على وجه الإرفاق أو الإعانة خلا الكاتب، فإنه ينال الرغائب العظيمة من طريق الاستحقاق، لموضع الافتقار اليه والحاجة الحادثة عليه. ونقل ابن النحاس عن رسالة أبي جعفر الفضل قوله: "الكتابة.... قطب الأدب، وفلك الحكمة.... ولو أن فضلا ونبلا تصور لتصورت الكتابة... ولولا أن الصناعة مربوبة لكانت الكتابة سيدا لكل صناعة... بها قامت السياسة والرياسة، وإليها ضوت الملوك بالفافة والحاجة، واليها ألقت الأعنة والأزمة، واعتصموا في النازلة والنكبة، واتكلوا في الأهل، والولد، والذخائر، والعقد، وولاة العهد، وتدبير الملك، وقراع الأعداء، وتوفير الفيء، وحياطة الحزم، وحفظ الأسرار، وترتيب المراتب، ونظم الحروب".

والواقع أن الحديث عن فضائل الكتابة، من منظور التبرير الأيديولوجي الذي أشرت اليه، قد أخذ أشكالا متعددة، وانبنى كلى محاور مختلفة، واتخذ اتجاهات متباينة. والبداية النظرية في ذلك كله هي ما يفلسف به علي بن خلف الموضوع، من منظور الصلة بين الكتابة والحكمة، وذلك حين يؤكد أن الكتابة، من الصنائع الظاهرة الشرف والجلالة، لاختصاصها بالقوة الإنسانية، وعودها بتمام الفضيلة التمييزية بقسميها العلمي والعملي، لأننا إنما نميز فاضل الصنائع عن مفضولها بتأمل أحوالها، فما كان منها مختص بهذه القوة كصناعة الطب والنجوم فهو الفاضل، وما كان مختصا بالحس كالبناء والنجارة وما شابههما فهو المفضول.

وصناعة الكتابة مختصة بالقوة المميزة من قسميها العلمي والعملي. أما القسم العلمي فهو البيان عما يخرجه الكاتب من الصور القائمة في الأذهان إلى الفعل بالألفاظ، والحساب الذي يبرزه من الوهم والعقد. أو لبيان والحساب مختصان بالقوة المميزة التي فضل بها الإنسان على سائر الحيوان. وأما القسم العملي فهو الخط الذي لولاه ما انتقلت الكلمات من اللسان إلى الآذان، والعلم من السلف إلى الخلف. وإذا كان لكل إنسان نصيب من تأليف الكلام، ورسم الخط وعقد لحساب، فان شرف الصناعة وفضيلتها إنما تحصل للكتاب الذين يحوزون هذه الأوصاف على التمام والكمال، دون غيرهم ممن قد يشاركهم في استعمال بعض أجزاء الصناعة. هكذا أصبحت الكتابة تمام لنطق والمبلغ به إلى أكمل غاياته، عند ابن خلف الذي يرتب على هذا الأصل النظري نتيجة مؤداها أن السلطان الذي هو رئيس الناس، ومستخدم أرباب كل صناعة، يفتخر أن تكون فضيلتها له حاصلة، مع ترفعه عن التلبس بصناعة من الصنائع الحسية، واستنكافه أن يقع اسم من أسمائها عليه. وفي رضى السلطان الذي يسود أهل نوعه بالتحلي بهذه الصناعة ما يدل على أنها أشرف الصنائع رتبة وأعلاها درجة. وينتقل الدفاع عن الكتابة، بعده هذه المقدمة النظرية التي لا تخلو من مرام أيديولوجية، إلى المبررات الدينية التي تعطي لصنعة الكتابة موضع الأولوية في الرتبة والمنزلة بالقياس إلى غيرها من الصناعات، وذلك على سند من تأويل الشرع، وتفسير النصوص القرآنية بما يخدم المقصد المرتبط بتأكيد فضائل الكتابة. وأول ما نطالعه، في كتب صنعة الكتابة، أن الله تعالى شرف الكتابة بإضافتها إلى نفسه، وإن كان الحكم في إضافتها إليه سبحانه على غير الحكم في إضافتها إلى خلقه، فقال عز وجل: وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء [الأعراف/ 145]. وقال: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس [المائدة/ 45] ونسب تعليمهما إلى نفسه فقال تعالى: اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم [العلق/ 1-5].

وجاء في التفسير أن هذه السور مفتتح الوحي وأولى الآيات آلتي أنزلها الله تعالى من كتابه على رسوله. وفي ابتداء الله تعالى فيما عدده من نعمه على الإنسان بذكر القلم وتعليمه إياه به ما لم يعلم من قبل أظهر دليل على عظم رتبة الكتابة. ودليل آخر على هذه الرتبة الشريفة أن الله تعالى أقسم بالكتاب في قوله: والطور. وكتاب مسطور. في رق منشور [الطور/ 1-3]. والأقسام لا تقع منه تعالى إلا بشريف ما أبدع كالشمس والقمر والنجوم وما أشبهها مما به نظام الخلق واتساق التدبير وإلحاقه القلم والخط به في القسم منبئ عن شرف رتبة الصنعة التي تقوم بهما، وأنها أصل عظيم من أصول منفعة الخلق. ويضاف إلى دلائل شرف الكتابة أن الله تعالى جعل عدم تحصيل نبيه الكريم لها من أعظم دلائل النبوة، لتوصل الإنسان بها إلي تأليف الكلام المنثور وإخراجه في الصور التي تأخذ بمجامع القلوب، فكان عدم علم النبي بها من أقوى الحجج على تكذيب. معانديه وحسم أسباب الشك فيه. يدل على ذلك قوله تعالى، مخاطبا النبي (صلى الله عليه وسلم): وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون [العنكبوت/ 48]. ولما أعدمه هذه الصناعة عوضه ما هو أجل منها، وهو رفع الارتياب في أمره وتنزيهه عن ظنة في نقص، فعدم هذه الصناعة فيه فضيلة وفي غيره رذيلة.

نظام الأمور

يضاف إلى التبرير الديني لفضائل الكتابة، ولا ينفصل عنه في الوقت نفسه، تبرير شرفها بالفضائل المأخوذة من مراتب أهلها ومنازل أربابها، فقد عرف أن الذين وضعوا رسومها هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمها يؤكد الجهشياري وخلفاؤه الذين تبعوه، في الدفاع عن المكانة العليا للكتابة. وقد ذهب الجهشياري إلى أن أول من خط بالقلم إدريس عليه السلام، وأنه سمي إدريس لدراسته الكتب المنزلة، وكان يسمى الكاتب. وقيل إن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام اخترع القلم العربي وكتب به ولم يسبق إليه. أما من تحلى بالكتابة في الأعصر السابقة على الإسلام فكثير لا يحصيهم العدد. وكان ملوك الفرس، وهم أسوس ملوك الأمم وأعرفهم بالرتب، فيما يذهب ابن خلف، يقولون: الكتاب نظام الأمور، وجمال الملك وبهاء السلطان، والألسنة الناطقة عنه، وخزان أمواله، والأمناء على رعيته وبلاده. وكانوا إذا أنفذوا جيشا قرنوا بقائده وجها من وجوه الكتاب، وأمروه بألا يحل ولا يعقد إلا برأيه، تعويلا على فضل رأي الكاتب وحزامته. وكانوا يقولون: ينبغي للملك ألا يكون عنده آثر من وزير صالح العقل والرأي، وافر الأدب، بصير بالأمور.

أما من وقع عليه اسم الكتابة في الملة الإسلامية، وبلغ إلى المنزلة العليا من الخلافة والرتبة السنية من الإمارة، فأسماء كثيرة لافتة، لعل أكثرها دلالة، في هذا السياق ما يذكره ابن عبدربه، في "العقد الفريد"، من أصحاب الأقلام الذين تنبهوا بعد الخمول، واحتلوا بالكتابة الرتب العلية، مثل سرجون بن منصور الرومي الذي كان روميا خاملا فرفعته الكتابة، وكتب لمعاوية ويزيد بق معاوية ومروان بن الحكم وعبدالملك بن مروان، ومثل حسان النبطي كاتب الحجاج، وسالم مولى هشام بن عبدالملك، والربيع، والفضل بن الربيع، ويعقوب بن داود، ويحيى بن خالد، وابن المقفع، والفضل بن سهل، وأحمد بن يوسف، ومحمد ابن عبدالملك الزيات، والحسن بن وهب، وإبراهيم بن العباس الصولي. وقد أضاف القلقشندي إلى هذه الأسماء قوله أن هؤلاء بعض من شرفته الكتابة، ولو اعتبر كل من شرف بها لفاقوا الحصر وخرجوا عن الحد. وهذا الوزير المهلبي كان في أول أمره في شدة عظيمة من الفقر والضائقة، ثم ترقى بالكتابة حتى وزر لمعز الدولة ابن بويه الديلمي في جلالة قدره. وهذا القاضي الفاضل أصله من بيسان من غير بيت الوزارة، رفعته الكتابة حتى وزر للسلطان صلاح الدين الأيوبي، وعلت رتبته عنده، حتى بلغ من رتبته أن كان يكتب في كتب السلطان صلاح الدين عن نفسه بما أحب. وأبلغ من ذلك أبوإسحاق الصابي صاحب الرسائل المشهورة، كان على دين الصابئة مشددا في دينه، وبلغت به الكتابة إلى أن تولى ديوان الرسائل عن الطائع والمطيع وعز الدولة ابن بويه، وجهد فيه عز الدولة أن يسلم فلم يقع ولما مات رثاه الشريف الرضي بقصيدة فلامه الناس لكونه شريفا يرثي صابئيا، فقال: إنما رثيت فضله.

والواقع أن مثل هذه الأسماء وغيرها من الأعلام التي ذكرها المؤلفون، في صناعة الكتابة، تنطوي على معنى التخييل، فهي أسماء دالة على نماذج تغري بالاتباع والتقليد، وتميل بالناس إلى المهنة التي ترتقي بصاحبها اجتماعيا، وتعلو به سياسيا، وتفيض عن حاجاته اقتصاديا. وذلك نوع من التخييل تزداد حدته، ويقوى تأثيره، في بنية الثقافة التي ينعكس عليها التراتب الاجتماعي، كما تنعكس صورة الأصل على سطح المرآة. والعكس صحيح بالقدر نفسه، فالثقافة التي تنبني بالتراتب الاجتماعي تعيد إنتاج نفسها في التراتب الأدبي، وتعلي من شأن الأقرب إلى السلطان، وتبرر هذا العلو في صياغتها التخييلية، أعني الأقاويل التي لا بد أن تستثير مخيلة الشباب المتطلع إلى المستقبل، في مجتمع تزداد حدة الهوة فيه بين الخاصة والعامة، وتدفعه إلى العمل بمقتضاها، والسير على منوال النموذج الذي ترسمه، والتطلع إلى المكانة العليا التي يمكن أن يحتلها. وعلينا أن نتخيل كيفية استجابة الشباب في العواصم العربية طوال العصر العباسي، وهم يسمعون، أو يطالعون، ما يستثير الطموح إلى السلطة، ويداعب الحلم بالقوة، ويؤكد لهم أن الصنائع كلها معاون ومرافق لا تنتظم عمارة العالم إلا بها. وتنقسم، طبقيا، إلى ضربين: خاصية وعامية. أما العامية فهي صنائع المهن وأهل الأسواق والحرف. والخاصية هي التي تقع في حيز الملوك والسلاطين، ويتوزعها أعوانهم وأتباعهم.

ويقع التمييز بين هذه الصنائع في الخطاب الأيديولوجي، والتفرقة بين أقدارها، بأن ينظر إلى مقدار العائد منها، في أمور الملك والسلطان والرعية، فما كان معلقا بالأمر الأهم وكانت الحاجة إليه ألزم، وقدر المنعة به أجسم، فرتبته في الصنائع الخاصية أشرف وألطف. وليس من الصنائع صناعة تجمع هذه الفضائل إلا صناعة الكتابة، فيما يقال، ذلك لأن الملك محتاج في انتظام أمور سلطانه إلى ثلاثة أشياء لا ينتظم ملكه إلا بها. الأول: رسم ما يجب أن يرسم لكل من العمال والمكاتبين عند السلطان في الأمور والأعمال المنوطة بهم، ومخاطبتهم بما تقضيه السياسة من أمر ونهي، وترغيب وترهيب، ووعد ووعيد، وحمد وذم. والثاني: استخراج الأموال من وجوهها واستيفاء الحقوق السلطانية. والثالث: تفريع الأموال في مستحقيها من أعوان الدولة وأوليائها الذين يحمون بيضتها ويسدون ثغورها. وهذه أعمال لا يقوم بها إلا كتاب السلطان الذين هم الأقرب إليهم من غيرهم، إذ ليس في متولي خدمة السلطان والمتصرفين في مهماته، أخص من الكتاب به، لأنهم - دون جميع الناظرين في أمور الدولة - خاصة الملك وبطانته، والمتفردون بالاطلاع على سرائره والعلم بأخباره.

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات