جمال العربية

جمال العربية

في الذكرى الستين لرحيله
المازني.. ووصية شاعرٍ يـُحتضر

كان إبراهيم عبدالقادر المازني نموذجًا فذًّا للمبدع الشامل. فهو قاصّ وناقد ومترجم وكاتب مقال من طراز رفيع. وغاب عن الناس وجهه الإبداعي شاعرًا عالي القامة، متميز المذاق بين زميليه في جماعة الديوان: العقاد وشكري، مع أن له ديوانًا في مجلدين، صدر الجزء الأول منه عام 1913، والثاني عام 1916.

بالرغم من تعدد وجوهه الإبداعية، يظل لوجهه الشعري حضوره ونفاذه وسحره، واتصاله بأعمق ما تمثله الوشائج والعواطف، والأفكار والعقول. فهو شاعر النفس الإنسانية الذي غاص في حناياها وأعماقها، وأحزانها وانكساراتها، ولواعجها وأشواقها وتطلعاتها ومطامحها. كاشفًا في سياق غوصه العميق عن نفسه الحزينة المنكسرة، مضفيًا عليها غلالة من سخريته وفكاهته المرّة، متعاطفًا مع سائر النفوس والأشياء، عبر نظرة شاملة للكون والحياة، ومحاولة دائبة للبحث عن التعبير الطازج غير المكرور.

في هذه الجِدّة والطزاجة، وفي غمار هذه المحاولات، تكمن عبقرية المازني وتفرّده، ونجاحه في الارتفاع على الانكسارات والإخفاقات، والاستعلاء على مواقف الضعف والنكران. وهو الذي ظلّ يعاني طيلة حياته قِصرًا في القامة، وضآلة في الجسم، وعرجًا في ساقه بسبب حادث قديم.

لكنْ قارئ شعر المازني لا يلبث أن يذوب في رحاب قلب كبير وعاطفة جياشة، متجاوزًا سخريته ومرارته وحدّته، واصلاً إلى الطبقة الماسية أو الذهبية في تكوينه الوجداني، حيث الاتساع الرحيب للضعف الإنساني، والخضوع لسيطرة المقادير، والانكسار أمام عواصف الحياة العاتية، وفجاءاتها المدمّرة.

وفي التفات عديد من النقاد إلى شعر المازني، وعكوفهم على تأمله وتحليله، ما يدلّنا على وعيهم بأهمية هذا الشاعر، وكشفهم عن إحساسه الشديد بالفردية والحرية الشخصية، والطابع الجديد لشعره بين شعر جماعة الديوان، تمثيلاً لمذهب الجماعة التجديدي وطابعها الذهني.

فالدكتور محمد مندور يصف نظرية الشعر عند المازني بأنها تجمع بين رومانسية المضمون ورمزية التعبير، على حين يرى الدكتور مصطفى ناصف أن المازني في نقده وشعره ذو حساسية رمزية، أما الدكتور محمود الربيعي فيحب أن يبدأ الحديث عن المازني بحكم عام يقول فيه إنه رومانتيكي من رأسه إلى قدمه، مؤكدًا أن موقفه الفني كله من الحياة موقف رومانتيكي. ويرفض الدكتور عبداللطيف عبدالحليم أن يكون المازني في نظريته للشعر منطويًا تحت أي اتجاه من الاتجاهات الأوربية، لأن في نظريته أمشاجًا من كل المذاهب والاتجاهات، ففيها الاهتمام باللغة وفيها العناية بالنفسيات، فهي إذن نظرة متكاملة لفن الشعر المرتبط بالشاعر والحياة.

ولا يمكن النظر إلى شعر المازني، بعيدًا عن تأثّره وتأثّر جماعة الديوان بالآداب الأجنبية وبخاصة الأدب الإنجليزي والشعر الإنجليزي، مستفيدة منه، مهتدية بضيائه، دون أن تكون مقلِّدة له. وقد التفت هؤلاء الشعراء وبخاصة المازني إلى المدرسة الغالبة على الفكر الإنجليزي الأمريكي بين أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر وقد كانت معروفة بمدرسة النبوءة والمجاز، ثم خلفتها مدرسة قريبة منها تجمع بين الواقعية والمجازية. وقد سرى من روح هاتين المدرستين الشيء الكثير إلى الشعراء المصريين الذين جاؤوا بعد شوقي وزملائه، ولكنه كان سريان التشابه في المزاج واتجاه العصر كله، لا التشابه في التقليد والغناء، أو هو سريان جاء كما يقول العقاد من تشابه في فهم رسالة الشعر والأدب، لا من تشابه فيما عدا ذلك من تفصيل.

ويصور المازني عملية الإبداع المعقدة التي تمرّ بمراحل كثيرة تشمل الفكر والوجدان والخيال، وما يعانيه فيها من مخاض وبخاصة حين يكون الموقف موقف إبداع شعري بقوله:

«وكثيرًا ما أشعر أني مدفوع إلى الكتابة، وأني لا أملك التحول عنها أو إرجاءها، وأني سأشقى وأسقم إذا لم أذعن لهذا الدافع الغامض. فأجلس إلى المكتب، وليس في رأسي شيء سوى الإحساس العام الثقيل بالحركة، وبأنها توشك أن تتمخّض عن خاطر معين أو خالجة معينة، ويكون القلم في يدي تلك اللحظة، فأخط به على الورق وأنا حائر ذاهل لا أُحسّ ما حولي، بل لا قدرة لي على الإحساس بشيء مما يحيط بي، إلا إذا حُملْت على ذلك حملاً، وخرجت بها من ضباب الحيرة والذهول والسّهْو بجهد واضح. ثم تخطر لي عبارة، وأنا لا أدري إلى أين تمضي بي، ويغلب أن يطول ترددي في البداية، ثم يمضي القلم بعد ذلك بلا توقف، ويستغرقني الموضوع وتستولي روحه عليّ فلا يبقى لي بال إلى شيء. حتى إذا انتهى الأمر ونضب المعين، ألقيت القلم والورقات، ورحت أتثاءب وأتمطى، كأنما كنت نائمًا، ويكون هذا آخر عهدي بما كتبت في يومي. وقد استعملت لفظ «التمخّض» وأنا أعنيه، فليس ثمَّ أدنى فرق فيما أعلم وأُحسّ بين التمخّض بالجنين وحركة التوليد في النفس».

هذا «التمخض» أو معاناة المخاض يصوره المازني شعرًا حين يقول:

سيعرقني يأسي، ويغلبني ضنًى
يُغذّ بنفسي للبوار، ويُوجف
فلا تنفسوا شعرًا عليَّ مفوّفًا
له لو علمتم جانبٌ مُتخوّفُ
كما نظمت هذي الرياح غمائمًا
لها من غروب الشمس وشيٌ مطرّفُ
يُهدّدها مما يضمُّ مُمزّقٌ
ومما يُوشّيها مُذيبٌ ومُتلفُ
لنا الله من قوم نذيبُ نفوسَنا
ويجني سوانا ما نَشورُ ونقطفُ
ويصدر عنّا الناسُ ريّا قلوبهم
ونحن عطاشٌ بينهم نتلهّفُ
نذوق شقاء العيش دون نعيمه
على أننا بالعيش أَدرْىَ وأَعرفُ
ولكنه ما أخطأتْنا لذاذةٌ
إذا بلغ السُّؤْلَ القريضُ المُثقّفُ
إذا هو سّرى عن لهيفٍ مُفجّعٍ
وآنسَ قلبًا موُحشًا يتشوّفُ
فما تحفلُ الدنيا إذا جلَّ ظُلمها
ونحن من الأيام والعيش نُنصفُ

وحين يضيق صدره بالشعر وعذاباته وما يلاقي في سبيله من جهد ومشقة يقول:

من يشتري شعري على حُبّه
براحة الغافل عن دهره
من يشتري تغريدتي موْهنًا
بغطّة الجاهل عن فجرهِ
من يشتري دمعًا يُحسُّ الفتى
جولته، لا الفيض من قطْرهِ
من يشتري نفسا وآلامَها
بثقلةَ المأفوك في فكرهِ
من يشتري هذا؟ سوى مائقٍ
يسعى برجليْهِ إلى ضُرِّهِ

وأخيرًا نصل إلى قصيدة القصائد في شعر المازني وهي قصيدته «الشاعر المحتضر» كأنها وصيته الأخيرة التي يبوح فيها بما كتمه طويلا عن نفسه وعن الآخرين، مصورًا إحساسه الوجوديْ العميق بدنوّ المنية، متقمصًا حال هذا الشاعر الذي تتساقط نفسه مزقًا، ويذوي عوده لحظة بعد لحظة. عارضًا مكابداته ومجاهداته على مدار حياته من أجل أن يعلو على جراحه وينتصر على هزائمه وخيباته وانكساراته، مُفسّرًا سخريته الهازلة التي لم تكن غير وسيلة للمزيد من الشقاء، وانكشاف برق الأمانيّ الخُلّب، ولجوئه إلى الاستجارة بالدمع علّه أن يكون شافيًا له من أدوائه وعلاّته. والقصيدة شهادة ناطقة بالطابع الأصيل المميز لشعر المازني، وقدرته على الغوص في النفس، واستجلاء غوامضها والارتطام بشطآنها وصخورها، واجدًا عزاءه فيما سيبقى بعده من شعره، نورًا تستضيء به الدنيا، وحُسْنًا ليس يبلى.

يقول المازني.

فتًى مزّق الحبُّ المُبرّحُ قلْبهُ
كما مزّق الظلَّ الضياءُ أياديا
قضى نحْبهُ كالمزن فِضْنَ مدامعا
وخلّفن آثارًا لهنْ بَواديا
ولما دنا منه الحِمامُ، ورنّقت
منيّتهُ، نادى الصفيَّ المُصافيا
وكاشفهُ - والعينُ ينهلًّ ماؤها-
بما كان يُخفى من هوًى ليس خافيا
وقال وضمّ الراحتيْن على يد
كساها شآبيبَ الدموع الجواريا-:
بقيتَ، وبُلّغْتَ الذي بتَّ راجيًا
وإن كنتُ ما أُعطيتُ منك مُراديا
سيسقى الردى قلبي عن الحسن سلوةً
فلا بتّ حرّان الجوانح صاديا
ولا عجبٌ أن يُطفئ الموتُ غُلّتي
ويصبح داءُ العالمين دوائيا
كتمْتُكَ حبي، خشيةَ الصدِّ والقِلى
وحصّنْتُه حتى رمى بي المراميا
بعُدْتَ كماضي الأمسِ عنِّيَ غايةً
وأَقربُ شيءٍ أنت مثوًى وثاويا
أضرَّ بيَ الكتمانُ حتى عددْتُني
خليلا من التبريح والوجد خاليا
كأنيَ لم أحمل هواكَ. ولم أبتْ
أخا شُغُلٍ، يغري بصدري القوافيا
كأنّ قريضي لم تكن أنت سرَّه
وموحي معانيه العذاب البواقيا
مضى ما مضى، لم أدْر ما لذة الهوى
ولا ذقْتُها إلا بطرْفِ خياليا
إذا لجّ بي شوقي قنيْتُ حيائيا
وظلّت تباريح النزاعِ كما هيا
نجيِّي الصخورُ الصمُّ أركب ظهْرها
وأُفرغُ في أُذْنِ الظلامِ شكاتيا
وما بيَ حُبُّ الصخر والريح والدُّجى
ولكنّ حالاتٍ لهنَّ كحاليا
أرى في أديم الطوْدِ عاث برأسه الـ
خرابُ، وواراه الضبابُ مثاليا
وفي الظلمة الطخيْاء من ظلمة الأسى
مَشابهُ تدريها القلوبُ صواليا
إذا الليل واراني اطّرحْتُ الأمانيا
وكاد جمود الموتِ يُصْبي فؤاديا
وما كنتُ آبى الموْتَ سهلاً مذاقهُ
لو انّي إذا استأْويتهُ كان آويا
أرى الموت ظلّ العيش يبسط تحْته
فيغشى أدانيه، ويُخْطي الأعاليا
ألم تَر للأشجار، تمتدُّ تحْتها الـ
ـظلالُ، وتكسو الشمسُ منها النواصيا
فإن تُحتطبْ يومًا تُولّ ظلالها
وما إن يزيلُ الموتُ إلا الدياجيا
كذاك حياة الأفضلين فلا تلح
إلى الظلِّ، وانظر نورها المتراميا
فيا مرحبًا بالموت يُثلجُ برْدُه،
فؤادي، ويُنسيني طويل عنائيا
تموت مع المرء الهمومُ، ولن ترى
ككأس الرّدى من علّة العيش شافيا
ولستُ على شيءٍ بآسٍ، وإنني
لأهجرُ ظهر الأرضِ جْذلانَ راضيا
وما طال عُمري، غير أنّ لواعجًا
أَطلْن عنائي، فاجتويتُُ مقاميا
أهاب بنا داعي الردى، فترحّموا
وقولوا: سقى الله القلوبَ الظواميا
وقُم ودّع الأرضين عني، فإنني
بقيد الرّدى المحتوم، إلا لسانيا
وقل لجبالٍ عارياتٍ مخوفةٍ
تخال مواميهنّ للجنّ واديا
ألا أطلقي لي صوته والأغانيا
وغَذِّي بذكراها الشجونَ النّواميا
ألم تعِ عنه جنّةً عبقريةً
فقد كان يغشى مثلهنّ الفيافيا
وكيف تؤدي ما وعاهُ سماعُها
وما تُحسنُ الجنّانُ إلا التعاويا
وقل يا عيون الزهر غُضّي وأطرقي
قضى عاشق، أجلى العيون الروانيا
لقد كان في روض الجمال خميلةً
سقتْها دموع الحبّ، لا الطلُّ ساريا
فأعطشتُها حتى تصوّح عودُها
وأَلوْى بها عصفُ الرياح سوافيا
لقد أفردتْهُ نفسهُ بين قومه
فعاش خيالاً بينهم مُترائيا
وما كان إلا قوةً أحدقتْ بها
حوائلُ ضعفٍ أمرُها ليس باديا
فعاد، وما يسطيع حمْلاً لساعةٍ
فكيف بأيام حملّنَ لياليا؟
وما كان إلا كالسحابة أُفردت
وقام بها الرعدُ المجلجلُ ناعيا
وما كان إلا موجةً قد تحطمتْ
على ساحلٍ للعيش كم بات راغيا
وما غاله موتٌ، ولا هاضه كرًى
ولكنْ غدا من حُلمِ ذا العيش صاحيا
وما مات إلا الموت يا فجرُ فائتلقْ
وحوّلْ سناءً طلَّكَ المتلاليا
ولا غاب إلا في الطبيعة أُمِّهِ
وقِدْمًا أعارتْهُ الضلوعَ الحوانيا
فقوموا اسمعوا في هزْمة الرعدِ صوته
وفي سجْعةِ الغرِّيد ما بات شاديا
وفي حيثما تبدو لنا القدرةُ التي
دعتْهُ، فلبّاها، ولم يك عاصيا
أرى عيْنكَ اخضّلت، وعهدي بدمعها
عصيًّا، على ريْب النوازل، آبيا
لقد جلّ هذا الجفن عن عادة البكا
وقد قلّ فيضُ الدمعِ إن كنْتَ باكيا
تعزَّ ولا تُرخص لموتيَ أدمعًا
أُباةً على سوْم الغرامِ غواليا
سواءٌ علينا إن طوتْنيَ حفرتي
أبكَّيْتنَا أم بات قلبُكَ ساليا
بِحسبيَ أني سوف ألقى حِماميا
وأنت إلى جنبي تُراعي فنائيا
ولا تحسبوا أني قنِعْتُ تكرَّمًا
ولكنْ لأمرٍ ما عقرْتُ الأمانيا
وردّد أنفاسًا تردّدْنَ برهة
وحشرجْن حتى راح ما كان جاثيا
فخانَ الحبيبَ الصبرُ، فانقضّ فوقه
يُنادي مُرمًّا، لا يُبالي المناديا.

 

 

فاروق شوشة