الاعتراف بالشاعر جابر عصفور

الاعتراف بالشاعر

بين شرف الكلمة وشرف السيف مضى شعراء المعلقات، وكان عنترة بن
شداد نموذجا فريدا بينهم، ورغم رواج سيرته، إلا أنها لا تزال مصدرا للدرس.
.وللتأمل.

لم يضرب لنا ابن خلدون مثلا واحدا أو حكى حكاية تعليلية، عندما تحدث عن تنافس الشعراء وتنازعهم، في الجاهلية، حول تعليق أشعارهم على الكعبة، معتمدين في ذلك على ما لديهم من قدرة بقومهم وعصبيتهم، ولا أذكر أن أحدا قبل ابن خلدون أو بعده، وصف لنا مشهدا من مشاهد هذا التنازع أو التنافس الجاهلي الذي انتهى بالاعتراف بفحولة الشاعر، ومن ثم تعليق معلقته على الكعبة، ثمة أخبار هنا أو هناك عن المذهبات أو القباطي المدرجة أو السموط أو المشهرات أو السبع الطوال، وروايات تتناثر في هذا المصدر القديم أو ذاك عن سبق صاحب هذه المعلقة على غيره في هذا المعنى أو ذاك المنزع، ولكن لا يوجد في حدود علمي من الكتب التي اعتادت الحديث عن المعلقات ما يحدثنا، تفصيلا أو إجمالا، عن معركة خاضها هذا الشاعر أو ذاك، مستندا إلى فحولته أو عصبيته، مدعوما بشوكة قبيلته، إلى أن حقق النصر على معارضيه وأعدائه فأوصل قصيدته إلى المكان الذي رآه جديرا بها على أركان الكعبة.

والأيسر لمن يتطلع إلى مشاهد من هذا النوع أن يبحث في مجال آخر غير المجالات الرسمية المعتادة من كتب التراجم والأخبار والطبقات والمختارات، أو شروح المعلقات القديمة، أعني المجال الذي تنطلق فيه المخيلة الجمعية بأقصى طاقاتها الإبداعية، فترسم تفاصيل أمثال هذه المشاهد التي أغفلتها كتب التاريخ الأدبي الرسمي أو الفصيح، وذلك هو مجال الإبداع الجمعي للسير الملحمية التي تحكي تواريخ الأبطال المبرزين الذين أنتجهم الوجدان الجمعي بطرائق قد لا تختلف كثيرا، في التحليل الأخير، عن طرائق اختيار المعلقات وأصحابها.

وسيرة عنترة بن شداد على وجه الخصوص مصدر بالغ الثراء لهذا النوع من المشاهد، فهي سيرة أحد الفحول الذين يجسدون أوجها متعددة للنموذج الأصلي للشاعر العربي، وليس عنترة واحدا من أصحاب المعلقات السبع فحسب بل هو الوحيد منهم الذي حفظت الذاكرة الجمعية سيرته وسيرتها، وتناقلتها في ملحمة ضخمة وقد انتقلت السيرة كالمعلقة، من الحال الشفاهي إلى الحال الكتابي، ونسبت كتابتها إلى "قلم" الأصمعي المعمر في الجاهلية والإسلام، وتلك دلالة موازية لدلالة كتابة المعلقات في الخيال الجمعي، وامتداد لمبدأ التميز الإبداعي الذي ينزل به صاحب المعلقة منزلة الحكماء في الذاكرة الجمعية بواسطة سحر الكتابة، وتأكيد للوضع الاستثنائي لعنترة ومعلقته.

عنترة.. وضع استثنائي

ما أعنيه بالوضع الاستثنائي أن عنترة هو الوحيد من بين أصحاب المعلقات الذي لم يكن سيدا في قومه من مبتدأ أمره، فقد كان أحد العبيد السود الذين ينسبون إلى أمهاتهم، فهو ابن زبيبة الجارية الحبشية، وغراب من أغربة العرب، وهو العبدالأسود الزنيم، وهو معلول النسب بين سادات العرب فضلا عن أن اسم العبودية حالة ردية، فيما يقول أعداؤه في السيرة، ولكن عنترة العبدالأسود تغلب على حالته الردية في كل مستوياتها، فقد أوصلته فحولته في نزال الفرسان والشعراء إلى الحرية، واعترف به شداد سيد عبس ابنا له، وأحبته ابنة عمه عبلة جميلة جميلات بني عبس وأرفعهن حسبا، وأصبح عنترة أبا الفوارس بعد أن هزم كل الفوارس وقاد أقرانه من فرسان العرب إلى النصر على الفرس، وارتقت أمه زبيبة إلى رتبة الأميرات الشريفات، فقد اكتشفت نسبها الذي يرجعها إلى جدها حام بن سام، وحق لعنترة أن يقول:

وأنا المجرب في المواقف كلها

من آل عبس منصبي وفعالي

منهم أبي شداد أكرم والد

والأم من حام فهم أخوالي

وأنا المنية حين تشتجر القنا

والطعن مني سابق الآجال

والواقع أن عنترة لم يرث مكانة انتهت إليه دون اختيار منه شأن غيره من شعراء المعلقات، وإذا كان قد انتزع منزلة الفارس بسلاحه، عندما انتصر على الفرسان، فإنه تبوأ منزلة الشاعر بمقدرته على النظم، منذ عيره أحد بني عبس بأنه لا يقول الشعر، فأنشده قصيدته التي سحرت الألباب، ومنذ ذلك اليوم البعيد وعنترة يحلم أن تصل قصيدة من قصائده إلى الكعبة، ليكمل له شرف الكلمة الذي هو الوجه الآخر لشرف السيف، وما من مجلس للأدب ضمته السيرة إلا وينسرب إليه ذلك الحلم، على نحو ما حدث في ذلك المجلس الذي تفاصح فيه الربيع بن زياد، وأنشد قصيدة يتحدى بها الجميع، فرد عليه عنترة وارتجل على السليقة والبديهة ما سمح به الخاطر، قصيدة لا تختلف عن القصائد المعلقة على البيت الحرام التي لا ينال رتبتها سوى عنترة من سائر الأنام، وينتهي المجلس، وعنترة تخايله رغبته في تعليق إحدى قصائده على البيت الحرام.

هل غادر الشعراء؟

وتعود الرغبة إلى الظهور بعد اكتمال مغامرات عنترة وانتصاره بالسلاح على أعدائه، وتحوله إلى ما يشبه البطل القومي، ويقترب شهر رجب، وهو الشهر الذي كانت فيه العرب تقصد إلى البيت الحرام وتسجد للآلهة والأصنام، ويسرع عنترة إلى هناك، ويشترك مع الحجيج في الطواف، وقراءة القصائد المعلقة والاستماع إلى ما فيها، ويرى الطائفين يقومون للقصائد بالسجود دون الملك المعبود، فيما تقول السيرة، وكان عنترة يفعل مثل الجميع، ويعود وقلبه يحدثه بأمر عظيم وفعل جسيم، لا يناله أحد من الرجال إلا من خدمته السعادة والأهبال، فقد اشتهى أن تكون له قصيدة من جملة الأشعار، ليتباهى بها على أهل البلاغة والافتخار، وكان كلما عول على إعلان رغبته يمنعه الحياء من الأبطال والفرسان وسادات العصر وعظماء الزمان.

وتتصاعد أحداث السيرة، وتنتقل من مبدأ الرغبة إلى مبدأ الواقع، ويتفجر الحلم إعلانا على رءوس الأشهاد ويقسم عنترة بالإله المتعالي ألا يقرب عبلة في ليل أو نهار، حتى يبلغ ما أوجب واختار، ويعلق قصيدته على البيت الحرام لتسجد لها العرب في كل عام، ويجعل من المعلقات الست سبعا على التمام والكمال، وتختار عبلة مما يزيد على خمسمائة قصيدة من الشعر المفتخر القصيدة التي مطلعها:

هل غادر الشعراء من متردم

أم هل عرفت الدار بعد توهم

ويحمل عروة بن الورد صديق عنترة القصيدة إلى حيث يكتب سطورها بالذهب والفضة واللازورد، ويعطرها بالمسك والعنبر، ويلفها في ثوب من الديباج الأحمر، ويذهب عنترة إلى عبدالمطلب بن مناف حاكم الحكام المتولي على البيت الحرام، ويعلنه برغبته. وتبدأ أحداث الصراع التي يتجسد بها حلم عنترة.

وتصف سيرة عنترة "في جزأين من أجزائها" الاختبارات العجيبة التي مر بها البطل، والمعارك المهلكة التي خاضها والقدرات الخارقة التي أبداها، ليبلغ مراده، وينتزع الاعتراف به، ويتم تنصيبه سابقا على كل الشعراء، وعلى رأسهم شعراء المعلقات الست السابقين عليه، وهم طرفة بن العبدالبكري، وعمرو بن كلثوم التغلبي، وامرؤ القيس بن حجر الكندي، وزهير بن أبي سلمى المزني، ولبيد بن ربيعة العامري، والأعشى بن ميمون الأسدي، وتحرص السيرة على نسبة كل شاعر إلى قبيلته، في صراع إثبات الجدارة الشعرية الذي يعكس، بدوره، صراعا أوسع بين العدنانية والقحطانية، ويقتحم عنترة غمرة صراع السيف والكلمة مع أصحاب المعلقات الستة الذين يريد أن يكمل بهم العدد سبعة، فيتم الدورة، ويصل إلى ذروة الختام على توالي الزمان، ولكن يلفت الانتباه في منازلة أقرانه من أصحاب المعلقات حرصه على إثبات الجدارة الشعرية بالتفوق في الارتجال، ومن ثم لا يقنع منهم بإنشاء معلقاتهم المحبرة، بل يجاوز ذلك إلى التنافس في الارتجال، لينتصر عليهم في باب البديهة وارتجال الجواب بما تحار فيه الألباب.

وليس المهم أن يلتزم راوي السيرة بحدود الزمان والمكان، فالأهم هو المقصد الذي يقصد إليه، وهو الوصول بالشاعر عنترة إلى الفوز في الامتحان، وتعليق قصيدته على الركن اليمان، وتلك رتبة رفيعة ما نالها غير بلغاء بني قحطان، دون سادة بني عدنان الذين ينتمي إليهم عنترة، وإذا كانت السيرة قد انتسبت إلى الأصمعي الذي لم ير الجاهلية فإن اختياره كان تأكيدا للعصبية العربية، لما عرف عن الأصمعي من عداء للشعوبية ودعاتها، أما عنترة الجاهلي الذي لم ير الإسلام فإنه يصلي على النبي العدنان، قبل إنشاد أشعاره في الميدان، ولا غرابة في ذلك، فقد أخرجت السيرة أبطال الأساطير من أساطيرهم القديمة والشعراء السابقين من قبورهم لينازلهم عنترة وينازلوه، لينتهي الأمر بهم إلى التسليم له، فيحقق الانتصار الذي تسير بذكره الركبان.

مرايا الأنا والآخر

لقد تعرض عنترة إلى صنوف الاختبارات التمهيدية قبل ذلك الامتحان الأخير، فنازل أبطال القبائل فرادى، وجموع العشائر جمعا جمعا، وحارب بالكلمة المكتوبة والمرتجلة كما حارب بالسيف والرمح والجسد، وأحرز النصر في كل الأحوال، وكان تدرجه في النصر المادي يوازي تدرجه في اكتمال المعرفة بنفسه ومن حوله، واكتمال معرفة الآخرين به في الوقت نفسه، وذلك في مراحل متعاقبة متدرجة، صعدت به من معرفة أشباهه الفرسان إلى أشباهه الشعراء، ومن مرايا الآخر إلى مرآة الأنا، ومن الأنا المنقسمة إلى الأنا المكتملة الحضور.

وآية ذلك أن عنترة يتعرف من الشعراء الأشباه ما لم يكن يعرف عنهم من حيث هم تجسيد للآخر الإبداعي، فيضيف إلى معرفته الشعرية ما يزيدها، ويؤكد حضور الوعي على مستوى الأنا الشاعرة، وما إن تصل معاركه "ومن ثم اختباراته" إلى ذروته النهائية حتى يواجه نظيرا له في القوة والشجاعة وهو الفارس غصوب الذي لا يقل عنه بأسا، فيبدو عنترة كما لو كان قد انقسم إلى نصفين ويتعثر اندفاعه إلى النصر النهائي على القبائل القحطانية، وينكسر التتابع الصاعد لدرجات تعرفه، ولكن يعود كل شيء إلى مساره بواسطة الرؤيا التي هي نوع من المعرفة الروحية، وتنقلب الرؤيا إلى بشارة يأتي الصباح بالدليل عليها، ويكتشف عنترة أن نظيره ليس سوى امتداده المتكامل، فيتعرف في غصوب ابنه من غمرة القضاعية، ويتعرف فيه غصوب أباه من أمه التي لم تعلن عن نسبه.

وعندما يكتمل فعل التعرف المزدوج، يكتمل حضور الأنا التي تجاوز انقسامها، فتصل إلى النصر الأخير الذي يحققه غصوب الذي أصبح بعض حضورها المكتمل، فتعنو له بنو قحطان الذين نادوا من كل جانب ومكان: والله يا غصوب ما بقي فينا من يجرد حساما ولا من يخالف لك كلاما، فدع أباك يعلق القصيدة أينما يريد، حتى نعفر له خدودنا على التراب والصعيد، ونصير من اليوم خداما كالعبيد، فنحن ما كنا نطيقه لما كان وحده، فكيف نعاديه وقد صرت اليوم عنده، وقد اشتد فيك ساعده وزنده؟.

عندئذ يغدو عنترة مؤهلا للانتصار النهائي، واجتياز الامتحان الأخير للمعرفة الذي يعقده له أصحاب المعلقات، فيواجههم بعد أن اختاروا من ينوب عنهم في إلقاء الأسئلة، وكان امرؤ القيس بن حجر أول من علقت قصيدته على الكعبة، ويجيب عنترة عن السؤال تلو السؤال، بما يؤكد قدراته المعرفية الخارقة، ويذكرنا بالمعنى الأصلي الذي انصرفت إليه دلالة كلمتي الشعر والشاعر، منذ أن سمت العرب الشعر شعرا لأنه الفطنة بالغوامض من الأسباب، والمعرفة بالخفي من الأشياء، وسموا الشاعر شاعرا لأنه يفطن لما لا يفطن له غيره، ويعلم ما لا يعلمه سواه.

وعندما أفلح عنترة في الإجابة عن كل أسئلة أصحاب المعلقات، انتهى الامتحان بإعلان اكتمال معرفته، ويتعرف فيه أصحاب المعلقات أوحدهم السابق المجلى، ويكملون به العدد سبعة الذي هو تمام الدورة المعرفية، وذروة فعل التجدد الذي يضيف به الجديد إلى القديم ما يكمله ويجاوزه، وينقله إلى دورة جديدة من دورات الخلق.

امرؤ القيس يمنحه الإمارة

وأحسب أن تقبل أصحاب المعلقات الست الاعتراف بعنترة، في هذا السياق، كان اعترافا بضرورة التجدد، وحتمية إضافة اللاحق إلى السابق، في فعل الإبداع الذي هو فعل المعرفة الكاملة، أعني المعرفة التي لا يليق بها سوى التعليق على البيت الحرام، كي يسجد لها كل قاص ودان، من السادات والفرسان، على توالي الزمان، فيما يقول راوي السيرة.

ويتحقق النصر النهائي لعنترة حين يعلن امرؤ القيس الاعتراف به، وينادي بأعلى صوته: ألا يا سادات العرب أشهدكم على أن الأمير عنترة قد سبقنا في الحسب والنسب، وعلا علينا بالفصاحة والأدب، وهو والله أفصح منا لسانا، وأثبت منا في حومة الميدان، وأقدمنا على لقاء الشعر، وكان ذلك الإعلان بداية الشعيرة التي انتقلت بها الأحداث من ساحة الامتحان إلى ساحة العبادة، فيأمر عبدالمطلب بن مناف الجميع بالذهاب إلى البيت الحرام للاستماع إلى قصيدة عنترة المختارة قبل تعليقها، وتصل الحكاية إلى نهايتها على يدي من أذن لأفعالها بالبداية، ومن كان عليه أن يؤم القائمين بشعيرة التعليق على الكعبة، وهو عبدالمطلب بن مناف الذي يجمع الصفتين الدينية والدنيوية الذي تصفه السيرة بأنه حاكم الحكام والمتولي علي البيت الحرام، شيخ الحطيم وزمزم، حاكم العرب وجد النبي المنتخب.

وقد كانت المسافة ما بين البداية والنهاية، في كل وقائع الصراع لتعليق القصيدة، دورة موازية لدورة الحج في شهر رجب، ولكنها دورة بدأت بنهاية الشهر لتصل إلى ذروة نهايتها بعد انتهاء الحج.

وهناك، في البيت الحرام، يأمر عبدالمطلب بنصب العرنوس (المنبر) الذي كان يخطب عليه في زمن الجاهلية، وكان ذلك المنبر شاهقا في الارتفاع لأن طوله ثلاثة وعشرون ذراعا، وجاءت القصيدة ملفوفة في ثوب من الديباج، وهي مكتوبة بالفضة والذهب الوهاج، فأخذها السيد عبدالمطلب ونشرها بين يديه الكريمتين، ثم نادى برجل من فصحاء مكة يقال له وائل بن العاص، فقال له: يا ابن العاص.. ارق هذا المنبر وأسمع الناس هذه القصيدة بأعلى صوتك، وأنشد وائل القصيدة بصوته الذي كان أندى من وابل المطر، فسمع كل من حضر من الخلائق والبشر القصيدة التي مطلعها:

هل غادر الشعراء من متردم

أم هل عرفت الدار بعد توهم

هكذا تحقق حلم عنترة، وبلغه الله ما أراد، وبعد أن شهد بشجاعته القريب والبعيد، وعفروا وجوههم بين يديه على الصعيد، عادت العرب إلى الخيام، وأخذوا أهبة الرحيل بعد أن زاروا البيت الحرام، وسجدوا لقصيدة عنترة بن شداد، وأعلن الاعتراف بجدارتها امرؤ القيس بن حجر ملك كندة.

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات