بدوي الجبل.. متى نكتشف قيمته الشعرية?

  بدوي الجبل.. متى نكتشف قيمته الشعرية?
        

الحضور الذي كان لبدوي الجبل, سياسيًا واجتماعيًا وشعريًا, في حياته أحسب أنه أقلُّ مما يستحق, وربما كشفت الأيام القادمة أن ما كان يُحسد بدوي الجبل عليه من نيابة ووزارة وجاه عائلي واجتماعي, أمور لا تعدو كونها عوامل تشويش على هذه العبقرية الشعرية.

          شعر بدوي الجبل - كلّ شعره - هو الحكم والمرجع الذي يسمح بنيل البدوي لحقه, ولو بعد حين, بعد أن تكون المؤثرات المانعة قد اختفت بفعل التقادم, أو تضاءلت فاعليتها إلى حد لا يمكنها أن تكون عائقًا دون استقبال شعر هذا الشاعر, والاحتفال اللائق به من دون لعبة الإعلام أو دعاوى الأحزاب أو جاذبية الشعارات السياسية, وما إلى ذلك من عوامل أسهمت في تزوير مقامات الإبداع والمبدعين في هذا العصر وكل عصر.

          لكن الجوهر الحقيقي للفكر والإبداع يبقى الضمانة والفيصل الأخير, الأمر الذي كان لدى شاعرنا بدوي الجبل يمثل يقينًا لا شك فيه, وبالتالي عزاء أقنع نفسه به, وقد عبّر عنه بشعره أجمل تعبير في كل المحطات, وكل الأغراض والحالات التي جسدها شعره, ولا أقول المناسبات, لأن الشعر عند بدوي الجبل كان هواء وماء وكان دواء, كان بوحًا وكان شجيً ونشوة حزن وفرح, ولادة واكتشافا, ويكفي أن نتوقف عند حوارية الشعر وتتويج الشاعر وتمجيد جماليات الكون الشعري في قصيدة البدوي التي حملت عنوان (تتويج ملك العراق فيصل الثاني) فيبدأ بدوي الجبل قصيدة المناسبة هذه بحديث الشعر قائلا:

شادٍٍ على الأيك غنّانا فأشجانا تبارك الشعر أطيابًا وألحانا
ترنّح البان واخضلّت شمائله فهل سقى الشعر من صهبائه البانا?
هل كنت أملكُ لولا عطر نعمته قلبا على الوهج القدسيّ نديانا?
أيطمع الشعر بالإحسان يغمره? والشعر يغمر دنيا الله إحسانا
لو شاء نمنم هذا النجم قافية ونغّم الفجر أحلامًا وأوزانا
لو شاء عطّر هذا الليل غالية ونضّر الرمل أشواقا وريحانا
لو شاء أنزل بدر التّمِّ فاحتفلتْ به الندامى سراجًا في زوايانا
ولو سقى الشمس من أحزانه نديت على هجير الضحى حبا وتحنانا


          السؤال الذي يواجه قارئ هذه القصيدة بعد هذا الاستهلال الشعري هو: هل هذه قصيدة تتويج ملك, أم تتويج الشعر, وأين سلطان المناسبة على الشاعر?

          مثل هذا البوح الشعري الغنائي الآسر عن الشعر ومنزلته ودوره في الخلق وصوغ أجمل ما في الحياة الدنيا, وفي عالم الخلود أيضًا, ينم عن صورة الشاعر في مرآة ذاته, وكأنه يسخر من المغترّين بمالهم وسلطانهم, ولمن لم يصله المعنى يكمل الشاعر قائلاً:

وأيُّ نُعمى نرجّيها لدى بشر والله قرّبنا منه وأدنانا
تبكي السماء وتبكي حورُها جزعًا للحسن والشعر في الدنيا إذا هانا


          وكل قصيدة عند بدوي الجبل رثاء كانت أم غزلاً أم هجاءً أم مديحًا أم أيّ أمر, فإنها تحمل روح الشاعر وهواجسه ورؤاه وقناعاته فلا تبقى أسيرة العنوان أو المناسبة, بل الأصوب أن نقول: إن المناسبات عند بدوي الجبل كانت محرّضا للشعر ومفتاحًا للدخول إلى عالم الشاعر الخاص, حيث يقدم لوحاته المصورة الجميلة, وعماراته اللغوية المترفة, وقيمه, ورؤاه الملونة بمختلف إغراءات التزويق والتنميق المدعمة بثقافة غنية وخيال مجنح وديباجة تشي به حتى لو كان اسمه مغفلاً.

شاعرية مبكرة

          ولد بدوي الجبل مطلع القرن العشرين, في بيئة ساحلية مفتوحة, مزينة بالخضرة والشمس والتضاريس السامقة, والده سليمان الأحمد كان أستاذه ومدرسته الأولى والأهم, حيث تتلمذ على ذلك المثقف الموسوعي, فأطلّ على كنوز المكتبة العربية شعرًا ونثرًا, ونمت برعاية الأب الفقيه اللغوي الشاعر الإنسان ملكات الفتى محمد, قبل أن يحمل لقب بدوي الجبل, فاكتست روحه ولغته باللطيف والرهافة والكبرياء والأنفة والأناقة والجمال, فكتب الشعر المتقن في سن مبكرة مما جذب الأنظار إليه, وفتح الباب واسعًا لطموح الفتى وكان إغراء النيابة والوزارة ومجد الحضور الأدبي والاجتماعي والسياسي, وكانت معاركه التي ظفر فيها بالنيابة والوزارة, وحصد جراءها السجن والنفي والتشرد, فضلاً عن خصومات وعداوات جلبتها صراعات الأحزاب والنفوذ والمصالح.

          إلا أن الشعر الذي كان ملاذ البدوي وفضاءه الوجداني ورمز قوته واعتداده, لم يكن يسمح الشاعر بولادته إلا حين تنضج القصيدة ويمتلئ قلب الشاعر بالحب والحزن والكبر والطموح, وهكذا فتراث بدوي الجبل الشعري على امتداد سنواته التي قاربت الثمانين يضمه مجلد واحد ومتفرقات قليلة خارج الديوان.

          لكن هذا الشعر لا حشو فيه, ويستحق أن نقرأه ونعيد إنشاده على الأجيال المتعاقبة, ونعتمده وحده دليلنا إلى بدوي الجبل, ورسول بدوي الجبل إلى أصدقاء الشعر الذي لا يموت.

          يدلنا شعر هذا الشاعر على الينابيع الكثيرة التي نهل منها في التراث العربي (القرآن الكريم, نهج البلاغة, دواوين الحماسة, دواوين الشعراء الكبار في عصور القصيدة العربية المختلفة, كتب أبي علي القالي والجاحظ وأبي حيان والمبرد وابن المقفع, والأصفهاني...إلخ).

          وبدوي الجبل شأن كل القامات الشعرية الكبيرة, أعاد تشكيل لغته وأسلوبه, ونجا بنفسه وبشعره من أن يكون تابعًا لقامة أخرى أو صدى لأسلوب شاعر كبير آخر.

          وإذا وجد ناقد أو باحث صورة أو شطرًا أو معنى من المعاني, يشترك فيها بدوي الجبل مع شاعر أو أكثر, أو وجد تضمينًا لحكمة مأثورة أو آية كريمة فإن هذا طبيعي, لأن المبدع شاعرًا كان أم ناثرًا أم رسامًا أم موسيقيًا أم عالمًا في أي مجال لابد أن تنضح ثقافته في إبداعه بقصدية منه حينًا أو دون قصد أو إدراك أحيانًا أخرى, فإن يقول أبو تمام على سبيل المثال في مطلع قصيدة:

منْ سجايا الطلول ألا تجيبا فصواب من مقلة أن تصوبا


          ويأتي بدوي الجبل بعد زمن طويل ليقول في مطلع قصيدته التي يرثي بها رياض الصلح:

لا تسلها فلن تجيب الطلول ألمغاوير مثخن أو قتيل


          فلا أحسب أن بدوي الجبل إلا صاحب حق في جديد استخدامه للفكرة التي اكتست لباسًا آخر أعطاها جاذبية تفوق مطلع أبي تمام وإن بقي لأبي تمام فضل الابتداء.

          ومثل هذا التداخل موجود عند كل شعراء العربية وغير العربية, ولو أردنا الإحصاء لوجدنا عشرات الشواهد في ديوان بدوي الجبل, لكن الذي يجب أن يعنينا البحث عنه, هو مدى استقلال الأسلوب وبناء العبارة وتركيب الصورة والمعمارية النهائية لشعر الشاعر.

تميز وسط الفطاحل

          وتقديري, أن لبدوي الجبل أسلوبه الذي يمتاز به, ويميزه عن شعراء عصره وعن سابقيه من الشعراء الذين يدين لهم بأنه عبّ من شعرهم, كما قرأ التراجم والسير وأمهات كتب الأدب والتاريخ والفلسفة, لكنه طوّع كل ذلك, وأفاد منه, دون ارتهان إلى أسلوب بذاته.

          وإذا وقفنا أمام البحتري أو أبي الطيب المتنبي أو الشريف الرضي أو مهيار أو أبي فراس أو غيرهم ممن أكد البدوي غير مرة, إعجابه بشعرهم, فإننا قد نجد معاني كثيرة مشتركة كالمثال السابق مع أبي تمام, وربما وجدنا ملامح صياغة مشتركة أيضًا, ولكن البدوي يقدمها وقد جد فيها, وأدخل إليها رؤيته, وألبسها صورًا ومباني تحمل ميسم عصره, بل ميسمه الخاص.

          ولعلّ الاعتداد بالشعر وبالنفس قاسم مشترك بين المتنبي وبدوي الجبل, والأمثلة كثيرة جدًا عند الشاعرين, وتكاد تكون في معظم القصائد, ومن المعاني المتداخلة في هذا المضمار قول المتنبي:

وما الدهر إلا من رواة قصائدي إذا قلت شعرًا أصبح الدهر منشدًا


          ويقابله عند بدوي الجبل قوله:

الخالدان ولا أعدُّ الشمسَ شعري والزمان

          فثنائية الشعر والزمن موجودة في البيتين, لكن بلبوسين وأسلوبين, يوحد بينهما الاعتداد.

          ويقول المتنبي في قصيدة أخرى معبّرًا عن غربته في وطنه وفرادته في قومه:

ما مقامي بأرض نخلة إلا كمقام المسيح بين اليهودِ
أنا في أمة تداركها الله غريب كصالح في ثمودِ


          بينما يلجأ بدوي الجبل لتأكيد هذه الفرادة بأسلوب مركب يحسب له, ففي قصيدته (البلبل الغريب) التي كتبها في المنفى يقول بدوي الجبل:

ولي وطن أكبرته عن ملامة وأغليه أن يُدعى على الذنب مذنبا
يمزق قلبي البعد عمّنْ أحبّهم ولكنْ رأيتُ الذل أخشن مركبا
وأستعطف التاريخ ضنّا بأمتي ليمحو ما أجزى به لا ليكتبا


          فهو لم يذكر بلغة تقريرية مباشرة مكانته, وإنما جعلنا نستخلصها عندما وجدناه يستعطف التاريخ ويرجوه لكي يفصح عن أمته, فلا يدوّن ما تعامله به أمته حفاظًا على أمته, لأن مثل هذا التأريخ - إن حدث - يسيء إلى أمته لأنها لم تقدر عبقرية الشاعر حق قدرها.

معجم خاص

          بدوي الجبل رثى ومدح وهجا وتغزل وكتب في الموضوعات الوطنية والقومية والإنسانية, والتزم في كل ما كتب, نظام القصيدة العمودية, لكنه جعل لنفسه معجمًا خاصًا, حشد فيه المفردات الأكثر إيحاء, وفجّر طاقات اللغة الدلالية, وهو يبتكر استعاراته, ويركب صوره مفسحًا لخياله أن يبتدع عائلات جديدة من التعابير والتشابيه والصياغات التي تنتسب إليه وحده (من نعمياتك لي ألف منوعة, تأنق الدوح يرضي بلبلاً غردًا, حلي النديّ كرامة للراح.. إلخ).والحزن عند بدوي الجبل منجم يستخرج منه في كل قصيدة معاني وصورًا ورؤى, تضارع الفرح, بل يجعل الأحزان رحمًا لتوليد كل صنوف النشوة والانتصارات والأمجاد, والأمثلة تمتد على خارطة شعر البدوي كلها تقريبًا, يقول في رثائه لسعد الله الجابري:

همّي الهمُّ لو تكشّف للناس لأغرى حسنًا وأغوى بريقا
إن قلبي خميلة تنبت الأحزان وردا ونرجسًا وشقيقا
إن بعض الأحزان يخطب بالمجد وبعض الأحزان يشري رقيقا


          ويقول في قصيدته التي أبّن فيها الشاعر اللبناني شبلي ملاط:

لا الحقد خمرة أحزاني ولا الحسد من جوهر الله صيغ الشاعر الغرد
سقيت أحزان قلبي من عقيدته فأسكر الحزن ما أُغلي وأعتقد
والهمّ يعرف كيف اختاره كبدي وكيف يكرم جمر اللوعة الكبد
سكبت في الكأس أشجاني فتلك يدي من عبء ما حملته الكأس ترتعد


أغلال الأوزان

          وقد خاطب الشاعر فرنسا حين كانت تستعمر سورية, بعد أن دخلتها جيوش هتلر النازية:

سمعت باريس تشكو زهو فاتحها هلاّ تذكرت يا باريس شكوانا
لعلّه تبعث الأحزان رحمته فيصبح الوحش في برديه إنسانا
والحزن في النفس نبع لا يمر به صاد من النفس إلا عاد ريانا
والخير في الكون لو عرّيت جوهره رأيته أدمعا حرّى وأحزانا


          هذه المعاني وصيغها ولبوسها وديباجتها تجعل من البدوي مجددًا, وتجعل من البحر والقافية إطارًا جماليًا فلا تبقى الأوزان قيدًا لديه وإن جاء في سياق إحدى قصائده قوله:

أنا أرثي لكل قيد فأرثي لقريضي تغله الأوزان


          وقد أقر المبدعون الكبار بقدر البدوي وقيمته, فسعيد عقل قال عنه: إنه واحد من قلائل شعراء الدنيا في كل لغاتها وكل عصورها, ونزار قباني رأى في شعره السيف اليماني المعلق على جدار الشعر العربي في عباءته ألف لبيد وألف شريف رضي.

          وكتب عنه أدونيس بالرغم من انحيازه وريادته في القصيدة الحرة:

          (ليس شعر بدوي الجبل استطالات لأجمل ما عرفته الكلاسيكية الشعرية العربية وحسب, وإنما هو كذلك تتويج وخاتمة, وفي نتاجه ما يكتنز المفارقة الإبداعية, لقد ضم تاريخًا شعريًا بكامله, وهو في الوقت نفسه وبالقوة نفسها يفتح للشعر العربي أن ينعطف فيبدأ بنبض آخر, تاريخًا آخر).

          أما شاعر اليمن الراحل عبدالله البردوني فله رأي في شعر البدوي عبّر عنه بقوله:

          (بدوي الجبل بين شعراء عصره, عيبهُ الوحيد رتابة التميز).وفي الختام يبقى شعر هذا الشاعر مالكًا لجاذبيته وقوة إدهاشه لأجيال القراء اليوم وغدًا وبعد غد, واستعير من البدوي بيتين من قصيدته الرائعة خلتهما الأكثر تعبيرًا وتكثيفًا فيما يخص قيمة شعره ومكانة هذا الشعر:

جواهري في العبير السكب مغفية من الونى بعد تغليس وتهجير
تاهتْ عن العنق الهاني فأرشدها إلى سناه حنين النور للنور


 

علي عبدالكريم