العرب هموم وآمال

للعرب في هذا الزمان هموم كثيرة. بعضها قديم وبعضها جديد. ودون مقدمات فإننا نلمح في الأفق نذرا تبعث على القلق ولا تسمح للعقلاء بالتفاؤل. ونرى وسط الغيوم الملبدة مع ذلك آمالا تلوح من بعيد، ولكنها جميعا آمال مرهونة بشروط كثيرة ومعلقة على أداء أعمال كبيرة لا نقطع بأننا مؤهلون لها أو قادرون عليها.

على رأس الهموم الجديدة همان كبيران:
أولهما: أن الزلزال الذي هز البنيان العربي من قواعده يوم وقع الغزو العراقي للكويت، لم يفلح - فيما نسمع ونرى - في أن ينبه أكثر العرب من غفلتهم، أو أن يجذبهم من عالمهم الضيق الذي حبسوا أنفسهم فيه، عالم المصالح الضيقة، والمكاسب القريبة، عالم الذهول عن الواقع المرير بالأحلام الحلوة السعيدة. والاستغناء بالكلمة المنمقة والعبارة المزخرفة، عن "الفعل" الذي يغير الواقع ويبدل الحال.

والمذهل - والمحزن معا - أن العرب كل العرب قد تصايحوا خلال شهور الأزمة بأن الحال بعدها لن تكون - أبداً - كما كانت قبلها، وتصارحوا بأن الأزمة - على هولها الكبير وأثرها الخطير - ربما كانت نعمة مطوية في ثنايا نقمة؛ لأنها فجرت قضايا كان ينبغي أن تفجر من زمن بعيد، وكشفت أقنعة عديدة طالما اختبأت وراءها شرور وسوءات وعورات، ورغم الكلام الكثير الذي كتب وقيل وتسابق في ساحته المتحدثون والكتاب في الندوات واللقاءات، فإن أرض العرب ما كادت تستقر تحت أقدامهم من جديد بعد هزة الزلزال حتى عاد كل شيء إلى ما كان عليه، وعاد العرب جميعا إلى مقارفة الأخطاء والخطايا التي سلموا جميعا بأنها كانت الأسباب الرئيسية التي أدت إلى كارثة الخليج التي لا تزال تداعياتها المأساوية تتكشف يوما بعد يوم.. وإن ظن البسطاء أن فصولها قد اكتملت، وأن شرورها قد ذهبت ولا يمكن أن تعود.

الثاني: أن غبار حرب الخليج الثانية قد بدأ ينقشع عن واقع مرير جوهره تآكل استقلال العرب وتعرض دول عربية عديدة لصور متنوعة من صور التبعية لدول كبرى، وهي تبعية يرجع جانب كبير منها إلى اكتشاف العجز العربي عن حماية الأمن العربي، لا في مواجهة الأخطار الخارجية فحسب وإنما في مواجهة قوى عربية شقيقة تمثل طموحاتها وأساليب عملها أخطارا بالغة على أمن جاراتها وأمن المنطقة كلها، مما أدى في النهاية إلى استدعاء قوات أجنبية لتؤدي على الأرض العربية دورا كان ينبغي أن يضطلع به العرب أنفسهم، ومع بقاء أسباب الأزمة قائمة بغير حلول جذرية، فسوف تستمر الحاجة - حقيقة كانت أو مصطنعة - إلى استمرار الوجود الأجنبي على الأرض العربية وتحوله إلى أداة لفرض التبعية من ناحية، ولتفجير نزاعات وانقسامات داخل الكيان العربي من ناحية أخرى، ولقد ساعد - ولا يزال يساعد - على تعاظم أخطار التبعية أن خريطة القوى العالمية قد تغيرت وتبدلت معالمها تغيرا جذريا خلال السنوات الخمس الأخيرة بتفكك ما كنا نسميه "المعسكر الاشتراكي" وانهيار أعمدته الرئيسية في الاتحاد السوفييتي وأوربا الشرقية، فانشغل الاتحاد السوفييتي بأزمته الاقتصادية التي وصلت إلى حد الكارثة، كما انشغل باندلاع موجة الاستقلال القومي بين جمهورياته مما صار يهدده في صميم وحدته، ولا يزال مستقبل نظامه السياسي والاقتصادي معلقا على خيوط واهية لا يدري أحد إن كانت قادرة على مداواة جراحه ولم شمله من جديد، أو أنها ستنقطع عما قريب فاتحة حقبة جديدة في تاريخه وتاريخ العالم لا يستطيع أحد تصور معالمها أو رصد آثارها.

وقبل أن نتحدث عن الآمال العربية، نتوقف بشيء من التفصيل عن معالم هذين الهمين الكبيرين.

حرب الخليج وثلاث قضايا رئيسية

لقد تعددت خلال حرب الخليج وفي أعقابها لقاءات المثقفين والمناضلين من أبناء الأمة العربية وحاملي همومها، في ندوات ومؤتمرات وحلقات نقاش وبحث، وأشارت الأصابع جميعها إلى أن حرب الخليج قد فجرت قضايا ثلاثا رئيسية:
القضية الأولى:
قضية العمل العربي المشترك، ومستقبل الهياكل التنظيمية التي يجري من خلالها ذلك العمل، بها في ذلك مستقبل الجامعة العربية، والمؤتمر الإسلامي، والاتحادات الإقليمية وفي مقدمتها مجلس التعاون الخليجي.

القضية الثانية:
قضية الديمقراطية في الوطن العربي بشقيها المرتبطين، شق المشاركة الشعبية في العمل الوطني وشق احترام حقوق الإنسان وحرياته.

القضية الثالثة:
قضية العدل الاجتماعي، داخل الأقطار العربية وبين الأقطار العربية باعتبارها جميعا شريكة في مشروع حضاري قومي واحد، لا يمكن أن يتحقق داخله "سلام حقيقي" إلا في ظلال نظام اجتماعي عادل لاستخدام الثروة ولا أقول بالضرورة لتوزيع الثروة.

وفي تقديرنا أن الفشل الكامل الذي منيت به مغامرة غزو الكويت، والنجاح الكبير، والسريع، الذي تم به تحرير الكويت، قد صور للكثيرين أن كل ما وقع قد كان سحابة سوداء خيمت على الكويت وعلى العالم العربي كله ساعة من زمان ثم انقشعت إلى غير رجعة، وأن في وسع الجميع أن يستأنفوا حياتهم وأن يديروا شئونهم كما كانوا يديرونها، فقد زال الخطر، واندحر العدوان، وستظل الولايات المتحدة - بطريقة أو بأخرى - حارسة للمنطقة ونظمها، حامية لها من تجدد ذلك العدوان أو عدوان آخر مثله.

وتمثل هذا التصور الخاطئ في عدة أمور:
أولا: أن الانحصار على الذات القطرية الإقليمية لا يزال قائما، وأن أكثر النظم العربية مازالت تعتقد أنها غير مضطرة إلى التنازل عن جزء من حريتها "القطرية" لحساب عمل عربي جماعي مشترك، وذلك مادامت تجد أنها محفوظة ومحروسة من خلال علاقات ثنائية مباشرة تقيمها مع الدولة التي قادت الجهود الدولية من أجل رد العدوان، وتحقيق التحرير، وحراسة الأمن... ولذلك وجدنا خطوات التوحد العربي تتثاقل يوما بعد يوم، كما وجدنا الهياكل الإقليمية الجزئية مثل مجلس التعاون تتحرك في أطرها القديمة لتعبر عن مصالح "إقليمية ضيقة" تجعل منها مقابلا للتوحد العربي العام لا خطوة على طريقه، بل إننا لا نكاد نلمح تطورا ذا بال على هذه المجالس لجعلها - في إطار رؤيتها الخاصة - أكثر كفاءة وقدرة على تحقيق مصالح المشاركين فيها.

ثانيا: أن قضية التحرك على طريق الديمقراطية وتحقيق درجة مقبولة من المشاركة الشعبية ومستوى لائق من احترام حقوق الإنسان وحريته، هذه القضية لا تزال - فيما يبدو - بعيدة عن اقتناع كثير من الحكومات والقيادات والساسة، وذلك رغم ما أجمع عليه العقلاء من أن المغامرة الخاسرة التي وقعت ما كان لها أن تقع لو أن الحكام يستشيرون، ولو أن أصحاب الرأي يتكلمون، ولو أن الشعوب تشارك مشاركة حقيقية في تقرير مصيرها واتخاذ القرارات الكبرى التي تتحكم في حاضرها ومستقبلها، رغم هذا كله فإن التحرك على طريق المزيد من المشاركة الشعبية لا يكاد يرى له أثر على امتداد العالم العربي، نعم لقد بذلت وعود وأعلنت نوايا، ولكن يقف في طريقها - فيما نرى - أمران، أولهما: أن بعض الأنظمة لا تزال ترى أنه لا علاقة بين ما جرى وبين قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان، بل يرى بعضها أن التساهل مع المعارضين وفتح النوافذ أمام فصائلهم للتعبير عن رأيها ونقد حكوماتها، قد كان مسئولا - على نحو ما - عن بعض ما جرى. أما الأمر الآخر فهو: أن بعض الأنظمة العربية مع اقتناعها ورغبتها الصادقة في تحقيق مزيد من المشاركة الشعبية فإنها تخشى أن يكون طريق هذه المشاركة طريقا لا آخر له، وأنه كلما تنازل النظام عن بعض امتيازاته، طالبت المعارضة بالمزيد حتى تصل الأمور في النهاية إلى تغييرات جذرية قد يضحى فيها بالأمن والاستقرار، كما قد تفقد بسببها بعضا الأنظمة مواقعها التاريخية الثابتة في الحكم.

وفي تقديرنا أن هذا إسراف فى الحذر لا مبرر له، وأن ضرره أكبر من نفعه، فكثير من هذه الأنظمة ليس له مع رعاياه خصومة ولا قضية، واتجاهه نحو تحقيق المزيد من المشاركة الشعبية لتحقيق تحول سلمى مقبول في نظام الحكم، ويثبت قواعد النظام ولا يزلزلها كما يتصور البعض.

الديمقراطية وحقوق الإنسان

إن من الضروري لخدمة قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان في هذا المنعطف التاريخي ملاحظة ثلاثة أمور:
أولا: أن هناك تفاوتا كبيرا في درجة المشاركة التي تتمتع بها الشعوب في ظل الأنظمة القائمة في الوطن العربي، بحيث يتمثل التوجه الضروري نحو مزيد من الديمقراطية في بعض الأقطار العربية في مجرد اتخاذ خطوة أو خطوات تتسع بها قاعدة المشاركة الشعبية، أو يتأكد بها دور المؤسسات التي تتم المشاركة عن طريقها، ويستوقف النظر في هذا المجال أن دولة الكويت التي وقع العدوان عليها والتي تثار كل هذه القضايا أول ما تثار في شأنها لا تحتاج - في تقديرنا - إلى أكثر من خطوتين: أولاهما توسيع قاعدة المشاركة الشعبية عن طريق إعادة النظر في قانون الانتخاب، والأخرى تثبيت الدورين التشريعي والرقابي لمجلس الأمة الذي يملك هاتين الوظيفتين بمقتضى الدستور الذي وضع عام 1962، أما في أقطار أخرى فإن الأمر يحتاج إلى تحولات أكثر جذرية، إما بالعدول عن أسلوب النظام الشمولي المهيمن الذي تدور الحياة السياسية كلها في ظله حول حزب واحد أو زعيم واحد يوشك بسبب الإعلام الكاذب والمضلل أن يكون نبيا معصوما لا يتصور في حقه الخطأ، فضلا عن أن يسمح بتوجيه النقد إليه أو إلى قراراته وسياساته، وإما باتخاذ الخطوات الأولى الجادة على طريق الديمقراطية انتقالا من الأسلوب العشائري في الحكم إلى أسلوب الاعتماد على مؤسسات حقيقية لها اختصاص معلوم وسلطات محددة.

ثانيا: أن قضية الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان لم تعد كما كانت - في مراحل تاريخية سابقة - قضية داخلية تنفرد الأنظمة باتخاذ القرار في شأنها، ذلك أن انهيار الحواجز بين الدول والشعوب وتأثر بعضها بما يجري داخل البعض الآخر قد ولد اقناعا - أيديه الحوادث - بأن ضمان قدر أدنى من المشاركة الشعبية واحترام حقوق الإنسان قد صار إحدى ضمانات السلام العالمى.

كيف يتحقق العدل الاجتماعي؟

ثالثا: أن قضية العدل الاجتماعي لا تزال قضية مهملة على الصعيدين الداخلي والإقليمي، مع أنها - فيما نرى - إحدى القنابل الموقوتة التي تهدد السلام الاجتماعي داخل كل قطر عربي، كما تهدد الأمن العربي من داخل المجموعة العربية، وتفتح الباب للعديد من المشاعر المريضة والعلاقات المعقدة بين الشعوب، فضلا عن صعوبة التجمع الحقيقي والفعال لدول عربية تقوم داخلها مثل تلك المشاعر والعلاقات المعقدة.

ودون الدخول في أبحاث نظرية طويلة فإن التعامل مع قضية العدل الاجتماعي، في هذا المنعطف التاريخي تقتضي اتخاذ نوعين من الإجراءات:
(1) نوع يتخذ داخل كل قطر عربي ويقوم بدوره على محورين، أولهما تقليل حدة الفوارق الطبقية التي تفصل بين الأغنياء والفقراء بحيث لا يعيش داخل حدود الدولة شعبان أحدهما يحوطه البؤس والعناء والآخر يظله السرف والثراء ويدخل في ذلك ويتصل به أن يراجع الحكام ما يتمتعون به من امتيازات اجتماعية واقتصادية، وأن يعجلوا بوضع إطار قانوني يحدد هذه الامتيازات وينتقل بها من أن تكون امتيازات شخصية حصلت عليها الأسر الحاكمة عند نشأة الدولة، وفي ظروف تاريخية قديمة يرتبط أكثرها بالنظام القبلي والعشائري ويحولها إلى حقوق مقررة بمقتضى الدساتير، بقصد تمكين الحكام من ممارسة وظائفهم وسلطاتهم الدستورية، إن هذا التطور ضرورة حتمية لا مفر منها وهو الضمان الحقيقي لاستقرار الحكم واستمراره وسط عالم يتطور بسرعة مذهلة نحو تقرير سلطة الشعوب وحقها في المشاركة الحقيقية في تحديد معالم النظم السياسية والاجتماعية التي نعيش في ظلها.

(2) ونوع آخر من الإجراءات يتصل بالعلاقة بين الأقطار العربية المختلفة ويتمثل - فيما نرى - في ضرورة توجيه جزء من موارد الدول العربية الغنية لخدمة القضايا العربية المشتركة، ولرفع المعاناة عن الدول التي تواجه صعوبات واختناقات في مسيرتها نحو التنمية ولتحقيق قدر معقول من الرخاء لشعوبها. إن هذا التوجه الذي ننادي به لجزء من الموارد هو وحده القادر على تأمين الرخاء والاستقرار والحماية للدول العربية ذات الثراء الكبير وهي دول تمثل جزءا صغيرا داخل الجسم العربي الكبير الذي ينوء بالمشاكل والصعوبات وتتعرض بعض أجزائه للأزمات الطاحنة التي، تصل أحيانا إلى حد المجاعات.

إن أخطر ما في هذه القضية أن الغزو العراقي للكويت قد قدم لها صورة عدوانية فجة لا يمكن قبولها بحال من الأحوال، ولذلك لم تتعاطف مع هذا العدوان شعوب عربية تحيط بها المتاعب والمشاكل وتحتاج أشد الحاجة إلى إشاعة العدل في توزيع الثروة العربية.

ولكني أعود فأقرر أن قضية عدالة توزيع الثروة العربية قضية حقيقية لا تزال قادرة على تفجير الأمن العربي من داخله إذا أتيحت لها ظروف معينة. إن المؤسسات العربية الإقليمية والصناديق العربية المختلفة مطالبة - في إلحاح - بإعادة النظر في دورها من حيث حجمه وأهدافه وتوجهاته الأساسية بحيث تصبح أدوات ذات وظيفة سياسية واقتصادية تعين على تحقيق السلام الاجتماعي العربي كما تفتح الباب أمام عمل عربي مشترك فعال في المجال الاقتصادي.

ويتصل بهذه القضية أمور تفصيلية عديدة لا يحتمل علاجها الإرجاء في مقدمتها ما تتمتع به الجاليات العربية في الدول العربية المختلفة من حقوق وضمانات، سواء في علاقات العمل أو حقوق التملك، أو حقوق التنقل عبر الحدود العربية، أو في عموم المساواة أمام القانون، ذلك أن إهمال هذه القضايا أو التعامل معها من منطلقات خاطئة من شأنه أن يفسد العلاقات بين الشعوب، وأن يكون بمثابة سم بطيء يسمم كل الآبار العربية ويفتح الأبواب واسعة أمام تهديد الأمن العربي من داخله. هذه كلها تفاصيل الهم الأول.

عالم جديد مضطرب

أما الهم الثاني فجوهره أن هذا الجيل من أمة العرب، يعيش عصرا عالميا جديدا يعاد تشكيل قواه، وحدود دوله، ونظامه السياسي والقانوني، كما يعاد فيه النظر في أولويات المصالح والأفكار التي تدور حولها السياسات والمواقف.

وفي هذا العالم الذي لا يزال نظامه الجديد يتشكل وتتحدد معالمه تنشأ تجمعات كبرى ليحل التنافس بينها تدريجيا محل الصراعات الأيديولوجية القديمة والنزاعات الإقليمية التقليدية بين الدول الصغيرة والكبيرة على السواء.

ومن سوء الطالع أن عصر التجمعات الدولية هو بعينه عصر النزاعات العربية والتمزق العربي، فلا التوجه القومي أفلح في تجميع العرب، ولا المد الإسلامي نجح - حتى الآن - في توحيد صفوفهم بل إن الحروب الأهلية دائرة بينهم على قدم وساق، تستباح فيها كل الأسلحة، ويلجأ الأطراف المتنازعون فيها إلى أكثر الأساليب بعدا عن روح الحضارة العربية الإسلامية، وأشدها تناقضا مع التوجهات الفكرية والأخلاقية للثقافة العالمية الجديدة، وقد كان من نتائج هذا الاستغراق في عمليات "الاحتراق الداخلي" أن فقد العرب في نظر الكثيرين استحقاقهم للمشاركة على أساس الندية في بناء النظام العالمي الجديد، بل إن الصور السيئة التي قدمتها الممارسات العربية والحملات الإعلامية النشطة التي حرصت على تشويه صورة العرب والمسلمين في العقل والوجدان العالمي قد صورت للكثيرين أن العرب يمثلون خطرا على الحضارة ويقدمون نموذجا للفكر والسلوك والتصرف يناقض الأسس التي يراد للنظام العالمي الجديد أن يقوم عليها.

وإذا لم يكن للعرب مكان في النظام الجديد ولا موقع على خريطته فإن المصير الوحيد الذي ينتظرهم لن يكون إلا مصير التبعية للآخرين، والخضوع الاضطراري لرغبات وقرارات القوى الكبرى صاحبة الكلمة المسموعة في المنظومة الدولية الجديدة، وهذه هي النذر التي نراها اليوم من حولنا.

نوافذ الأمل

ولسائل بعد ذلك أن يسأل:
أيعني تكاثر هذه الهموم على العرب أن يغلقوا صفحة الأمل، وأن يستسلموا للتشاؤم والقنوط، وأن يجلسوا في حزن ينتظرون الأيام الحسوم والسنوات العجاف، سنوات التراجع والعزلة عن العالم والتبعية للقوى الصاعدة في نظام عالمي جديد؟؟.

والجواب بلا تردد: أن نوافذ الأمل لا تزال مفتوحة، وأن فرص الخروج من المأزق لا تزال متاحة، وأن الأمر في النهاية أمر نهضة لها شروط.. الأمل في السنوات القليلة المقبلة معقود بعدة أمور:
أولا: سرعة تجاوز مرحلة الانفعالات الغاضبة والمواقف الحدية وتبادل الاتهام بالخيانة، التي خيمت على الساحة العربية كلها خلال أزمة الاعتداء العراقي على الخليج، وخلال عملية تحرير الكويت، وهذا التجاوز بدوره مرهون بإدراك واع لأهمية البدء في الإصلاحات الأساسية التي رسمنا صورتها باعتبارها الوجه الآخر للأخطار والهموم التي شرحناها. إن الانتقال إلى المستقبل المأمول لابد أن يمر عبر الحاضر بكل مكوناته، ما نحب منها وما نكره، والقطيعة الكاملة التي وقعت بين بعض الدول العربية ستظل عقبة على طريق الخروج من الأزمة، ومن هنا فلابد من حوار سريع.. ليكن فيه ما يكون من حدة ومن عتاب ومن تحديد للأخطاء، ولكنه سيكون - في النهاية - سبيلا إلى رشد جديد وإلى واقع لا بديل له للقيام بعمل عربي مشترك في أي مجال من المجالات.

وحكماء العرب ومثقفوهم مطالبون - أشد المطالبة - بالسعي بين الأطراف العربية لرأب الصدع وتمهيد طريق الحوار وتنبيه الغافلين من الحكام إلى أن مستقبل الأمة كلها رهن بأسلوب تعاملهم مع حقائق هذه الأيام الصعبة التي تراكمت فيها علينا الهموم والأخطار.

ثانيا: التواصي والتناصح بين الحكام العرب بضرورة السير - بغير تردد ولا تثاقل - في طريق تحقيق المشاركة الشعبية واحترام حقوق الإنسان.. فلا حماية لأحد - في نهاية المطاف - إلا بالسير في هذا الطريق، وللمثقفين هنا دور مصيري لا يجوز التفريط فيه، وهو دور الناصح في غير مجاملة ولا مداورة ولو جلب عليه النصح سخط هذا الحاكم أو ذاك.

ثالثا: تجنب العزلة عن مسيرة الأمم والشعوب من حولنا وهي تتقارب وتتعاون من أجل نظام عالمي جديد. إن الحصول على مكان للعرب داخل هذا النظام ينبغي أن يكون هدفا أساسيا من أهداف العمل الوطني والقومي هذه الأيام، ولنتذكر أن النظام العالمي الجديد لم يتشكل - على نحو حاسم - بعد، وأن نشأته لا تعني انتهاء جميع صور الصراع أو انتهاء التاريخ بالانتصار النهائي لمذهب سياسي واقتصادي واحد، كما يقول الأمريكي الياباني "فوكوياما"، ومعنى هذا أن أمامنا - نحن العرب - فرصا عديدة للحركة والمناورة وتجاوز الأزمة علينا أن نبحث عنها وأن نتعامل معها بكل الحكمة وكل السرعة، مزودين برؤية موضوعية متجددة لكل ما حولنا.

رابعا: وأخيرا.. إن الثقة بالنفس ضمان لا غنى عنه لاجتياز هذه الأزمة، وإذا كانت المفارقة في حياتنا مفارقة هائلة بين قيم حضارتنا العربية والإسلامية، وهي قيم حق وعدل ونهضة وحركة وتقدم، وبين واقعنا العربي المحزن وهو - حتى الآن - واقع سكون وترهل وحيرة وانقسام وكلام كثير.

فلنتذكر أن النعمة قد تكون أحيانا مطوية في ثنايا النقمة، وأن الأزمة الكبيرة التي يعيشها كل العرب هذه الأيام يمكن أن تكون بداية حركة واعية على طريق نهضة حضارية جديدة، خصوصا إذا ذكرنا - بعيدا عن كل صور الحماس وتحويل الأمنيات إلى حقائق - أننا نحمل للعالم حضارة تتوازن فيها جوانب الوجود الإنساني وتعلو في ظلها قيم الإيثار وتقديم الفضل والعطاء على نوازع الأثرة وعبادة الذات والانشغال "بالأنا" عن سائر الناس، وهي قيم يعرف العقلاء في كل مكان أن الحاجة إليها سوف تشتد يوما بعد يوم، مع تواصل قفزات العلم المادي التي نشهد حلقاتها يوما بعد يوم. ومعني هذا كله أن لنا - رغم همومنا ومشاكلنا - دوراً تاريخياً "حقيقيا"، إنساني النزعة، عالمي الأفق، ليس من حق أحد أن ينساه أو يفرط فيه.

وفي النهاية نعود ونقول إن الخطر على أمتنا كبير، وإن الأمل مع ذلك - في النهضة الكبرى - أمل قائم ومشروع.

ولكنه أمل تحيط به الشروط.

والثمن الذي يدفعه كل منا وفاء لهذه الشروط، ثمن بخس وضئيل إذا قورن بالهوة الهائلة التي تفصل بين خيارين، خيار النهضة والصحوة وخيار الانتكاس والسقوط.