شج فرن: قصة من النوبة يحيى مختار

شج فرن: قصة من النوبة

لسنوات كثيرة ظل التطلع للفوز على "محيي الدين شريف" في سباق التحدي الكبير للوصول عدوا إلى ممر "شج فرن" شمال قرية "الجنينة والشباك" الأمنية التي لم تتحقق لشباب القرية. لم يكن أحد منهم ليصدق أن ذلك النحيل الهش الذي لو دفعه أحدهم في صدره بإصبعيه لسقط متداعيا، يجري كالريح ليسبقهم جميعا وينتظرهم هناك تحت ظلال الممر الساكن في تلك الساعات من القيلولة حيث تدوم فيه النسمات الرطبة وتتجاوب في جنباته صدى ترنيماته بأغنيات عشق ولوعة لحبيبة مجهولة. تنبثق الكلمات في خاطره، تتفتق صورا وظلالا ونغما، يتغنى بها "الشار" بعده.. يتداولونها في الأفراح عندما تنصب حلقات "الأراجيد".. يرقصونها نغما وإيقاعا ومعاني شجية للصباح يرددونها شبابا وفتيات عاشقات على ظهور السواقي وتحت ظلال أشرعة المراكب في النهر وعند جذوع النخيل في العصاري على شاطئ النيل.

لم يخسر السباق أبدا.. في كل مرة يتقاطرون عليه بعد فترات تطول أو تقصر، لاهثين ليجدوه غائبا عما حوله غائصا في تأملاته التي لا تنتهي لجدران الممر، يتحسس بأصابعه الرسومات الغريبة المنقوشة على الجدارين الأملسين اللذين كانا لوحتين كبيرتين ممتدتين حتى المنفذين. أيقنوا من كثرة ما وجدوه على حالته تلك أنه يستوحي أغنياته من الرسوم والطلاسم الغامضة التي جذبته وأولجته في عالم غريب مسحور حتى همس بعضهم بيقينهم الذي اختمر في أعماقهم زمنا، إنه يخاوي الجن ويأتنس بأولئك القدامى من البشر الموسومين على جدران الممر تصاوير ما زالت أرواحها تهوم حولها منذ الحقب الغابرة، يتحدث إليهم ويوحون إليه، وإلا فمن أين له أغانيه الساحرة التي تحلق بهم مجنحة بالنشوة والطرب؟ لم يلق بالا لأقاويلهم، ظل يتشمم عبق الأزمنة السحيقة وهو يقترب بوجهه ممعنا النظر في النقوش والعبارات التي تجمدت خطوطا وسكنت فيها أصوات الكتبة المجهولين، ويتحسس آثار الأيدي التي شقت الممر بالضنى والتعب والمهارة وسط الصخر الأسود الصلد كشق السيف المرهف ليكون المسمى ممر السيف "شج فرن"، وليكون الحجة الوحيدة والقوية التي يواجه بها زملاء مدرسة "عنيبة" من أبناء القرى الأخرى الذين يدلون عليه بما تضم قراهم من آثار كثيرة ذات شأن، معابد وتماثيل ومقابر منحوتة في الصخور، كهوف تزينها رسومات، يحج إليها كثيرون من "بر مصر" وأقـوام من خلف البحـر عبروه من بـلاد في الشمال مجهولة، حمر الوجوه بألبسة غريبة.

القوة المتدفقة في جسده وهو يقف نشوان تؤكد له أن "شج فرن" أعظم من معبدي "أبو سمبل" ومن باقي المعابد مجتمعة أحس المعنى، تلقاه بقلبه، سكن داخله فأدرك أن ما تغشـاه يراه في قومه من "إبريـم" شمال قريته وفي أهلـه وناسه "في الجنينـة"، يراه في إهابهم، داخل ألبستهم، يطل من أبـدانهم في حـركتهم الدءوبة، في عبورهم رائحين وغـادين على إيقاع حـركة زمنهم، تواصلا لا ينقطع ونبضا لا يكف لوشائج أزلية تربطهم ببعضهم والممر. "شج فرن" الحبل السري كـان ولا يزال معبرا بريـا وحيدا شقه الأولـون لأنفسهم، ولهم من بعدهم.. لكل النـاس.. شريانا يربط أقـدار القريتين وامتدادا سرمديا بدأ من حقب سحيقـة منذ أن نبت كحاجـة وضرورة في نفوس الأجداد وعقولهم، نمت وكـبرت فكرة شقت الصدور، وتحققت شقا في الصخور. "محيي الدين" فاجأ نفسه يغني معبدأبو سمبل، "هو نغم عميق في الصخر شيد صرحا للحب، إعجازا يخلد عشق الفرعون للنوبية السمراء نفرتاري جميلة الجميلات، أم كل حسنـاوات النوبـة". وأقفل المقطع مؤمنـا أن ما قـاله حقيقة.. "من أجل الحب قام.. ولكن!!" وشرع في لحن الختام من فـوره مداورا "معبد أبوسمبل هو الفرعون وهو نفرتاري.. فردان مكرسان في بنيانه، أما "شج فرن" فشأنه أمر آخر. أكثر جلالا.. شق في الصخـر من أجل البشر.. للعشـاق والمحبـين أيضـا.. ونعم.. ولكل النـاس حتى اليوم ومنذ الأزل.. لحاجـة الحياة التي لا تنتهي وحتى الأبد".

وقف ساكنا يتـذوق طعم الكلمات، فرحا بأغنيته الأولى "لشج فرن" عاود ترديد الكلمات في دوزنات طربه، شعت الفرحة في أعماقه، قفر جذلا، أيقن أنها خاتمة المناظرات بين زملاء المدرسة.

ولكن مسرات النفس وأفراح القلب لا تدوم، فلم يعد "شج فرن" هو "شج فرن" فقد تمت التعلية الثانية للخزان في أسوان وبعدها بزمن لا يدرون كـم طال، دأب تمساح كبير على الخروج من النهـر ليخلد إلى نوم طـويل على الرمال الناعمة عند مدخله قاطعا الطريق على السالكين يمكث لساعات ساكنـا لا يريـم، يقذفـونه بالحجارة، يوقـدون النار في سعف النخيل يلوحون له بعصيها المشتعلة، ينثرون الرمال في وجهه حتى يضيق بهم فيتحرك هابطا للنهر في تكاسل كأنما الرغبة في العودة ترجع إليه، تنبئ حركاته ونظراته اللامبالية أنه يمعن في كيدهم وبأنه ما عاد للنهر مجبرا ولكن لأنه ينشد السباحة والغوص.

باءت كـل محاولات "محمد بشير" خفير القرية لقتله بالفشل، طلقات الرصاص من بندقيته القديمة ترتد متفرقـة من حراشيفه صفيرا في خواء الممر متناثرا صدى يتردد بين الجنبات. مناورات مضنية نشبت بينهما استغرقـت زمنا حتى ضاق "محمد بشير" من تعطل مصالحه، يكمن أياما في انتظاره حتى يمل، ثم يعاود الظهور ليعود ببندقيته ورصاصه الطائش دون جدوى، حتى سلم بأنه محجوب عن الإصابة محمي من ناس النهر، صدق كل من شاهد معاركهما أنه بالفعل محجوب، فسموه "التمساح محجوب". ومع كثرة المحاولات الفاشلة في التخلص منه ذاع صيته حتى بلغ كل القرى والنجوع وزادت التساؤلات عن سره، كيف ومتى تسلل صغيرا عبر صخور الجنادل عند وادي حلفا؟ وكيف اختبأ ونما وكبر في غفلة منهم حتى فاجأهم؟ هل أذاب خزان أسوان التعويذة القديمة لقطب الأقطاب السيد الحسيب النسيب الميرغني الذي منع كل التماسيح أن تتخطى وادي حلفا بعدما لاذ به الأجداد منذ عصور بعيدة؟ فزعوا إليه من أسرابها التي كانت تنشر الموت والرعب على طول الشطآن. هل طال الخزان تلك التعويذة كما طال الأرض والدور والنخيل والتلال وغرب الأهل في الشمال؟

"محيي الدين شريف" حاله غير حال أهله، أمنيته أن يملك بندقية، عزمه أن يكون حريصا على إصابته بدقة، لديه تصوره الخاص، سيعمد إلى رفعه للحركة ثم يصوب تحت إبطه.. ستكون الإصابة قاتلة، وهذا ما لم يستطع "محمد بشير" تنفيذه رغم نصائحه له، كان دائم الفشل حتى أنه أفلته في كل مرة. طلب منه ملحفا إعارته تلك البندقية التي أمل في فوهتها الخلاص فخاف من حكم "الميري". "محيي الدين شريف" الحجة أعوزته فسكن عاجزا لا يملك إلا أن يرصده في سكناته وحركاته، علم متى يخرج من النهر ومتى يعود حتى حفظ زمنه ووقته الخاص، وعرف كيف يسلك طريقه زحفا للشاطئ أو عائدا للنهر. وفي مرقبه خلف الصخور الناتئة عند الشاطئ جلس الساعات الطوال تعبث به الهواجس والظنون والرغبات والأحلام، كفت الكلمات أن تزور مخيلته فوئدت أغنياته، وتوقف سباق الجري، وانحسرت حركة عبور الممر حتي تقلصت لساعات معدودة، ولا يعرف متى يعود "شج فرن" كما كان!.

نبتت في أعماقه فكرة من طول ما تأمل وتألم.. بدت غامضة ومشوشة، تخبطت في مسارب نفسه حتى اشتعلت داخله كأغنية من أغانيه التي اشتاق إليها، أغنية غريبة النغم.. أغنية "للترب" الكبير الذي شرع من فوره في سنه على الصخور السوداء حتى لمع نصله وصار حادا رهيفا، صنع مقبضه من جذع شجرة السنط التي تقف على رأس حقلهم الصغير، أبقاه خشنا بنتوءاته حتى لا ينزلق من بين أصابعه النحيلة عندما يبتل بماء النهر.

اختار ساعته وقبع في مكمنه خلف الصخور، واقترب موعد أوبته للنهر زاحفا في خيلائه. خلع ملابسه وأبقى سرواله مشمرا عن ساقيه.

أضعف حالاته عندما يكون نصفه في النهر ونصفه الثاني على البر، لحظة أن يتكئ برجليه الأماميتين على حافة الشاطئ شاخصا بعينيه الجاحظتين للماء. وفي خفة "أبوالحسين" ثعلب البراري، قفز على ظهره وامتطاه كما يعتلي ركوبتهم الحرون، لف رأسه فاغرا فمه بأسنانه الحادة الطويلة في عنف من بوغت يريد نهشه، سدد "محيي الدين" طعنة قوية إلى عينه اليمنى "بالترب" المعقوف ففقعها، وفي لفة كالإعصار انقذف في النهر ليرتطم بالماء في قوة، سارع ولف ساقيه الطويلتين الرفيعتين على بعضهما أسفل بطنه في قوة متمكنا من جسده نائيا بنفسه إلى الأمام متحاشيا ذيله الثقيل الذي أخذ يضرب على غير هدى. حركة جسد "محيي الدين" هي حركة التمساح.. كتلة موحدة من العنف المصطخب وموران الجسد للانفلات من قبضة الساقين الكلابتين واشتعال نار طعنة العين التي بدأت تنزف.

يده اليمنى شرعت تغوص "بالترب" في الجنب الأيمن الطري من بطنه كالسيف يشقه من الأمام للخلف في ضربات قوية متوالية كمن يجدف ضد تيار عنيد.. يجدف ضد الموت وفي مواجهته، انتقل الترب ليده اليسرى ليشق الجانب الأيسر، قوة عارمة تتدفق في جسده..عودة لتلك القوة التي كانت تتدفق في عروقه عندما يقف وحيدا وسط الممر تحت ظلالها الشامخة.. وهنا هو أيضا وحيد مع التمساح والنهر والموت. إن وهن فلن ينجو وإن أفلته فلن ينجو. وها هي تباشير الفرج والنصر تهل عليه مع الدماء المنقذفة كانقذاف مياه النهر من دواليب رفاص يشق طريقه وسط الموج. ما زال يشعر به قويا تحته يناضل دون وهن.. يتحرك في عنف يمنة ويسرة حتى اصطدم بصخرة ناتئة في ظلمة المياه فانقلب على ظهره وغاص به إلى الأعماق.

بعد ساعات لم يدر أحد مداها طفا جسد التمساح على ظهره شمالي "شج فرن" تدفعه المويجات الواهنة نحو الشاطئ الصخري.

"محيي الدين شريف" لم يعلم أحد بغيابه إلا مساء، في البدء لم يقفوا على العلاقة بين جسد التمساح الممزق وبين غيابه. كان التيار قد أخذه بعيدا قبل أن يدركوا حقيقة ما حدث. توقعوا ظهوره عند قرى الشمال فأقاموا الراصدين على طول الشاطئ. ولم يظهر- توقعوا وصوله لبوابات الخزان في أسوان إذا لم يأكله السمك أو تنهش الحدآت جثته. وانتظروه عبثا.. طالت أيام وليالي الانتظار حتى أيقنوا أنه ذاب وتلاشى بين "الجنينة والشباك" وبين خزان أسوان.

 

يحيى مختار

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات