غريب في الحفلة حسن علي محمد الجوخ

غريب في الحفلة

قصة للكاتب الإنجليزي: جون واين

في هذه اللحظة يبدو من بين كل متاعبي وأسوئها عصب بوجهي، لا يتوقف عن التقلص..أظل أحدث نفسي: إن هذا لا يهم.. لا أحد يلحظ أو يهتم، فاللاجئون يفترض فيهم دائما أنهم عصبيون ومنهكون، وهذا ما يفسر محاولاتهم المستمرة لإثبات أصالتهم، هذا رجل مسكين يعتبر كل ما مر به من ثورات، ومعارك في الشوارع، ومحاولات فاشلة للهرب ترغمه بالفعل أن يرمي بكل شيء خلف ظهره، فلا غرابة إذن أن يكون في صورة سيئة بائسة: "هل رأيت وجهه، وهو يتقلص".. أعتقد أنهم سيتحدثون بحزن وتعاطف شديدين، ولذلك علي ألا أكرههم، بل يجب أن أكون ممتنا لهم، لأنهم في إطار الحدود البشرية المألوفة طيبون، الحقيقة أنهم يكنون لي مشاعر طيبة أصيلة، فلهم حياتهم التي يحبونها، وملابسهم التي يلبسونها، ووجباتهم التي يتناولونها، وأحباؤهم وأصدقاؤهم وأولادهم، وأرصدة المصارف.. ويبقى بعد ذلك حوالي الواحد من المليون من طاقاتهم متبقيا حرا، يشعرون بي بصدق، وأنا أعرف ذلك وأحترمهم.. فقط أود لو يكف هذا العصب عن التقلص، مجرد رغبة لن تتحقق، ولكن ليست كلية، لأن المرء يشعر بعجزه حينما يفقد السيطرة على جسده.. إن ذلك يجعلني حقيقة أشعر بضعفي، حتى لو كان لدي منزل وأصدقاء وبلد يعترف بي، وما يزيد على ذلك الآن أن جسدي هو كل ما أملك.

ولكنني أقول لنفسي: إنك في حفل، أين شخصيتك الاجتماعية؟!، هل ستظل واقفا طوال الليل بركن ممسكا بكأس فارغة؟، وأنت تقلص عضلة في خدك، ابتسم، تفحص نفسك.. واظهر أنك على استعداد أن تكون ودودا.. أرأيت؟، لقد نجحت، ها هي ذي مضيفتك آتية باثنين لمقابلتك والتعرف عليك: رجل بدين غير مفهوم، وزوجته النحيفة الذكية، أريدك أن تقابل.. أسماء، وأسماء إنجليزية تطرقع بثقل لحظة خروجها من الفم، وتسقط على الأرض، ويتخللها المرء كقوالب طوب خشبية ملقاة قد نسيها.. كل الأسماء الإنجليزية مثل: جون بلوب..، وزوجاتهم مثل: سوزان بلوزان، وآن جرام.. وها هو ذا اسمي ينحدر من اللسان مثل طرقات سوط شجاع في حلقة سيرك، يبدو سخيفا لهؤلاء الناس، وسخيفا بالنسبة لي، أشعر كأنني ممثل، وقد اخترع لنفسه اسما خياليا.

بدأنا نتحدث: فهو كاتب، وهذا لا يدهشني، لأنني دائما ما أقدم الكتاب، حاليا يخدمونني بدلا من الدولة، جمهورية الحروف قصة غير مؤذية، لكن هذه قضية أخرى.. أبدأ محادثة كل منطلقاتها تلقائية، وكنا ندفع الحوار بيننا في محاولة أن يشعر كلانا بالألفة، الفارق الوحيد بيننا أنه كان يدفع الحوار بيسر وسهولة، بينما أدفعه بمجهود شاق، ووجهي يتقلص بصورة أوضح من ذي قبل، وأنا أرتب خواطري لأختار الكلمة المناسبة، وأحيانا أعتقد أنني لن أتحكم أو أمتلك هذه اللغة الملعونة، والتي أعدها مجموعة من المتعصبين لينفرد باستخدامها أهلها فحسب.

ندفع بالحوار من موضوع لآخر، لم يسمع كلانا عن الآخر.. لكنه يعلم أني كنت شاعرا مشهورا ببلدي، لأن مضيفتنا قد أخبرته بذلك.. أسأله عن عمله الخاص.. إنه متواضع خجول، قصة أو قصتان، وتصحيح جريدة أسبوعية، وبعض القصص المقروءة بالإذاعة، فهو لا يختلف عن كثيرين.. وطوال الوقت لم تكف زوجته عن التحديق في، فتبدو وكأنها جائعة، كما لو أن زوجها لم يعطها ما يشبعها.،. فيم تفكر؟، أكانت تخمن أي نوع من الرجال أنا؟.

حديثي المتقطع، وتوقفاتي المتغيرة والمتكررة وتقلصاتي.. ربما كانت تسأل نفسها إذا ما كنت طيب المذاق لتأكلني، وأقرر أنها تبدو مثل طائر. بها بعض طيبة، وملامح وجهها تنبئ بذلك، ولأكون منصفا إن بها قليلا من السحر الرفيع للطائرا.. وددت أن أقول للرجل: إن زوجتك تشبه طائرا.. إنها تنظر لي كما لو كنت قطا، وهي طائر تدرب جيدا على افتراس القطط.. راحة عظيمة أن تبدأ حديثا خياليا، أو شاردا، أو حتى بقسوة الخروج ليفلت المرء من هذه اللعبة المرهقة، ذات الأجزاء الحسابية الصارمة المملة، لكن- طبعا- هذا خارج الموضوع.. حتى لو بدأت على مثل هذا المنوال فسأكون موجها بنزوة مجنونة، فإن نقص مفرداتي قد يوقفني ملجما قبل أن أكون قد تفوهت بكلمتين.. وهكذا أستمر سادرا في تخيلاتي، كم لبثت في هذا البلد؟، وما مراحل هروبي؟.. وما المساعدات التي حصلت عليها من المنظمات الدولية؟ وهل يفهم هذا الرجل البدين حقا ما فعلوه بي؟..

ربما، على أية حال هو-أيضا- يحيا بالكلمة، وبالطبع سيكون له رؤية لما يكون عليه الأمر، عندما تكون الكلمة قد سحبت، واللسان قد تمزق حتى اللغلوغ.. أمور تشتت ذهن بكل ما به من مدركات ملتوية وغاطسة وتموجات، قد مسح فجأة بخرقة متربة، مثلما يكون الأمر مع سبورة صغيرة لطفل، أعيد إلى حجرة الدرس.. وشعر الرجل بالسأم، فالحديث أخذ يجهده بفعل حركة الذهاب والإياب الميكانيكية، وذات الطبيعة المملة، فبدأت عيناه تجوبان جوانب الغرفة، باحثا عن مخرج فتحججت كي أتركهما، الرجل وزوجته، التي تشبه الطائر، لقد كانا طفلين طيبين، وقد قاما بواجبهما، وأعطياني الفرصة لممارسة إنجليزيتي.

إنجليزيتي!.. لكن الإنجليزية لن تكون لغتي.. إنني رجل عجوز.. بل يجب أن أتعلم كيف أتعامل معها- ولو إلى حد ما- ولكنها ستظل دوما لغتهم، وليست لغتي، فالمرء لا تكون له إلا لغة واحدة، مثلما يكون له أم واحدة، والآن أصرخ مطالبا إياها بأقوى ما يملك المرء من عاطفة، كالذي يصرخ عندما تموت أمه "لغتي".. لغتي هى الروح والنفس، والذكرى لشعبي تفيض من ألسنتهم في نافورة خالدة متدفقة في رشاقة، لا تجف أبدا.. كم أتوق بشغف لأقل الأشخاص ألفة وبلادة، يستطيع التحدث بتلقائية بهذه الكلمات، التي كانت يوما ما حياتي، فهي تمثل قطرة من تلك النافورة، تلامس وجه المرء كنعمة إلهية.

لكن في هذه الغرفة لا يوجد من يعرف نافورتي، ولذلك إذا أردت أن أتحدث لغتي، فعلي أن أتحدث بها إلى ذلك العصب بوجهي، أقول له: تعال الآن أيها العصب إنك تشكل جزءا من تكوين محظوظ جدا.. فإذا ما كنت عصبا في وجه لاجئ عادي، فإن المرء يمكنه أن يفهم تقلصاتك، بل يمكنه أن يتلمس لك العذر في مثل هذه الظروف، فإذا أنت بلا مستقبل سوى أن تكنس والقمامة.. لكنك يا عزيزي لا بد أن تفهم أنك جزء من وجهي، وجه مميز، وجه أديب، وجه قد صور فوتوغرافيا عدة مرات، فلا يعترض حيال أن يرسم أو يصور.. أصور!.. آه يا ماريا أين أنت الآن؟. إنها كانت خدعتك الصغيرة، أليس كذلك يا ماريا؟، حينما اقترحت رسم صورة زيتية لي كي تجمعنا معا.. وقبل ذلك بكثير أحببت أن تضيفي اسمي في سجل أحبائك.. لا أريد أن أراك ثانية يا ماريا، لأن سنوات عديدة مضت منذ أن انتهى كل شيء بيننا، فقط أريد أن أعرف أين أنت؟.. لكن أحد المطلبين مستحيل مثل الآخر.. سوف لا أراك أو أسمعك ثانية، من سنة مضت ما كان للتفكير أن يؤذي، لكنه الآن يؤدي يا ماريا، بل يؤلم فعلا، حتى أكاد أصرخ بصوت عال.. ليس فقط بسببك يا حبيبتي الحزينة الخسيسة، ولكنها تعيد الحديث.. المقهى، حيث أتيت لي لأول مرة، وقدمت فيه نفسك "لا تظني أنني لم أدرك أنك كنت تريدين.. منذ اللحظة الأولى".. آه.. الشمس المشرقة، والشارع المتكاسل، يا إلهي، الأصوات.. ماريا إنك تحولت في عقلي فاتخذت شكلا جديدا مقدسا بفضل تلك النار المتأججة في ذاكرتي، لقد أصبحت جزءا لا يتجزأ من النافورة.

والآن ها هي ذي مضيفتي تأتي ثانية بصحبة ضحية أخرى تبدو خائفة لتقدمها لي.. كاتب آخر؟.. محرر أو ناشر؟.. أو فقط أي شخص، استطاعت الحصول عليه، كي تساعد على إخفاء هذا الوجه التراجيدي لذلك الركن، والذي يحدث نفسه، ويتقلص في نفسه بكأس فارغة.

لكن هناك زجاجة، الآن لم تعد كأسي فارغة، وهناك وجه جديد ستراه، واسم جديد.. وتبدو اللعبة من جديد، كيف حالك؟، نعم!.. ستة شهور الآن. بالتأكيد كانوا بالفعل في غاية الكرم.. خطتي المستقبلية.. ثم أتوقف عن الحديث معي دائما بلغتي الخاصة المنتقدة، مذكرا إياي بسماء تحتها عشت شبابي، وعايشت وجوه أصدقائي، بعضهم أموات، والآخرون مفتقدون، والمقهى، وماريا تسير عبر الشارع في دفء الشمس، و"الكانفا" تحت إبطها، وكذلك القصائد، التي اعتدت أن أكتبها وأرددها لنفسي في الحجرة المرتفعة، التي تطل على المدينة في المساء، والحديث والنافورة الواهبة للحياة الجميلة، للغتي الخاصة، التي تراسل تيارها الراقص الباهر.. لن أراها مرة ثانية.

نعم كانوا كرماء جدا، أكاد لا أشعر بأني لاجئ.. نعم أنا محظوظ بشكل غير عادي.. وتستمر لعبة الكراسي الموسيقية.. ها هي ذي ضحية جديدة.. وأخرى.. وأخرى، وكأسي تمتلئ لتفرغ، ثم تمتلئ ثانية.. استمرت الحفلة لساعات، وحالا سأعود، ولكن ليس بعد، إن مواجهة الوحدة أمر قاس، برغم أنني لست مع هؤلاء الناس، ولكن فقط بينهم، فإن هذا- في حد ذاته- شيء ذو بال.

وبطريقة تلقائية أواصل الحديث، وهأنذا أتحدث وامرأة في الحفلة، يتحرك فمي تلقائيا مشكلا نفس المقاطع البالية، والتي صارت عديمة المذاق على الرغم من أنها لا تزال تتمتع بقوة حداثتها، وكلما تحدثت ركزت نظرتي عليها لجاذبيتها، مثلما يفعل إنسان في نصف وعيه وشخص من الجنس الآخر.. نظرة.. ثم أفكر في شيء آخر.. لكن لا!، ماذا أصابني؟، فجأة أشعر بضعف ورعشة في الركبتين، فأمد يدي لأثبت نفسي على المنضدة، هناك.. لقد ذهبت بالفعل هذه المرأة الممتلئة الشقراء، والتي تبدو في العقد الخامس، تبتسم في ثقة، لكنها ذات نظرة ميتة.. في تلك اللحظة- حينما كنت أحملق فيها- رأيت ماريا، ماريا كما كنت أستدعيها في مخيلتي، صغيرة وجميلة وشيطانة، لكن في الواقع كانت ماريا بدينة، ثائرة وخسيسة، وغير نظيفة.. أواه.. إنني أعرفك يا ماريا، قد تكونين سعيدة الآن، لاعتقادك أنك خدعتني حتى في لحظة الذكرى.

ماريا أنصتي لي جيدا، سأتحدث معك لغتي.. حتى هذه اللحظة فمن يحرك المقاطع المجهدة، وينثرها هنا وهناك من أجل هذه المرأة، زوجة شاعر، إنها مثيرة، أليس كذلك؟، فنان يبذل الحب بلا حدود لفنان آخر.. أنت بألوانك، وأنا بكلماتي أعلى المدينة في ليالي الربيع المضيئة.. أمر بديع ومدهش.. لم تكن كذلك، أليس كذلك يا ماريا؟، لقد كنت جميلة وقذرة، وبك مس من الجنون.. أليس كذلك؟، لكن ما كان لي أن أهتم بمظهرك الخارجي، ولا بزي رأسك الإضافي، ولا بقدميك اللتين تشبهان رجلي الغراب، إنما كنت أهتم بروحك الساحرة- إذا لم تكن قد شوهت بعد- إنك حقيقة لا تحبين الرجال، ولا غرابة في ذلك، فقد عاملوك معاملة سيئة، لكنك لا يمكن أن تستغني عنهم، وأعتقد أنني كنت كذلك والنساء.. لقد فكر كل منا في الآخر، واستحققنا جهنم الصغيرة الحقيرة، التي شيدناها معا.. نعم، نعم، بعض الصور، التي ترينها في ذاكرتك حقيقية، أو على الأقل ليست كلها زائفة، كان عندنا حجرة مرتفعة، وكان يمكننا أن نطل على المدينة من أعلى، وكنت أجلس بجوار النافذة لأردد قصائدي لنفسي، لكن الحجرة كانت في منطقة شعبية تعج بالزحام، والسكان الذين سكنوا الطوابق الأخرى، كانوا عادة سكارى، وأحيانا عنيفين، وكان يمكننا أن نتلمس طريقنا على السلم في خوف ورعب، وغالبا ما كنا نضطر للبقاء في الحجرة دون رغبة في الخروج، لأننا كنا نعجز عن مواجهة السلالم الشاغبة بسجاجيدها البالية، والمقواة بالرقع القذرة.. آه.. لم أكن أحب تلك الحجرة، وكنت أتردد في دفع المبلغ، الذي أتكلفه أسبوعيا في إيجارها، لكن كان علينا أن نذهب إلى مكان ما.. أليس كذلك يا ماريا؟، وما كان لنا أن نظل طوال حياتنا الصغيرة الحقيرة في الشوارع؟!.. أكان ممكنا؟.. كنت تعيشين وأمك العجوز.. وقد حصلت منها على الكثير بعد زيارة واحدة، وقد ظلت تتبعني تلك العجوز المخرفة من حجرة لأخرى بصوتها المرتفع الحاد.. ربما كانت سيئة مثل زوجتي، غير أن زوجتي كانت مؤسفة حقا، ولا يغفر لها أسلوبها لإظهار عدم الرضا عن حياتها معي. حسنا.. لقد انتهى كل هذا، زوجتي لا يمكنني اصطحابها إلى الخارج.. على أية حال هي لا تريد حتى لو كان ذلك ممكنا، إنها ستتودد بتقديم الخدمات للنظام الجديد، ومن المحتمل أن يسمحوا لها بحقوق نشر كتبي، وسوف تعيش راضية سعيدة، مثلما كانت راضية معي.. الغريب أنني فجأة بدأت أكرهها، لقد بدأت تتحول في نظري إلى ضفدعة بعد هذه الحفلة.

وقبل انصراف آخر ضيف كنت أتعجب، كيف سأكون معها بالليل؟!، وكيف أسمح لخمسة آلاف ليلة تمتد أمامنا على طول الطريق إلى القبر، وابنتي ستكون على ما يرام في ظل النظام الجديد- إذا فرض أن هناك نظاما جديدا بالفعل- وهنا أراهن، والآن على وجه التحديد أنها فعلا وجدت نفسها في الرتب العالية للبيروقراطية، وستركب سيارة وتأكل أجود أنواع الشيكولاتة المحلاة بالخمور.. ربما كانت ترتب لهذه الأمور، وأنا أبوها، علي إذن أن أهرب لأنجو بحياتي، وإذا ما قبض علي فلا يساورني أدنى شك، إنها ستسألهم الإذن لحضور تنفيذ الحكم بإعدامي، وقد تقول، وهي مندفعة إلى الأمام لتظهر بوضوح: انظر يا أبي، أنا هنا، هذا هو معطفي الفرو الجديد، وغدا سأنال أسورة بديعة، وأمي لن تصادفها متاعب الحصول على الكيروسين، والآن تقرر أنها أكثر مهارة منك.. نعم يا حبيبتي قد أقول، وهم يربطون المنديل حول عيني: لقد ورثت مهارة أمك، وكلاكما أكثر ذكاء مني.. كل ما استطعت عمله هو كتابة الأشعار، وأصدقائي المختارون كانوا الكلمات، وبينكم صنعتم مني وجبة شهية، آه.. لقد التهمتم كل شيء حتى نهايتي. يا إلهي لم أسمع كلمة تفوهت بها هذه المرأة طيلة خمس الدقائق الأخيرة، فقط تنظر لي بطريقة غريبة مريبة، ربما تظن أنني سكران.. حسنا إني سكران بالتبيان، سكران بالوضوح، يجب أن أخرج وأتجول في الشوارع مع نفسي.. إلى اللقاء يا مضيفتي، إلى اللقاء هنا، وإلى اللقاء هناك، معطفي وقبعتي، إلى أسفل السلم، إلى الشارع البارد الممطر، هواء رطب، والنهر العظيم يهب بقوة بعد ذلك، ربما في يوم ما أحب هذا المكان رغم كل شيء، وبين الحين والحين دعوني أعد إلى ماريا، أو أمكث.. لا.. لا تدعوني أعد إلى ماريا، لم أرها كما كانت، وهذا ما أثار غضبي، كم كانت ذكريات غير أمينة، الآن عدم الأمانة يفيض ويفيض، ربما أخذوا العدوى من ماريا نفسها، لقد كانت تكره الأمانة، مثلما يكره الخفاش ضوء النهار، ويؤلمها أن تسمع شخصا يتحدث بالحق، حتى ولو في أحط وأتفه الموضوعات.. لها لصوصيتها، تخطف أي شيء صغير يستولي على مشاعرها، ويسلب عقلها، وتضعه في حقيبة يدها بأسرع مما تتعقب يدها عين، ولكن الأشياء الصغيرة، التي كانت تؤثرها أوراق البنكنوت عندما يمكنها الحصول عليها، لم أكن أجرؤ على إخراج ما في جيبي أمامها في المساء، كنت أحتفظ بنقودي حيث أستطيع الحصول عليها، يحدث ذلك حتى عندما يكون بيننا الحب.. لماذا يا ماريا؟.. حسنا، حيث لا هدف.

دع التركيز عليها الآن، كل ما يهمني أنه كان علي وسط هذه التفاهة والسأم أن أحظى بلحظة من السطوع والتوهج.. أن أنفذ إلى ما وراء الستار الخلفي المتخيل للأحلام، التي كنت أرسمها لنفسي، فجأة تبرق تلك اللحظة بطول خط المنتصف، وأسعد بلحظة من حياتي، تكون بالفعل متأججة ومشوهة وحقيرة في تفاصيلها وحدودها عدا ما يخص أشعاري، المهم أنني ألتصق بها.. أشعاري كانت حقا جيدة، وأعتقد أني يوما سأضطر أن أؤكد لنفسي وغيري هذه الحقيقة ببساطة كحقيقة، كشيء أتذكره، والسنون تمر، وسوف تتوقف لغتي عن أن تكون امتلاكا حيا وخاصا، برغم أني أكون قادرا دائما على أن أقرأها، وأتحدثها جيدا، آه.. سأفتقد تلك الخاصية الذاتية الروح، والتي تمنح الإنسان القدرة على التمييز بين الغث والسمين في الإبداع الأدبي، ولكن الآن، وأنا أسير هنا، والماء الداكن على أحد الجانبين، والبنايات العالية الميتة على الجانب الآخر.. في هذه اللحظة بالذات أعرف مهارتي والكلمات، لم تخني قدرتي معها قط، لا يوجد بين شعرائنا من أحب وربح لغة حية مثالية مثلي، لم يوجد شيء لم تستجب له، وأي شيء سألتها إياه أعطته فورا، لقد كنت طفلها المدلل، الذي تحقق له كل رغباته، بينما هناك رجال ذوو مواهب أصيلة قد عانوا سنوات عديدة، ولم تسمح بالدخول في بلاطها، ولا تلبي لهم طلبا متى سألوها، ولا يدركون هل هي في حالة تستطيع أن تفي برغباتهم؟.. الحقيقة أن الأمر لم يكن مسألة امتلاك كلمات، هناك شيء أريد أن أقوله- وأعتقد أن كل إنسان يعرفه- ربما لأن حياتي الخاصة فاشلة ولا طعم لها.. فقد رأيت بأقصى درجة من الوضوح ما هي الحياة الحقة على هذه الأرض.

فقد رأيت حتى آمال وأحلام الناس، وعبرت عنهم تعبيرا شعريا صادقا، آتي بالدموع من مآقيهم حينما يسمعونني أقرأ أشعاري، ليست دموع حزن، لكنها دموع فرح، نعم دموع فرح وراحة، حينما يجدون أنهم ليسوا وحدهم في هذه الدنيا، وأن شخصا ما قد عاش أحلامهم، التي كانت تأتيهم عندما يضعون رءوسهم فوق وسائد الليل الموحش، أن أحلم أحلامهم، وأن أنحت مفردات، لم يعرفوها منذ مليون سنة، وأن أكسو أحلامهم بهذه المفردات، أن أثريهم بكل العظمة والعمق والتصوير الراعش المحرق العظيم، والذي يمارس تأثيره من خلال لغتي، كان ذلك هو إنجازي ولا مخلوق يستطيع أن ينزعه مني.

إذن. ماذا يهم بعد ذلك كله؟، أنا مخادع لنفسي، وليس عندي صدق أخلاقي، أتذكر حياتي القديمة وكأنها شيء من الراحة والحرية والسطوع، بينما كانت في الحقيقة حياة غبية وحقيرة كحذاء التقط من بركة آسنة، حينما يكون لي ذكريات لا يكون لي إلا الأحلام، لأنني أعرف أن هذه الإضاءات والإشراقات اللحظية من الحقيقة والصدق ستقل وستقل، ربما كان عندي بالفعل قوة إلهام، وفي كابوس الآن لمدة ثانية، أو لحظة اكتئاب، قد أرى ماريا كعاهرة ولصة بالسليقة، واصفا بخيال الفنان زوجتي كامرأة هوجاء وقذرة وكئيبة، وابنتي كعاهرة تافهة تماما، ومكسوة بالأنانية، مثلما يطهى خنزير ويلف بالدهن، ويقدم كهدية، قد أرى مقهاي الحبيب بارا مليئا بمضيعي الوقت المخبولين، وقد استحوذ عليهم الخداع والحقد، بينما قليل من الإحساس النبيل عليه أن ينزع من جبل النوايا السيئة والأحاديث التافهة.

حتما لا تهم أي شيء فيهم، هذا ما اكتشفته هذه الليلة، إن لغتي أصيلة، وحبي وولائي لها عظيم، والقصائد التي كتبتها بها، والحياة التي كانت احتفالا متصلا لهذه المعجزة، والقاموس اللغوي المتفرد، كل هذه الأمور كانت واقعا وحقيقة، وفي الميزان الأخير يتأكد للمرء أن قدرا يسيرا من الحقيقة سوف يفوق عالما من الزيف. بلدتي ومقهاي وماريا، وزوجتي وابنتي، وكل انشغالاتي اليومية- كما كنت أعرفها- كانت كلها ملوثة ومدنسة.. لكن الآن، ولأني أفكر فيهم بكلمات تتوافد من ذلك العالم البعيد الجميل، قد صاروا حقيقة فقط، وبمجهود شديد يمكنني أن أراهم كما هم بحق.. لكن نافورتي أراها لحظة إغماضة عيني بوضوح تام، مثلما أرى، وعيناي مفتوحتان، عمود النور الماثل أمامي الآن.

عدت إلى المكان الذي أعيش فيه، وسأصعد على السلالم إلى حجرتي، وأستلقي، وسأتوقف عن الصراع، ومن هذه اللحظة سأستسلم للنافورة مستقبلا قطراتها كنعمة ربانية.. إن تيارها المقدس قد مسى ذكرياتي فحولها إلى آمال وأحلام، وعلى الرغم من ذلك، ما أنا الذي قد حلم طوال هذه السنين، بل النافورة نفسها.. لغتي.. لقد صارت حياتي، والآن وهي تنسحب وتبتعد فأبعد عن حقيقة الواقع، وتصير كل أيامي ملجأ فيه أتجول، وفيه أخضع لشخصيتي فأصبح ليس بالحالم، ولكن الحلم نفسه.. الحق أن هناك أياما أخرى تنتظرني.

 

حسن علي محمد الجوخ

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات