جناية الأدب الجاهلي

  جناية الأدب الجاهلي
        

كانت نزعة تقديس الماضي نزعة شاملة في غلبتها على الفكر العربي وإبداعاته, نتيجة لعوامل متعددة: سياسية واجتماعية وفكرية ودينية واقتصادية وأنثروبولوجية.

          لا يمكن أن نفصل مذهب القدماء في الأدب عن مذهب أهل النقل والاتباع, وهو المذهب الذي تصدّى أصحابه لمذهب المحدثين الذين لا يمكن فصلهم, بدورهم, عن تيارات الاعتزال الكلامي والمذاهب الفلسفية الواعدة, المنطوية على مفاهيم جذرية عن الزمن الصاعد والإنسان الحر, خلال ما عرف بخصومة القدماء والمحدثين. وبقدر ما كان أنصار القديم ينطوون على مفهوم الزمن المنحدر والإنسان المقهور, وهما أساس نزعة تقديس الماضي. كان أنصار الجديد من المحدثين يؤمنون بزمن صاعد, وإنسان حر, مختار, فعّال لما يريد. ولذلك كانت الخصومة فكرية أدبية, كما كانت اجتماعية وسياسية. وكان طبيعيًا - والأمر كذلك - أن تتجلى أصول النزعة الماضوية في الأدب بعامة, والشعر بخاصة, متجاوبة مع غيرها من التجليات, التي أسست ما أطلق عليه تيار الاتّباع الذي ظل يناوش محاولات الابتداع, ويسعى إلى عرقلتها, وتقليص حضورها, عبر القرون المتعاقبة للحضارة العربية الإسلامية, إلى أن اكتملت له السيطرة, وتحقق له الانتصار بتحالفه مع السلطة السياسية, ابتداء من زمن الخليفة المتوكل الذي ناصر الاتّباع, وأمر به, ونهى الناس عن أفكار الابتداع ومجالاته. وكما وجد أنصار الاتباع ما يدعمهم في السلطة السياسية, التي جعلت الفكر الديني الاتّباعي غطاء لها, وتبريرًا لاستمرارها, وجدت النزعة الأدبية الموازية ما يدعمها في الفكر الاتّباعي الذي ظل تبريرًا وسندًا لها عبر العصور.

          وكانت النتيجة غلبة الاتّباع على الإبداع, إذا استخدمنا مصطلحات أدونيس في كتابه (الثابت والمتحول), وتصاعد تقديس القديم الذي أصبح الإطار المرجعي الأوحد لكل جديد, كما أصبح كل جديد اتّباعًا وتقليدًا للقديم الذي اكتملت صورته المثلى, واجبة الاتّباع, في العصر الجاهلي الذي أصبح شعره النموذج المحتذى, والأصل المقتدى به في كل العصور اللاحقة. وكان المرحوم أحمد أمين من أوائل الذين لفتوا الانتباه إلى هذا الجانب, وذلك في دراسة تأسيسية له بعنوان (جناية الأدب الجاهلي), نشرها في مطالع الأربعينيات فيما أحسب, وضمها المجلد الثاني من مجلدات كتابه (فيض الخاطر) الذي جمع مقالاته الأدبية والاجتماعية, وطبعته مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر, التي كان يشرف عليها أحمد أمين نفسه سنة 1946.

بقايا العصر الجاهلي

          ويبدأ أحمد أمين دراسته بتقرير أن الأدب الجاهلي كان صورة صادقة لحياة العرب في جاهليتهم, وتابعه في ذلك الأدب الأموي إلى حد كبير لأنه كان قريبًا من الجاهلية. فكثير من شعرائه لم تكن حياتهم إلا امتدادًا للحياة الجاهلية, وكان الذوق في العصر ذوقًا عربيًا يشبه الذوق الجاهلي, إلا بما لطّفته المدنية, وموضوعات الحياة هي هي, وإن كان ثمّ خلاف, فهو أن الهجاء القبلي تحوّل إلى هجاء سياسي, والحياة الخشنة تحولت عند كثير من العرب إلى حياة نعيم تشبه حياة امرئ القيس في جاهليته, ونغمات الشعر الموسيقية, التي كانت تلذ الأمويين هي التي كانت تلذ الجاهليين. نعم كان للإسلام أثر كبير في حياة الناس, فيما يؤكد أحمد أمين, ولكن كان له أكبر الأثر في أوساط الشعب ورجال العلم ورجال الأعمال وأقله في الشعر, ولذلك جاء الشعر الأموي مصبوغًا بالصبغة الجاهلية في الأوزان والقوافي والموضوعات والروح.

          ولكن مع العصر العباسي وصراعاته, التي أحدثت آثارها حدثت المفارقة, التي يعجب لها أحمد أمين, خصوصًا حين يبحث عن أثر المتغيرات الجذرية في الشعر, فلا يجدها بالرغم من أن كثيرًا من الشعراء فرس, والحياة فارسية في أكثر ألوانها, والحالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية مخالفة كل المخالفة للحياة الجاهلية والأموية. لقد كان من مقتضى هذا التغير أن يأتي الشعر العباسي صورة صادقة لهذه الحياة الجديدة. ولكن لم يكن كبير شيء من ذلك, وعلماء الأدب يجهدون أنفسهم في بيان المميزات الجديدة للعصر العباسي, فلا يأتون إلا بأشياء لا يراها أحمد أمين إلا سطحية, ليست من الجوهر في شيء, وجوهر التغيير - عنده - تعديل أوزان الشعر بما يتفق ورقي الآذان الموسيقية في العصر العباسي, ووصف الأحوال الاجتماعية والسياسية للعصر وصفًا صادقًا مستفيضًا, وأن يصفوا مشاعرهم هم, لا مشاعر غيرهم, وأن يفتحوا الفتوح في الأدب حتى يكون سجلاً لأفكارهم ومشاعرهم الحقة, كما كان الشعر الجاهلي سجلاً لأفكار الجاهليين ومشاعرهم على غير ما نجد في العصر العباسي إلا في القليل النادر.

          وأهم سبب لذلك, هو جناية الأدب الجاهلي على العصر العباسي, وذلك نتيجة غلبة المعسكر الذي يدعو إلى القديم وعدم الحيدة عنه. وزعماء هذا المعسكر, أمثال الأصمعي وأبى عمرو بن العلاء وابن الأعرابي, رواة أكثر منهم أدباء, وعلماء لغة أكثر منهم نقدة أدب, فغلب عليهم بطبيعة ثقافتهم أن يتعصبوا للقديم, وخاصة الشعر الجاهلي. ولذلك كان أبو عمرو بن العلاء يرفض الاحتجاج حتى بشعر الأمويين, ويقول عن المحدثين: (ما كان عندهم من حُسن فقد سبقوا إليه, وما كان من قبيح فهو من عندهم). وهي عبارات لا تخلو مدلولاتها من لوازم النزعة الماضوية, التي ترد الحسن إلى القديم في كل الأحوال, ولا تخص المحدث إلا بالسلب الذي يقترن بوقوعه على الخط المنحدر في الزمن المقترن بالإنسان المجبور. ويقرن أحمد أمين المحدثين بأمثال أبي نواس الذي دعا إلى وصف الأشياء عيانا, لا سماعًا, مؤكدًا أن ليس من عاين كمن سمع, وذلك في بيتيه الشهيرين:

تصف الطلول على السماع بها أفذو العيان كأنت في الفهم
وإذا وصفت الشيء متّبعا لم تخل من غلط ومن وهم


          والبيت الثاني ينطق صراحة العداء للاتّباع, وما يقترن به من سماع, مفضّلاً عليه علم التجربة, التي يندفع صاحبها إلى اقتحام الحياة حوله, والغوص عميقًا فيها, ووصفها بما أدته إليه تجربته هو لا تجارب السابقين عليه. وكان استخدام النواسي لمبدأ (الشك) الذي يفرض مساءلة الأفكار والأوضاع النتيجة المنطقية للأصل الاعتزالي الذي انطوى عليه بشار - صديق واصل بن عطاء المعتزلي - قبله, فلم يتردد في إنطاق المسكوت عنه من الأسئلة المقموعة, اجتماعيًا وسياسيًا وميتافيزيقيًا. ومضى أبو تمام بمبدأ معاينة الواقع - عند النواسي - إلى غايته, وفتح أمام القصيدة الآفاق المغلقة التي وضعت الدهر والزمن موضع المساءلة, مؤكدة قدرة الإنسان على مواجهتهما وتحديهما بما يؤكد حضوره الفاعل في التاريخ وبالتاريخ.

          واقترن ذلك بإهمال مفهوم الطبع الذي ظل لازمة أدبية لمبدأ الجبر الذي استبدل به المحدثون مذهب (الصنعة), الذي كان ينطوي على معنى الاختيار لا الجبر, وكان ذلك تأكيدًا لقدرة الشاعر على الاختيار المقرون بالتأمل, الأمر الذي يفتح القصيدة لحركة العقل, ويجعل من الشعر (صوب العقول) التي تضع كل شيء موضع المساءلة, ابتداء من الدهر, وانتهاء بالأمراء والملوك الذين أصبحوا تجارًا, يبيعون ويشترون في البشر الذين أوقعتهم القوة تحت سطوتهم.

          ولكن ما كان لتيار المحدثين أن يستمر, ويحقق انتصارًا نهائيًا يغدو به الأصل المغاير الذي ينقطع عن اتّباع الماضي كي يؤسس له زمنًا جديدًا من الحضور, ووعودًا مغوية من الإبداع, وذلك لتضافر العوامل السياسية  والاجتماعية والفكرية والدينية. أقصد إلى التضافر الذي وعى به أحمد أمين على نحو من الأنحاء, فأبدى أسفه على أن الصراع بين القدماء والمحدثين انتهى بنصرة الدعاة إلى القديم. مدركًا على نحو يدعو إلى الإعجاب تضافر الأسباب, التي أدّت إلى هزيمة الجديد وانتصار دعاة القديم. والسبب في ذلك أنهم كانوا أكثر اتصالاً بالخلفاء, وأكثر أتباعًا وأشياعًا, وأنهم من مكرهم صبغوا دعوتهم صبغة دينية, فقالوا إن الشعر الجاهلي هو أحد المصادر في تفسير القرآن الكريم, وعليه يُعتمد في شرح المفردات وبيان الأساليب. وفاتهم - فيما يقول أحمد أمين - أن الاحتفاظ بالشعر الجاهلي لهذه الأغراض لا ينافي مسايرة الأدب للزمان والمكان.

تحالف الاتباع

          وإشارة أحمد أمين إلى المكر في صبغ الدعوة إلى القديم بدعوى دينية لمح يغني عن الإشارة, وإجمال يومئ إلى التفاصيل التي تضافرت فيها العوامل المتعددة, واصلة بين الانقلاب الذي قام به (المتوكل) الخليفة بالتحالف مع أهل الاتّباع الذين نصرهم على المعتزلة. حين أمر الناس بالتقليد, وترك الابتداع والجدل, فأسهم التحالف في دعم (المتوكل) سياسيًا, وانتصار (الاتّباع) فكريًا, ومن ثم انكسار التيار العقلاني للمعتزلة, وما وازاه من تيار ابتداعي في الأدب الذي كان جسورًا جسارة العقل الاعتزالي في رفض مفهوم الزمن المنحدر, والإنسان المجبور.

          ويدرك أحمد أمين بعض أوجه هذا التحالف بحكم تعمقه في دراسة الفكر الإسلامي, وذلك في موسوعته الاستثنائية (فجر) و(ضحى) و(ظهر الإسلام) وهو التعمق الذي جعله يختار الجاحظ المعتزلي بوصفه أحد الذين خَفَت صوتهم بسبب انتصار الخصوم من أهل الاتباع.

          ويستحسن أحمد أمين موقف الجاحظ الذي يتعجب - في كتابه (الحيوان) - من تصاعد نزعة تقديس القديم في زمنه الجاهلي, الذي صار قرين العصر الذهبي أدبيًا, وإطلاق تفضيل كل ما في القديم على كل ما في الأزمنة اللاحقة, فيذكر أن غالب بن صعصعة - على سبيل المثال - كان أكرم من حاتم الطائي, ولكنه لم يشتهر شهرته, لأن غالبًا كان إسلاميًا, وحاتمًا كان جاهليًا (والناس بمآثر العرب في الجاهلية أشد كلفًا), فيما يقول الجاحظ الذي يعترض بطريقته الساخرة على ما آل إليه أمر الوعي الجمعي من استسلام كامل للنزعة الماضوية. ولذلك يمضي الجاحظ في تعجبه الساخر قائلاً: (ما بال أيام الإسلام ورجالها لم تكن أكبر في النفوس, وأجلّ في الصدور من رجال الجاهلية مع عظم ما ملك المسلمون وجادت به أنفسهم). ويمكن أن أضيف إلى شكوى الجاحظ الساخرة, التي أوردها أحمد أمين شكاوى لمتأخرين عنه, اقتربوا منه في المنحى الفكري العقلاني, فلم يكفوا عن مناوشة غلبة النزعة الماضوية في تجلياتها الأدبية, التي تمحورت حول الإيمان بعصر ذهبي, تمثل في العصر الجاهلي, وفرض بسبقه في الوجود والرتبة, كماله على كل ما هو لاحق عليه, واقع على هذه النقطة أوتلك من الخط المنحدر للزمن.

إفساد الأدب

          ويذكر أحمد أمين نواهي ابن قتيبة الذي كان من أهل الاتّباع, وعدوًا لدودًا للمعتزلة, بعد الانقلاب السنّي الذي قام به المتوكل, وناصره فيه, وكتب - تأييدًا له - أقسى نقد للاعتزال ورجاله الذين رماهم بكل نقيصة في كتبه الاعتقادية من مثل (تأويل مختلف الحديث), ولا غرابة - والأمر كذلك - في أن يقول ابن قتيبة: (ليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين. فيقف على منزل عامر, أو يبكي عند مشيد البنيان, لأن المتقدمين وقفوا على المنزل الداثر والرسم العافي, أو يرحل على حمار أو بغل, ويصفهما لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير, أو يرد على المياه العذاب الجارية, لأن المتقدمين وردوا على الأواجن الطوامى, أو يقطع إلى الممدوح منابت النرجس والآس والورد, لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشيح والعرارة.

          ولا يملك أحمد أمين سوى أن يعلق على الدعوى, التي انطوت عليها نواهي ابن قتيبة قائلاً: (اللهم إن هذه دعوة لم يفسد الأدب مثلها...ومما يؤسف له أن هذه الدعوة السخيفة لقيت نجاحًا كبيرًا, وشلّت الأدب العربي شللاً فظيعًا في العصور كلها إلى اليوم). وكان من أثر هذه الدعوة - فيما يقول أحمد أمين - انعدام حركة التجديد في الشعر, وانحباسه في قوالب تقليدية لا يتعداها, حتى أصبحت عيون الناس والشعراء في أقفيتهم لا في وجوههم, ينظرون إلى الخلف, ولا ينظرون إلى الأمام, وعبادة القديم - دائمًا - تفسد الذوق, وتقلب الوضع, وتفسد التقدير, الأمر الذي كان له أسوأ الأثر على الشعر, الذي تغلبت عليه التقاليد الجامدة التي رسّختها النزعة الماضوية, وجعلت منها أصلاً من أصول الكتابة, التي لا يمكن أن يخرج فيها اللاحق على ما وضعه السابق, بل يظل متبعًا له, وقد تزايدت التقاليد الجامدة عبر العصور, وفرضت حضورها المطلق بعد أبي العلاء المعري الذي كان آخر نسمة عفية في تعاقب الشعر العربي الذي دخل, بعده, إلى نفق طويل مظلم من الاتّباع والتقليد والمحاكاة. وهو النفق الذي يصل بين ما نسمّيه عادة (عصور الانحدار), التي شوّهت معنى (الابتكار) وانقلبت به عن أصله الإبداعي, لتجعل منه مرادفًا للزيادات الكمية, التي يضيفها الخلف على السلف الذي انفردوا بكل فضل وإبداع, ولم يتركوا لمن جاء بعدهم إلا التطريز على أعمالهم, في المدار المغلق لما أطلق عليه البلاغيون الاتّباعيون (حسن التعليل).

          وقد ذهب ابن طباطبا العلوي - في القرن الرابع للهجرة - إلى أن المحنة على أبناء زمانه من الشعراء أشد وطأة, وأصعب حلا, لأنهم قد سبقوا إلى كل معنى بديع ولفظ فصيح, وحيلة لطيفة, وخلابة ساحرة, فإن أتى المحدثون بما يقصر عن معاني أولئك لم يتلق بالقبول. وكان كالمطروح المملول, والحل الوحيد الذي يراه ابن طباطبا لهذه المحنة هي أن يأخذ المتأخرون أشعار المتقدمين, ويعيدوا صياغتها, كالصائغ الذي يأخذ المعادن المختلفة, ويعيد صهرها, ليخرج منها سبيكة جديدة, والمتأخر الحاذق هو الذي يبرع في هذه العملية, التي لابد أن يبرع فيها كي لا يكون الناتج كالشيء المعاد المملول, والنتيجة التي ينتهي إليها ابن طباطبا أنه (إذا تناول الشاعر المعاني, التي قد سبق إليها فأبرزها في أحسن من الكسوة التي عليها لم يعب, بل وجب له فضل لطفه وإحسانه).

أين شخصية الشاعر?

          والابتكار هو إعادة توليف السابق من هذا المنظور الذي يظل سجين المدار المغلق للتقاليد, التي لا تفارق عصرها الذهبي اتّباعًا, أو إعادة صياغة, ولا فارق بين الاثنين في واقع الأمر, فإعادة الصياغة هي التوليفة التي لا تخرج على الأصل, وتضيف إليه ما لا يتعارض معه, أو ينافره, وما يظل في دائرة الإضافة الكمية الهامشية التي هي, في ذاتها, اعتراف بكمال الأصل بالقياس إلى فرعه المتأخر في الوجود والرتبة, وهي نتيجة يترتب عليها إعادة النظر منهجيًا في مقاربة الشعر الذي تزايدت صفات التقليد فيه, فمن العبث البحث عن ملامح شخصية الشاعر, أو العصر في مثل هذا الشعر الذي لا يعبّر عن شخصية صاحبه ولا عصره. ولا معنى لمبادئ صدق الشعور, أو التجربة الذاتية, أو الرؤية الإبداعية في هذا النوع من الشعر الذي يتركب - كالسبيكة - من أخلاط سبقته, وبكيفية تقرن معنى (الابتكار) فيه بالبراعة العقلية في التوليف  بين عناصر سابقة الوجود, وهي براعة تحسب لصاحبها كلما زادت درجة الحذق فيها, واقترنت بنوع من التحايل الذي يخفي الأصل ويخايل بالإضافة.

          ونحن ندين بهذا المنظور المنهجي إلى عبدالعزيز الأهواني, الذي بسطه نظرًا وتطبيقًا في كتابه - العلامة (ابن سناء الملك ومشكلة العقم والابتكار) الذي صدر في القاهرة سنة 1962, أي بعد حوالي ستة عشر عامًا من دراسة أحمد أمين التأسيسية, وقد حاول بعض الباحثين, وعلى رأسهم شوقي ضيف, مراجعة أفكار أحمد أمين عن جناية الشعر الجاهلي, ساعين إلى إثبات أنواع من (التطور والتجديد) حتى في العصر الأموي الذي جعله أحمد أمين الامتداد الطبيعي للعصر الجاهلي. ولكن ما أثبته شوقي ضيف هو (تطور وتجديد) على المستوى الكمي, لا على المستوى الكيفي الذي ظل مؤكدًا الحضور الغالب لنزعة تقديس الماضي, أعني الحضور الذي جعل (الفن ومذاهبه في الشعر العربي) يتصاعد - بعد جمال الطبع - ليتقلب بين صنعة وتصنيع وتصنع, وذلك في ثلاثية تنطق ضمنًا بفضل المتقدم الذي كان شاعر (طبع) وقرين الشعر المطبوع الذي وجد مثاله الأول في العصر الجاهلي.

          ولذلك لم تنجح مراجعة شوقي ضيف لأحمد أمين جذريًا, وظلت منطلقات الثاني قوية, وقائمة, ومغرية بالقبول, وذلك بسبب تأصل نزعة تقديس الماضي, التي فرضت نفسها بقوة في الإبداع الأدبي بوجه عام, والشعري بوجه خاص. ولذلك يظل المدخل الذي اقترحه الأهواني لدراسة (العقم) الذي عدّ ابتكارًا في نواتج الشعر الاتّباعي هو المدخل الأقرب إلى طبيعة هذا الشعر, والأكثر تناسبًا مع خصائصه النوعية, خصوصًا حين يؤكد الأهواني أن الشعراء (الاتباعيين) فصلوا فصلاً حادًا بين شعرهم وحياتهم العامة والخاصة, وعاشوا في دواوين الشعر العربي القديم أكثر مما عاشوا في بيئاتهم المعاصرة, وكان همهم الأول أن يجيدوا في منظوماتهم إجادة تتفق وفهم أصحاب الدراسات البلاغية لهذه الإجادة, ولم يكن يعنيهم بعد ذلك أن يكون الشعر صادقًا أو غير صادق في تصوير واقعهم الحي, فقد عاشوا منعزلين في شعرهم عن جماهير الشعب, وعن ذات نفوسهم في الوقت نفسه.

 

جابر عصفور