تونـس من عاصمة الفاطميين إلى عاصمة الثقافة

تونـس من عاصمة الفاطميين إلى عاصمة الثقافة

تصوير: سليمان حيدر

كالحلم الذي يلامس لحظات الكرى.. كانت تلك الأيام التي ظننتها لحظات لروعتها، فقد راقت لنا الثقافة بكوثرها العذب وحلقنا على أجنحة الذكرى إلى أمجاد خلت تاركة عظمة معالمها.

حللنا ضيوفاً على العاصمة الثقافية ليلاً حيث سكنت الحركة، وسمعنا الكلمة التي يحيي بها التونسيون بعضهم (يعيشك).. وعندما أطل الصباح الربيعي مكللاً بغلالة رقيقة من ضباب أشجار النخيل والزيتون والزهور الحمراء والبنفسجية وقفت لأقول (يعيشك) يا تونس دائماً خضراء جميلة مطمئنة.

وبينما كانت الأشجار ذات الزهور البنفسجية تزين الشوارع والزهور الحمراء التي تشبه الأجراس تزين المداخل، كانت البلاد التونسية تفتح صدرها مرحبة بزوار الثقافة في مختلف المجالات، وإذا كان العالم يعيش ربيعاً فإن تونس تعيش ربيعين، ربيع الزمان وربيع الثقافة، وحين زرناها سحرتنا بربيعيها، ولكن مهمتنا حسمت الحيرة وكانت الثقافة بربيعها المزدهي دائماً في تونس هي مضيفتنا.

إلا أن الخوض في غمار الثقافة بشكل عام من الأمور التي تنطوي على الحيرة، فالثقافة تنطوي على التراث المشترك الفكري والروحي والأخلاقي فضلاً عن أنماط القيم والاتجاهات والأعراف، فالمفهوم العام لمصطلح الثقافة رحب ومترامي الأطراف، ولذلك كنت أشعر بضيق الوقت أمام ماتحفل به تونس في أعيادها الثقافية.

ثقافة.. وتراث ثقافي

وعندما تغلغلنا في المدينة القديمة بتونس استوقفتنا منارة جامع الزيتونة الذي يعتبر مركز إشعاع ديني وعلمي، والشيخ الشاذلي النيفر الرجل المسن الذي زرناه في مكتبته الخاصة التي تحتوي على 14000 عنوان مطبوع و1000 مخطوط يعود بعضها إلى 900 عام مضت، يحدثنا عن (الزيتونة) المسجد الذي بناه عبيد الله بن الحبحاب والي إفريقيا سنة 732م نظراً لأهمية تونس التي يصفها البكري بأنها أشرف مدائن إفريقيا وأطيبها ثمرة وأنفسها فاكهة.

ويعود اسم هذا الجامع إلى أن البلاد التونسية اشتهرت بزياتينها، وقد كان هذا الجامع بمنزلة جامعة إسلامية تنيرالعقول بهدي الإسلام، وأبرز من درس فيه خالد بن أبي عمران وعلي بن زياد، واستمرت الثقافة الإسلامية في هذه الجامعة حتى خرجت فحول العلماء أمثال القاضي ابن البراء وولي الدين بن خلدون الحضرمي وقد حافظ جامع الزيتونة على الشخصية التونسية أثناء الاستعمار الفرنسي.

والزيتونة من أبرز ملامح العصر الإسلامي الذي بدأ في تونس مع دخول عقبة بن نافع في منتصف القرن السابع الميلادي حيث شيد هذا القائد العربي مدينة القيروان ومسجدها المعروف أيضاً واتخذها عاصمة إسلامية وفي سنة 800 أسس إبراهيم بن الأغلب دولة الأغالبة التي استمر حكمها لمدة قرنين ازدهرت خلالهما البلاد.

والبلاد التونسية التي جملها الله بطبيعتها المتوسطية مما جعلها مهد الحضارات تعود إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة فقد تأسست فيها مدينة قرطاج عام 814 ق.م وازدهرت حتى نافست روما على السيادة في البحر المتوسط.

وبعد زيارتنا (للزيتونة) سرنا مع مرشدتنا (زينب) بين النهج (الشوارع المتسعة نسبياً) والزنقات (الشوارع الضيقة)، وفي طريقنا نحو تربة البايات أعجبت كثيراً بالمدينة القديمة بحوماتها (حواريها) المسقوفة حيناً والمكشوفة حيناً آخر، وبالأقواس التي تبدأ بها بعض الحواري والتي كانت تعلو أبواب المنازل أيضاً.

ومن سوق العطارين إلى سوق السراجين فأسواق الجزارين وأسواق الصناعات التقليدية كنا نتنقل في المدينة القديمة، حتى أنني كنت أنسى نفسي أحياناً حتى أغدو على يقين بأنني أتجول في حواري دمشق، ولذلك وأنا أكتب كنت أحاذر من طغيان التأثرات العاطفية على الحقائق كما كنت اتحاشى وأتجنب وصف حبي وإعجابي بتونس بدلا من أن أصف تونس لمحبيها، وهذا التشابه ليس غريباً، فقد عاشت البلاد في ظل الحماية الفرنسية بعدما خضعت لسيطرة العثمانيين قرونا طويلة مع تغيير في الفترة الأخيرة من حكم العثمانيين بتونس، حيث قامت ثورة عسكرية عام 1591 حدت من سلطة الباشا العثماني وانتقلت السلطة الفعلية إلى البايات واستمرت تونس محكومة من قبلهم حتى عهد آخرهم محمد الأمين باي، وعندما وصلنا تربة البايات شاهدنا تحفة فنية تخلد ذكراهم، حيث تجتمع قبور الأمراء الحسينيين الذين كانوا يتبعون للحكم العثماني مابين القرن الخامس عشر وحتى الثامن عشر، وعندما جاء الفرنسيون تابع البايات حكمهم شكلياً، ومما يلفت النظر أن الأضرحة المصنوعة من رخام إيطالي كانت مستطيلة الشكل يرتكز عليها عمود في أعلاه شكل الطربوش الذي كان يرتديه الباي الذي يرقد في الضريح ومما يزيد ذلك المكان رونقا زخرفة جدران المبنى من الداخل بالرخام المنقوش، وفي صدر قاعة قبور البايات كانت بعض البيارق أو السناجق الخضراء التي ترافق الباي أثناء جولته الرسمية مع رجالاته في الأسواق، ولعل أجمل قاعات هذا المبنى تلك التي ترقد فيها الفتيات اللواتي وافتهن المنية وهن عازبات، فقد كانت القاعة مدهشة بجمالها الزخرفي وبصفاء ألوانها وبإنارتها سواء الكهربائىة أو الطبيعية.. وعلى بابها همست لي زينب قائلة: أوتدري لماذا تمتاز هذه القاعة بجمالها?، قلت لأن المرأة بطبيعتها تحب الزينة فضحكت وقالت: ليس لذلك فحسب، بل لأن اللواتي يرقدن هنا لم ينلن نصيبهن في الدنيا من السعادة والاقتران بالحبيب فأراد الأحياء تعويضهن بمثواهن الأخير فجعلوه جميلاً يحاكي بيت العروس في جماله، وقد راقت لي الفكرة وأقنعني التعليل لأنني وجدت فيه ذوقاً مميزاً من قبل الأحياء.

وتغلغلنا أكثر بين الحارات وكان الناس يتجمعون في الأسواق يبازرون ويشترون حاجياتهم ووصلنا دار ابن عبدالله التي تعتبر متحفاً للتقاليد والزي التونسي وفي هذه الدار يحصل الزائر على فكرة متكاملة عن الحياة اليومية للأسرة التونسية في مطلع هذا القرن، فمعظم البيوت كانت غرفها منظمة على شكل حرف T وفيها مكان للأطفال ومكان مخصص للضيافة وللأب رب الأسرة، كما شاهدنا مستلزمات المنزل سواء من أدوات الاستحمام أو أدوات المطبخ، وحال معظم القاعات في هذا المتحف كحال المتاحف الأخرى في تونس وفي البلدان العربية حيث تضم الخزائن أزياء النساء سواء من حيث المناسبات أو من حيث الأعمار أو المكان أو من حيث المنزلة الاجتماعية، كما تشتمل على أزياء الأطفال وربما أن أجمل أزيائهم ذلك المخصص لحفلة الختان، كما يحتوي المتحف على تفصيلات لحياة الرجل وملابسه كالشال والملوسة (الطربوش) و(البرنس الأبيض) للمناسبات أما الأسود فهو اللباس الاعتيادي، وأما عموم لباس الرجل فينقسم إلى قسمين حسب المذهب الحنفي والمذهب المالكي، وفي قاعة الرجال بدا كل حسب منزلته الاجتماعية.

والفكرة الرائعة سواء في دار ابن عبدالله أو في باب زويلا بالمهدية هي (المواجل) أي الآبار التي تمتد إليها فوهات أنابيب ممددة من السطح الواسع حيث تتجمع مياه الأمطار وتتجه للأنابيب التي تنقلها للآبار النظيفة التي تعتبر مخازن أرضية للمياه وهذه واحدة من أبرز أساليب تأمين المياه قديماً، وبالقرب من دار ابن عبد الله بناء آخر تابع لها يضم أبرز الصناعات في الفترة الزمنية نفسها، وقد استوقفتنا صناعة (الشاشية) والتي تعتبر مما يميز لباس الرجل التونسي وقد حدثونا عن صناعتها حيث تقوم النسوة بنسج التريكو ثم يوضع النسيج الصوفي المنسوج بأربعة مغازل يدوية في الماء الساخن وبعد عصره يوضع في البرنسية ثم يصبغ ليصبح جاهزاً للبس كالقلنسوة وقد عرف كل معلم في ذلك الوقت بطبعته الخاصة على الشاشية، واجتمعت أيضاً في هذا المتحف صناعات أخرى.

متاحف للتاريخ

متحف باردو أيضا من أجمل الأماكن التي زرناها في تونس وهو متحف يزدحم فيه السياح الأجانب وذلك نظراً لتميزه بمحتوياته التي تكاد تشمل العصور والأمكنة في تونس، فبالإضافة إلى ما يحتويه (باردو) من تراث الديانات الثلاث فقد اشتمل أيضاً على مجسمات آلهة أو كائنات خرافية أسطورية تدلنا على العقائد وكذلك على التبادل الثقافي بين قرطاج وشرق البحر المتوسط فالكثير من الأساطير والأبطال هم من أصل إغريقي روماني.

ويزخر متحف باردو أيضاً بمجموعات نادرة وفريدة من الفسيفساء والنحوتات والتماثيل التي تعتبر شواهد على كل أحقاب التاريخ التونسي والحضارات التي تعاقبت على البلاد، تعتبر الفسيفساء المعروضة من أضخم المجموعات العالمية وتتألف من لوحات نادرة تعود إلى العهد الروماني المسيحي، هذا عدا بناء المتحف الذي يعود إلى 1882 والذي أقيم في جناح الحريم بقصر باردو البديع، والبناء بذاته نموذج للفن المعماري التونسي في القرن التاسع عشر وشكل القباب في بعض القاعات بحد ذاته من العجائب حيث الحجم الكبير والدقة في الزخرفة والألوان التي يدخلها الذهب أو تطلى به بين المسافة والأخرى، ويتميز (باردو) بتنوع معروضاته حسب الزمان والمكان.

ومع كثرة الملامح التي تعجب زائر تونس سواء من حيث الطبيعة أو التراث فإن هناك فكرة رائعة برغم بساطتها، فبالإضافة إلى أشكال الأبواب كباب خضرا وباب سعدون وباب العسل وغيرها، وبالإضافة إلى جمال الطبيعة فإن اللافتات التي تدعو الناس إلى حضور الأنشطة الثقافية وفي مجالات عديدة كانت تغطي الجدران وتتوزع في مختلف الأمكنة، وهذا أحد أساليب الدعوة والإعلان عن الفعاليات الثقافية، دون بحث وعناء عن المحاضرة التي يعنى المرء بها، ومما لفت نظري بين هذه اللافتات واحدة تدعو لحضور ندوة حول (الخطاب الثقافي في الإذاعة) وللمصادفة السعيدة فقد كان مقرها الفندق الذي نقيم فيه (نزل المشتل).

وفي اليوم التالي وما إن بدأت الندوة حتى كنت من أوائل الحاضرين وذلك لحسن حظي، فقد امتلأت القاعة برغم سعتها بالشباب والمسنين من كلا الجنسين، وبعد افتتاح الندوة وقف الفارس الأول كمال عمران ليقدم محاضرته حول إشكاليات الخطاب الثقافي في الإذاعة، ولأكثر من ساعة كانت الأسماع والأبصار مشدودة إليه، وقد استطاع أن يحيط بالعنوان ظاهرياً ثم أخذ يدور في فحواه ليصل إلى المركز الأساسي ويوضح آثار الخطاب عند المتلقي بعد أن عرف بأنواعه، ولقد دار بيني وبين السيد عمران حديث حول دور الإعلام في نشر الثقافة وكانت له نظرته العميقة في هذا المجال حيث بين أن العلاقة بين الإعلام والثقافة علاقة عضوية، والعصر الذي نعيشه عصر إعلام، فالإعلام سلطة رابعة ومن الأجدى القول إنه السلطة الأولى لأنه يصوغ الصورة التي يريد بالكيفية التي يريد ليصل إلى الأهداف التي يريد، ولذلك فالسلطة الإعلامية على الإنسان المعاصر مرتبطة بأمر آخر وهو سمة من سمات هذا الإنسان وهو أننا بلغنا في العالم كله درجة يمكن أن نقر من خلالها أن الإنسان هو الإنسان الذي يعيش اللذة بمعناها السامي وهي التي توافرت له عبر منتجات الحضارة الحديثة، فكل شيء يكاد يصبح يسيراً فنحن إزاء الثنائىة فمن ناحية توافرت الراحة للإنسان وتوافرت له لذة الراحة، وهذا ما يتيح له تحقيق أهدافه بسرعة، فالوقت المتاح له للراحة يستطيع الإعلام أساساً التحكم فيه، وهنا تكون الثنائية: وقت للراحة ووظيفة الإعلام، وإذا كانت الثقافة مما يضاف إلى الطبيعة فإن مفهوم الطبيعة قد تغير بفعل التغيير الذي يعيشه الإنسان في البنية المعرفية المعاصرة، وروح العصر غيرت المفاهيم، ومن هذه المفاهيم الطبيعة ولذلك أصبحت الثقافة جوهراً وعنصراً أساسياً في الإنسان فلا يستطيع التخلي عنها في أي حقل من حقول الحياة، وإذا كان مفهوم الثقافة على هذا الاتساع فإنه ضروري بالنسبة للدول والبلاد المتقدمة للتمادي في الخط التقدمي، وبالنسبة لمن ينشد التقدم ليجد من خلال الثقافة سبيلاً إلى تحقيق أهدافه التنموية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية فلا مناص من سلوك مسلك الثقافة، وهنا يصبح دور الإعلام جوهرياً، ومتى أخرجنا وسائل الإعلام عن مجرد الترف والإعلان وعن دائرة أيديولوجية ضيقة فإنها من الممكن أن توظف لخدمة الثقافة بمنزع حيادي موضوعي.

وعن هذه الحال في تونس والبلدان العربية يقول: لايمكن أن نخصص الحديث عن مكان لأن ريح التغيرات والتحولات العالمية عاصفة بكل وسيلة إعلام في أي مكان، ويوجد نوع من التفاوت في بلوغ الغايات ولذلك فالمسألة ليست مرتبطة ببلد دون آخر.

وبما أن بحر الثقافة متسع وعملية الغوص فيه ليست من السهولة بمكان فقد حاولت الاطلاع قدر المستطاع على المجد الثقافي في تونس والمتمثل بجوانب عديدة، فالمعارض التشكيلية متنوعة وكثيرة لأن الصالات العامة والخاصة نافت على الخمسين على حد قول الفنان التشكيلي صادق قمش وخريف 97 سيشهد فيما يتوقع ازدحاما لامثيل له. وعن الحركة التشكيلية في تونس يقول الفنان قمش: لقد سارت الحركة التشكلية التونسية على سكة واضحة وخط قويم، والفن التشكلي قديم حيث عرفت مدرسة صفاقس بالرسم على الزجاج في عام 1840 وفي أواخر القرن الماضي دخلت تجربة الرسم المسندي بالمفهوم الحديث وتطورت الحركة الفنية حتى تعددت المعارض وتنوعت التجارب التي كانت محتشمة وخجولا فيما مضى، والإبداع التشكيلي حر بطبيعته ولا أظن إبداعاً يشاركه هذه الحرية اللامتناهية إلا الموسيقى.. وهو ليس حراً فحسب، وإنما الحرية أبرز سماته سواء كان تجريدياً أو تشخيصياً، فالتعبير في الفن التشكيلي يكون باللون والشكل ويقرأ بألف قراءة، ففي الاتحاد السوفييتي سابقاً لم يكن من الممكن التحكم بالفنانين ولذلك أجبروهم على التشخيص.

وينظر الفنان صادق إلي بدهاء ليقول: حين ترى لوحة لآنية فيها وردة ذابلة.. هل تستطيع أن تقول لي ماذا تعني? إنها تعني الكثير بلا شك.

ومما يسترعي الانتباه في تونس وضع المرأة التي استطاعت أن تخلع جلباب جدتها وأن تتعلم وتحصل على حقوقها التي تضاهي ما يتمتع به الرجل ولقد تجلت لي سعة أفقها إثر حديث دار مع الشاعرة نجاة الورغي التي تقرض الشعر بالفرنسية والعربية وقد حظيت بجوائز في كلتا اللغتين، وهموم هذه الشاعرة في قصائدها ليست عادية وإنما ترتقي إلى مصاف هموم الإنسانية في العالم حيث تحلم بمدينة فاضلة تخلو من العنصرية والحروب وأخطار التلوث وما ينغص حياة الإنسان وتبدو في كلماتها السعادة بالمنزلة التي بلغتها الأديبة التونسية بشكل عام، حيث فسحت تونس المجال أمام المبدعين جميعاً، وخصصت وزارة الثقافة الجوائز والدعم المادي للمرأة.. وتضحك الشاعرة الورغي وهي تقول: نحن هنا في تونس أوفر حظاً من الرجال.

والجميل أن كل مكان كنا نصل إليه نجد الثقافة قد دب دبيبها فيه والأجمل من ذلك أن الشعب متجاوب مع فعاليات هذه التظاهرة، ولسان حال الصحافة يتغني بها بشكل يومي وآذانها مرهفة تترصد الفعاليات المقامة تحت هذا الشعار، ولا أنسى الندوة التي عقدت يوم الجمعة واستمرت منذ الصباح حتى المساء مع استراحات قصيرة جداً، وعندئذ استطعت أن أعثر على سبب من الأسباب التي جعلت تونس جديرة بأن تكون عاصمة ثقافية.

عاصمة ثقافية.. لماذا؟

وقد أوضح وزير الثقافة التونسي الدكتور عبد الباقي الهرماسي في حديثه إلى مجلة (العربي) معرفاً ببعض العوامل التي خولت تونس لتحظى بهذه المنزلة: إن جملة عوامل جعلت منظمة اليونسكو تختار تونس عاصمة ثقافية لعام 97، وأولها السمعة التي تحظى بها تونس وقيادتها في الساحة العربية والعالمية وثانيها ثراء المخزون الحضاري والتراثي حيث تحتوي تونس على قرابة خمسة وعشرين ألف معلم أثري من الحقبة البونية وما قبلها، مروراً بالرومانية والبيزنطية والعثمانية فالإسلامية والأوربية والعربية. وللإبداع التونسي إشعاعات تخطت الحدود، إضافة إلى أن ماتحقق من مكاسب وإنجازات وما اتخذ من إجراءات لصالح الثقافة والمبدعين يعتبر خطوة رائدة متقدمة بالنسبة لمعظم بلدان العالم، مثل قانون حماية حقوق المؤلفين، وفي مجال التراث فالقانون يحمي مدناً كاملة مثل سيدي بوسعيد وقرطاج وغيرهما الكثير حيث لايتغير فيها شيء إلا بترخيص، وهناك اعتراف دولي بدور تونس في نشر القيم عبر الثقافة والإبداع وقد ارتبطت الثقافة بالتنمية في البلاد، وهذا ماجعل من تونس عاصمة ثقافية، وهناك بلدان أخرى كانت عاصمة ثقافية، لكن لم يسمع بها أحد، وهناك أيضا عدم فهم لفكرة العاصمة الثقافية وارتباطها بالعشرية العالمية للتنمية الثقافية التي انطلقت من سنة 1988 وحتى سنة 1997.

وقد ترك اختيار تونس عاصمة ثقافية صدى واسعاً في بلادنا حيث اشتركت جميع الولايات (المحافظات) التونسية حتى صار لكل ولاية برنامجها الشامل والخصوصي أي أنه لدينا 23 برنامجاً بعدد ولايات تونس، وهناك عزم على احتضان المبادرات من البلدان الشقيقة والصديقة كالكويت التي تميزت بأنشطتها وحضورها طوال العام وكان لبلدان مشرقنا العربي الأخرى دور بارز أيضاً وكذلك لبلدان الضفة الأخرى للمتوسط كفرنسا وإيطاليا أيضاً حضور مميز، وقد طالب الإيطاليون بشهر للسينما الإيطالية في تونس وبالشهر التونسي في إيطاليا، والإخوان العرب سعداء بهذا الاختيار الملائم لتونس وينظرون إلينا كقطب ثقافي.

ونحن نقولها بتواضع وثقة بالنفس: إننا نعتبر أنفسنا في الطليعة العربية في جملة من الميادين والإنتاج، كما هو الحال في ميدان السينما، فالفيلم التونسي له حضوره في العالم، ومؤخراً أرسلنا إلى الكويت فيلماً مميزاً وهو (صمت القصور)، وبالنسبة للفنون التشكيلية فإن نهضتنا مميزة وفعالياتها متوالية والدولة تشجع هذه النهضة حيث تقتني اللوحات الرائعة. وأملنا وطموحنا أن نقدم ثقافة في مستوى مشروع التغيير من حيث الإنتاج والكيف، فنحن نعيش في تونس نهضة سياسية واقتصادية، وأملنا هو أن تكون الثقافة في ذات المستوى، وهذا يعني من جملة مايعني العمل على مستوى التظاهرات الثقافية وتحسين الأداء الثقافي وإدخال العقلنة في مستوى التصرف الثقافي ودعم الإبداع والتشجيع على تكوين جمعيات ثقافية تفيد المبدعين، سواء في ميدان السينما أو القصة أو الفنون التشكيلية، والآثار تدخل في نحت وتحديد هوية التونسي وانتمائه للعالم العربي وانفتاحه على بلدان العالم، وبلادنا مفتوحة على العالم ونحاول أن تكون تونس مخبراً تتفاعل فيه جميع هذه التيارات لتخولنا أن نخوض معركة العولمة والحضور وهذا هو الدور الأساسي للثقافة، وتونس عاصمة ثقافية لعام 97 مناسبة وفرصة تتيح لنا الانطلاقة الفعلية لتأهيل القطاع الثقافي، ولاسيما أن تونس التغيير قد وفرت لنا الأمن والاستقرار وأتاحت لرجال الفكر والثقافة مشروعاً حضارياً يبحث عنه المثقفون منذ مطلع القرن التاسع عشر، وهذا المشروع أصـبح حقيـقة اليوم وهذا يعطي فكرة كاملة عن أهـمية الثـقافة والدور الذي تلعبه في هذه النهضة القائمة.

ونحن في وزارة الثقافة نشجع السينما والمسرح والموسيقى ولكن في الوقت نفسه نقوم بخدمات ثقافية، ولذلك فالقرى والمدن تتبارى في تنظيم المهرجانات ولدينا مايزيد على 400 مهرجان وهي بمنزلة أعياد للثقافة مستمرة خلال أشهر السنة، وفي هذه السنة نضيف الكيف والنوعية لهذه المهرجانات، ولدينا في هذا العام ندوات تكاد تشمل شتى مجالات الثقافة.

وإكراما لهذه المناسبة التي يعيش التونسيون فرحتها صدرت نشرة شهرية بعنوان (تونس 97 عاصمة ثقافية)، وهذه النشرة جاءت كملحق شهري لمجلة (الحياة الثقافية)، وقد عنيت بمواكبة المستجدات والفعاليات التي تخص المناسبة، وقد رصدت آراء بعض مفكري العرب والعالم وطالعتنا بموقف الروائي الكبير نجيب محفوظ حيث قال: (إن اختيار تونس لتكون عاصمة الثقافة شرف لكل العرب ومبعث اعتزاز كل المثقفين في الوطن العربي). وفي عدد آخر تناولت ما قالته الشاعرة الدكتورة سعاد الصباح في هذه المناسبة عندما رشحت كعضوة في لجنة المساندة الدولية لتظاهرة (تونس عاصمة ثقافية): (يسعدني قبول هذا الترشيح الذي يمنحنا جميعاً الفرصة لتلمس آفاق ثقافية تعمق أبعاد تعاوننا العربي الذي يبقى حجر الأساس لعلاقات مماثلة مع الدول الصديقة في الدائرة المتوسطية).

بين الماضي والحاضر

ومن العاصمة الثقافية وحاضر العاصمة التونسية في الوقت ذاته انطلقنا إلى المهدية عاصمة الفاطميين في القرن العاشر الميلادي، وخلال المسافة التي استغرقنا لقطعها أكثر من ساعتين كانت الأشجار والخضرة تكاد تلازم الطريق إلا في أماكن قليلة تبدت فيها النباتات البرية الوحشية، وليست الخضرة فقط الممتعة، وإنما التضاريس أيضاً حيث السهول والجبال والوهدان، وبالقرب من بعض الجبال كانت المنازل تستحوذ على أمكنة لها، وهذا مما يدل على الإرادة التي يمتاز بها التونسيون، حيث طوعت الصخور والجبال منذ سالف العصر والأوان حتى أيامنا هذه، ولأن رحلتنا كانت مبكرة جداً مع بزوغ الضوء فقد كانت المناظر الطبيعية مع النسمات الباردة تستهوينا لنتوقف ونستمتع بفنجان قهوة في إحدى المحطات، بينما كان السائق العم خميس يملأ خزان السيارة بالوقود.

ومما جذب انتباهي كثرة نبات الصبار في المهدية والذي يطلقون عليه (الهندي)، فقد كان كثيفاً برغم كثرة المياه، ويبدو أن الفلاح المهدوي استخدمه لغرضين، الأول لطيب ثماره وفائدتها والثاني ليكون حارساً أميناً يحدد الحقول المتاخمة لبعضها ويعرف أصحابها بها، وبدا مدخل المهدية جميلاً برغم فوضوية الزراعات التي تحف بجانبي الطريق، وما إن وصلنا مركز المدينة حتى كان في استقبالنا (رضا بوصفارة) الشاب الذي بدت عليه ملامح الاندفاع والعطاء منذ الوهلة الأولى، فاصطحبنا في جولة بدأت من متحف المهدية الجهوي الذي كان على وشك الافتتاح أيام زيارتنا له ويعتبر هذا المتحف من أبرز معالم المهدية التي تجمع الحديث مع القديم حيث إنه ملاصق لباب زويلا أو السقيفة الكحلا المعلم الأثري الذي يحظى بالأولوية في المدينة والمدخل البري الوحيد لمدينة عبيد الله المهدي، وقد استطاع معماريو المتحف إدخال هذه الآثار ضمن بناء المتحف الذي يعود إلى مطلع هذا القرن، وقد تم التعامل مع واجهة البناء التي هي واجهة المتحف على أنها من الآثار ولذلك بقيت على هندستها المعمارية القديمة دونما تغيير ولاسيما أنها ذات طابع مزدوج إسلامي أوربي وأما باقي البناء فقد بني من جديد نظراً لتداعيه.

وقد جمع متحف المهدية اللقى الأثرية التي تم العثور عليها في ولاية المهدية، فخصصت القاعة السفلية لعرض الآثار القديمة التي تعود للآثار البونيقية والرومانية والبيزنطية، وبينها قبر يعود بشكله إلى 0032 سنة وقد صمم وفق الشكل والمقاييس الدقيقة، كما استخدمت في بنائه المواد المأخوذة من الآثار الرومانية وشكل القبر موجود، بندرة في تونس، وقد تركت إحدى جهاته مفتوحة ليتمكن الزائر من رؤية طريقة الدفن وشكل القبر، وقد حضرتني قصة سمعتها عن سخرية (المازني) عندما زار (معرة النعمان) لحضور نشاط يخص الفيلسوف الشاعر أبا العلاء المعري وعندما أخذوا المازني في زيارة إلى إحدى المقابر وشاهد اتساع القبر وجمال شكله قال ممازحاً: (إن هذه القبور تجعل المرء يشتهي الموت).

ولعل أبرز محتويات المتحف ذلك المجسم الذي صمم لمدينة المهدية في عصرها الذهبي أيام الفاطميين وقد حددت له مساحة أكثر من 20 متراً مربعاً، كما يضم المتحف لوحة فسيفسائية يتوقعون أنها اللوحة الإسلامية الوحيدة هناك.

وبما أن مدينة المهدية عرفت منذ القدم بصناعة النسيج ولاسيما الحرير بالتحديد وكادت تنفرد بها في تونس لذلك فقد وضع في الطابق الثاني من المتحف (النول) وقد خصص له بعض الحرفيين ليعملوا عليه.

وبعد أن خرجنا من المتحف توجهنا نحو السقيفة الكحلا لنعتلي سطحها وعلى السطح تبدت لنا المهدية على طبيعتها الجغرافية، فهي شبه جزيرة يحيط بها البحر من جهات ثلاث، وأما الجهة الرابعة فهي محصنة بباب زويلا، وقد شيدها الفاطميون على الساحل التونسي بعد أن أخمدوا ثورة ملتهبة قام بها البربر، وقد أقامها عبيد الله المهدي ليتخذها عاصمة الدولة الفاطمية التي تأسست على يديه، وعندئذ انتقلت عاصمة الدولة الإسلامية من القيروان إلى المهدية، وتعرف المهدية بعاصمة الساحل الجنوبي وأول ميناء صيد جهوي خاص بصيد السمك الأزرق خلال فصل الصيف، وهذا ماجعل المعنيين يخططون لإنشاء معمل لتعليب السردين بالقرب من الميناء.

ولو توقفنا قليلاً في المدينة القديمة لوجدناها تمتاز بموقع جغرافي فريد إذ شيدت في شبه جزيرة صخرية تتزاحم فيها الأزقة، ولكن مهدية اليوم تطورت واتسعت لتغدو مهدية الأمس جزءا منها، والطريف في جغرافية المهدية أن المدينة القديمة تمتاز بشواطئها الصخرية، فيما تمتاز الجديدة بشواطئها الرملية التي بدأ السياح يتكاثرون فيها إثر التوجه السياحي للمدينة، وقد وزعت على الشاطىء الرملي المظلات الفردية أو المزدوجة بالعشرات.

وقد أحيطت المهدية القديمة بأسوار بحرية وسور بري يصل واجهتيها الشمالية بالجنوبية نظراً لتقاربهما واعتبرت السقيفة الكحلا هي المدخل الوحيد للمدينة وسميت بذلك وفقاً للهجة التونسية، فالسقيفة هي مدخل البيت والكحلا هي السوداء ووصفت بذلك نظراً لأنها مظلمة فهي ممر محدد بجدارين يعلوهما بناء مصمم للمراقبة وعلى السطح أقيم برج المراقبة الذي يعتبر واحداً من سبعة أبراج برية، وقد سورت المهدية ثانية قبيل ثورة أبي يزيد صاحب الحمار الثائر الذي استطاع استفزاز القبائل الموجودة في المغرب العربي الحالي وإثارتهم ضد الفاطميين، وعندما اجتمعت القبائل حاصرت المهدية لوقت طويل ولكنها لم تستطع مهاجمتها بسبب مناعة أسوارها وتحصينها، ولأن عبيد الله المهدي أنشأ بشكل مسبق الآبار وخزانات المياه وآبار جمع ماء المطر (المواجل).. وعندما فقد الثوار الصبر على المتابعة خرج إليهم المنصور حفيد عبيد الله فتمكن من استرجاع المدينة وجلت القبائل المتجمهرة حول المهدية وقبض على أبي يزيد صاحب الحمار وصلب أمام زويلا، وقد أطلق على أبي يزيد صاحب الحمار لأنه كان يدعو القبائل وهو يتنقل على ظهر حماره.

ومن المهدية انطلق المد الفاطمي وعندما استطاع المعز لدين الله الفاطمي الاستيلاء على مصر قام ببناء القاهرة، وهندسة القاهرة تشابه المهدية برغم اختلاف المكان جغرافياً ولكنها تحتوي على باب زويلا وغيره أيضاً.

وأمام ذلك التراث العريق وأمام اهتمام التونسيين به والعمل الجاد من أجل الحفاظ علىه تذكرت الدكتور الباحث محمد حسين فنتر وما قاله عن اهتمام تونس بالتراث، فقد أشار إلى أن تونس هي الأكثر اهتماماً بالتراث بين بلدان المغرب العربي ويأتي اهتمامها لأنها استطاعت أن تكون كوادر تهتم بالتراث والتنقيب عنه والتعرف عليه والتعريف به من خلال الدراسات التي تنشرها في المجلات العربية والمحلية، وغدت للتونسيين اهتمامات بالمعالم والحفريات وبالمتاحف بهدف إثراء الخيال العربي الفردي والجماعي، وإثراء الخيال ممكن، فدور المعنيين بهذه المسألة كدور الفلاح الذي يحرث ويرش الأسمدة ثم يترقب بزوغ النبات ومن ثم إزهاره وبعد ذلك ثماره، فالتراث والاهتمام به هو نوع من أنواع فلاحة العقول لتتمخض عن الإبداع.

وبما أننا لانزال بين ماضي المهدية وحاضرها فإنه تجدر الإشارة إلى أن معظم بيوت المهدية القديمة تقبع تحتها آثار قيمة ولذلك يحظر على السكان هدم أحد البيوت دون ترخيص، فإن كان في البناء ما يلفت النظر من الآثار توضع عليها اليد ويستبدل الساكن بسكن آخر عند ذلك، ويجب أن يكون البناء فيها وفق نمط معين بحيث لايرتفع ليغطي أبرز ملامح البلدة.

ويقطن المهدية شتاء ما يربو على خمسة وأربعين ألف ساكن وأما في الصيف حيث السياح ولاسيما من التونسيين وعودة أبناء المدينة فإن هذا يرفع عدد سكانها إلى 150000 ساكن.

وقد تشكلت قديماً أمام باب زويلا ساحة تصل مساحتها إلى 250 متراً وتم ربط الساحل الشمالي بالجنوبي برباط مائي يصعب على القادم عبوره فيما لو كان معتدياً، وشكلت المدينة جزيرة ليس لها مدخل إلا السقيفة الكحلا والتي كانت أبوابها لاتفتح على مصراعين جانبيين وإنما ترفع للأعلى وتنزل وقد وضعت المحلات التجارية بداخل المدينة فيما سكن التجار وأسرهم خارجها وبذلك يقضي التاجر نهاره يعمل في المدينة وليله مع أسرته خارجها، وهذا التخطيط بحد ذاته فيه حنكة سياسية حيث تم التفريق بين التاجر وأهله نهاراً وبينه وبين أمواله ليلاً وبذلك يمكن ضمان هدوء التجار وإخماد التمرد والعصيان، وداخل المدينة القديمة يقيم الخليفة والحرس والأعيان، وأصبحت المهدية مدينتين مدينة الخليفة ومدينة العوام.

ولاتزال أماكن التجارة في الوقت الحاضر مكان القديمة ولكن تبدل شكلها وتبدلت سلعتها، فقد كانت الأسواق في السابق ولكل سوق اختصاصاته، أما الآن فهي ليست أكثر من محلات تجارية تعمل لإرضاء السياح وتقديم مستلزمات أهل البلدة، إضافة إلى محلات نسيج على النول اليدوي.

وبعد أن تقطع شارع السوق وأنت متجه من باب زويلا يطالعك معلم أثري آخر إنه جامع الحاج مصطفي وقد بناه الحاج مصطفى حمزة، ومئذنته مثمنة الأضلاع أي تدل على أن مذهب بانيه حنفي.

وتعود أغلبية الأسر المهدوية المعاصرة إلى أصول تركية حيث وجدت جالية تركية عثمانية في المهدية مع أواخر القرن السادس عشر، وإضافة إلى صناعة النسيج وتعليب الأسماك فإن المهدية اليوم تهتم بصناعة الصابون أيضاً، وتساق إلى هذه البلدة أرزاقها من هذه الصناعات إضافة إلى مردود الصيد حيث عرفت بالسمك الأزرق كما عرفت بالزراعة ويعمل البعض في التجارة، وقد عرفت المهدية كباقي ولايات تونس بزراعة الزيتون كما تعتمد على الزراعات المروية حيث تزرع البواكير أيضا.

أنشطة استثمارية كويتية

وتنشط المدينة حديثاً في مجال السياحة حيث الشواطىء البحرية الصحية تمثل ثروة اقتصادية أيضاً وقد بدأت الاستثمارات العربية فيها. وتعتبر الاستثمارات الكويتية في المجال الفندقي من أبرزها.. وحول الاستثمارات الكويتية في تونس عموماً حدثنا (وليد الخبيزي) السفير الكويتي في تونس قائلا: جاءت الاستثمارات الكويتية في بداية السبعينيات بناء على بروتوكول بين حكومتين، حيث طالبت الحكومة التونسية الكويتيين بأن ينشطوا في المجال السياحي كاستثمار، وبادرت الحكومة الكويتية وأرسلت الخبراء والاقتصاديين وبدأوا بالاستثمار في هذا المجال عن طريق الهيئة العامة للاستثمار والمجموعة الكويتية العقارية وأثبتت هذه الاستثمارات مع مرور الزمن نجاحها، وساعدها أن تونس تحظى بموقع جغرافي جيد بالنسبة للاستثمارات السياحية وهذه الاستثمارات كانت في تلك الفترة نوعا من المجازفة للمستثمر الخاص فأرادت الحكومة التونسية استثمار الحماس الكويتي وسمعة الكويت الجيدة وبالفعل تعيش الاستثمارات عصرها الذهبي الآن فنحن نملك ونسّير حوالي 17 فندقاً راقياً في مختلف أنحاء تونس بين ما نملكه كاملاً أو جزئياً أو نسيّره، وبعد هذه الاستثمارات لدينا استثمارات ضخمة في البنوك التونسية ومساهمات سواء من خلال الهيئة العامة للاستثمار أو من خلال شركات وبنوك كويتية وهذا بذاته يساهم في تحسين الوضع الاقتصادي التونسي. وكانت هذه المساهمات من أكثر المساهمات الاقتصادية في تونس ولدينا أيضاً شركة الاستكشافات البترولية وتدير حالياً ثاني أكبر حقل بتونس وينتج هذا الحقل حوالي ثلث الإنتاج القومي التونسي، وهذا يعتبر من أنجح الاستثمارات ويعود على البلدين بالخير وهو المثال الناجح للاستثمارات العربية ـ العربية.

ولم تكتف الكويت فقط في مد تونس بتسهيلات عادية وإنما ساهمت في الاستثمار بأنواعه، ولذلك نفتخر بأن شريكاً فرنسياً كان معنا في الاستكشافات البترولية، ولكن ياللمصادفة فبعد مغادرة الشريك الفرنسي انفردنا بالعمل نحن والتونسيون واكتشفنا الحقل وبقي الاستثمار عربياً عربياً. ولقد شارك مفكرو الكويت أيضاً إخوانهم التونسيين فرحتهم باختيار بلدهم عاصمة ثقافية. وبشكل خاص كنا من أوائل الذين تفاعلوا مع هذا الحدث وقد تم ترشيح كل من الدكتورة سعاد الصباح والأستاذ عبدالعزيز البابطين في اللجنة الداعمة لتونس عاصمة ثقافية، وهناك مشاركات لفنانين كويتيين في مهرجان قرطاج الغنائى وسيشارك فيها هذا العام المطرب نبيل شعيل، وقد شاركت الكويت في معرض الكتاب في تونس أيضاً وقدم العديد من كبار الكتاب والمفكرين والمعماريين أبحاثهم بين الأنشطة الثقافية المنظمة لهذا العام في تونس، ولقد جاءت زيارة وزير الإعلام الكويتي الشيخ سعود ناصر الصباح تتويجاً لكل هذه المشاركة.

ولأننا لانزال في المهدية فلابد من الإشارة إلى جمال الطبيعة حيث البحر بزرقته وبعض الآثار القديمة تتعالى شامخة لتحكي تاريخ وعظمة المسلمين القدماء، وجمال هذه الطبيعة وثراؤها جعلها مسرحاً لتصوير جزء كبير من الفيلم الطويل (المريض الإنجليزي) للمخرج أنطوني مينفيلا الذي حقق فوزاً ساحقاً في الآونة الأخيرة حيث أحرز تسع جوائز أوسكار، وقد كانت المهدية المركز الذي شهد أجزاءً مطولة من هذا الفيلم الرائع وكشف الفيلم بدوره عن مدى ثراء المواقع الطبيعية في المهدية وجمالها الخلاب، وهذا يعتبر بحد ذاته شهادة جديدة على جمال تونس وروعة ماتزخر به من طبيعة وتراث.

وإذا تابعت طريقك بعد مسجد الحاج مصطفى تصادف مسجداً ضخماً بشكله وعظيماً ببنيانه إنه الجامع الفاطمي أو جامع عبيد الله المهدي والذي لاتزال واجهته منذ ذلك العصر فيما جدد باقي البناء وتمتاز هذه الواجهة ببابها ذي الأقواس التي تشبه أقواس النصر ويتوقع أن هذا الباب يعود إلى الرومان، وما الخراب الذي لحق ببعض الآثار إلا من جراء الحروب والويلات التي لحقت بالمهدية نظراً لأطماع المستعمرين بموقعها الاستراتيجي المهم، ففي أواخر القرن الخامس عشر قدم إليها شارل الخامس بنفسه خلال الصراع العثماني ـ الإسباني وحاصرها بأسطوله شهوراً طويلة حتى تمكن من دخولها واستقر بها ثلاث سنوات ومالبث أن هدمها بشكل كامل ومنظم قبيل خروجه منها، وحين عاد إليها العثمانيون لم يجدوا فيها سوى البرج العسكري العثماني فقاموا ببنائه من جديد واستقرت به الحامية العثمانية واختلط أفراد الحامية بأهالي المهدية من خلال المصاهرة التي تمت بينهم.

وفي الطرف الآخر من المهدية ترتكز القلعة التي تعتبر درىئة للرياح المحملة بالرطوبة المالحة والتي تؤثر على البناء فتفتت الحجارة وتلك هي الحال في المتحف أيضاً حيث كانت المخاوف على القطع الأثرية من الرطوبة المالحة وتأثيرها على المعادن، وياللمفاجأة، فقد تأثرت أنا كإنسان كثيراً بهذه الرطوبة إذ اصطبغ وجهي بلون أحمر إثر لفحة الشمس وهبوب النسمات الرطبة وبقيت أعاني من الألم لأكثر من يومين.

وفي هذه القلعة التي تعتبر حصناً عثمانياً أقامت القوات الفرنسية وقيادتها، وفي العصر الحالي تشهد القلعة مهرجاناً صيفياً فنياً منوعاً.

وخلف القلعة وعلى شاطىء البحر تمتد المقبرة التي تعود إلى أكثر من قرنين وهي بجانب الميناء الذين يعود للعهد البونيقي وبين القبور ظهرت بعض الطرقات التي تدل على أن الأهالي إذا أرادوا الترويح عن أنفسهم فإنهم يسيرون في مشاويرهم بين القبور، واللافت للنظر أن التونسيين فيما يبدو ممن يكرمون أمواتهم، حيث اختاروا أجمل الأماكن لدفنهم، وكأنهم بذلك يخففون وطأة الفناء عن أنفسهم أو يعتبرونها نوعاً من الوفاء لأسلافهم وبذلك يكون المثوى الأخير للإنسان على الشاطىء حيث أشعة الشمس ونسيم البحر!!

وسمعت قصة طريفة وهي أن العاشق في المهدية إذا أراد اصطحاب معشوقته فإنه لايجد أجمل من المقابر مكاناً هادئاً ورومانسياً، وبذلك نرى فكرة التشاؤم والخوف من المقابر ليست موجودة لدى المهدويين.

وما إن وصلنا إلى آخر المهدية حتى كانت سيارة العم خميس في انتظارنا حيث اصطحبنا إلى محل إقامتنا لنحزم أمتعتنا ونجهز أنفسنا استعداداً للسفر، ومع إطلالة صباح اليوم التالي كانت الطائرة ترتفع في سماء تونس وكنا نودع بلداً عربياً رائعاً لايمتاز ببـياض مبانيه وخضـرة أرضه فحسب، بل ببياض قلوب أبنائه وصفائهم وسعة صدورهم ولست أدري لماذا كنت أشـعر وكأنني حزين على فراق تونس التي لم تتجاوز إقامتي فيها الأسبوع.

 

 

جمال مشاعل