أينشتاين والبعد الرابع أحمد مدحت إسلام

أينشتاين والبعد الرابع

الزمان هو البعد الرابع عند أينشتاين، وهو يرى أن هذا البعد يجب أن يضاف إلى الأبعاد الثلاثة للمكان، وهي الطول والعرض والارتفاع، لأن كل شيء في هذا الكون يتحرك على الدوام.

هناك عاملان أساسيان يجب أن نأخذهما في الاعتبار عند تحديد الأسلوب الذي يتحرك به جسم ما في الفراغ.

وطبقا لقوانين الفيزيقيا التقليدية، فإن أول هذين العاملين هو ما تعارفنا على تسميته بالمكان، والذي نحدده دائما بثلاثة أبعاد، هي الطول والعرض والارتفاع، أما ثاني هذين العاملين فهو ما نعرفه باسم الزمان، وهو الفترة التي تمر بين انتقال جسم ما من موقع إلى آخر.

وتنص نظرية النسبية الخاصة التي وضعها العالم النمساوي الأمريكي ألبرت أينشتاين عام 1905، على أن هناك علاقة وطيدة بين كل من الزمان والمكان، وأنه لا يمكن اعتبارهما شيئين منفصلين، لأنه لا يوجد شيء ثابت في الكون، بل كل شيء فيه يتحرك على الدوام، وبذلك يتغير المكان بتغير الزمان من لحظة إلى أخرى، ولذلك يجب اعتبار الزمان بعدا رابعا تجب إضافته إلى الأبعاد التي تحدد المكان، وهي الطول والعرض والارتفاع.

الزمكان!

يمكننا أن نوضح علاقة المكان بالزمان إذا أخذنا في الاعتبار المثال البسيط التالي: نحن في هذه اللحظة نندفع في الفضاء مع الكرة الأرضية بسرعة هائلة، فالأرض تدور حول محورها بسرعة تصل إلى نحو 1000 كيلومتر في الساعة، وهي تنطلق في الفضاء في أثناء دورانها حول الشمس بسرعة تصل إلى نحو 100 ألف كيلومتر في الساعة، وتحملها الشمس معها أثناء دورانها حول مركزة المجرة بسرعة خيالية تصل إلى نحو 800 ألف كيلومتر في الساعة.

كذلك تتحرك مجرة طريق اللبن، التي نسكنها، في الفضاء بسرعة هائلة حاملة معها الشمس والأرض وساكن هذه الأرض، فلو أننا أردنا أن نعين موقعنا أو مكاننا في هذا الكون بالنسبة لأي شيء آخر، فعلينا أن نحدد الزمن الذي نجري فيه هذا القياس، وذلك لأننا بمجرد أن ننتهي من هذا القياس سنكون قد تحركنا مع الأرض ومع الشمس ومع المجرة، وسيختلف مكاننا في هذا الكون.

ويعنى كل ذلك أننا يجب ألا نتكلم عن الزمان وحده، أو عن المكان وحده، ولكن يجب أن نتكلم عن العلاقة القائمة بينهما، وهي ما أسماه البعض مجازا "الزمكان" Space Time، وعلى ذلك فإن النقطة التي يحدث فيها حدث ما في الفضاء، واللحظة من الزمن التي يقع فيها هذا الحدث، يمثلان شيئا واحدا في نظر أينشتاين.

ويبدو بوضوح تشابك كل من الزمان والمكان، عندما ننظر إلى الأجرام السماوية التي تنتشر في أغوار الفضاء، فنحن عندما ننظر إلى هذه الأجرام، فإنما نراها كما كانت في ماضي الزمان.

ومثال ذلك أن الضوء الصادر من أقرب المجرات إلينا، وهي مجرة الأندروميدا أو المرأة المسلسلة والتي تبعد عنا بنحو مليونين من السنين الضوئية، قد صدر منها هذا الضوء منذ مليوني سنة مضت، أي عندما لم يكن الإنسان قد وجد بعد على سطح الأرض، والضوء الذي يصل إلينا منها الآن إنما يجعلنا نراها كما كانت منذ مليوني سنة مضت، ونحن لا نعرف عنها شيئا الآن، ولا بد أنها تحركت من مكانها مثلها في ذلك مثل بقية المجرات الموجودة بهذا الكون.

كذلك فإن الضوء الذي يصل إلينا اليوم من بعض الأجرام السماوية الهائلة المسماة "بالكازار"، والتي تبعد عنا آلاف الملايين من السنين الضوئية، قد صدر عنها فيما مضى في وقت لم تكن قد تكونت فيه الأرض التي نعيش عليها، أي أننا نراها اليوم على حالتها التي كانت عليها منذ آلاف الملايين من السنين، ولا نعرف شيئا عن حالتها التي توجد عليها اليوم، وهل هي ما زالت في مكانها أو تحولت إلى شيء آخر، أو اختفت في أغوار الفضاء.

ولا يعتبر هذا التشابك بين كل من الزمان والمكان مقصورا على الأجرام التي تقع في أغوار الفضاء، ولكنه أكثر وضوحا فقط.

ومثال ذلك أنك عندما تنظر إلى صديق لك يقف على بعد قليل منك، وليكن على بعد ثلاثة أمتار فقط، فإنك لا تراه كما هو "الآن"، ولكنك تراه "كما كان" منذ جزء من مائة مليون جزء من الثانية، وهو الزمن الذي استغرقه الضوء أو شعاع الضوء المنعكس من جسم صديقك للوصول إليك، وبذلك لم يعد لكلمة "الآن" المعنى الدقيق الذي نعرفه لها.

وهذا الفرق بين حالة صديقك الآن، وحالته منذ جزء من مائة مليون جزء من الثانية، فرق بالغ الضآلة، ولن تستطيع ملاحظته مهما فعلت، ولكن عندما ننظر إلى "كازار" يبعد عنا بمقدار 4000 مليون سنة ضوئية، فإن هذا الفرق يصبح كبيرا جدا وبالغ الأهمية.

مزيج متكامل

لقد علق على هذا التشابك بين الزمان والمكان، العالم الفيزيقي "هرمان منكوفسكي" -Her man Minkowski، وهو الأستاذ الذي تتلمذ على يديه أينشتاين، ودرس عليه علوم الرياضيات، ويعد واحدا من أشهر علماء الفيزيقا الألمان، بقوله "أصبح من الآن كل من الزمان وحده، والمكان وحده، مجرد خيالات لا وجود لها، ولكن المزيج الناتج منهما معا هو الشيء الذي له وجود حقيقي".

ويمكننا بذلك أن نقول إن الزمان يمثل بعدا رابعا تجب إضافته إلى كل من الأبعاد الأخرى، وهي الطول والعرض والارتفاع، ومن الممكن أن نفعل ذلك بطريقة رياضية، ولكننا لا نستطيع أن نرسم مخططا أو رسما بيانيا لأكثر من ثلاثة من هذه الأبعاد.

وليس المقصود هنا أن الزمان بعد رابع للمكان، فهو ليس كذلك، ولكن المقصود من الناحية الرياضية أن البعد الرابع وهو الزمان، قيمة معينة يجب تحديدها عند تعيين موقف أحد الأجسام.

ويصعب على كثير من الناس أن يتصوروا فكرة البعد الرابع، ولكن لو أن لدينا طائرة نفاثة تطير فوق المحيط الأطلنطي مثلا، فإنه يمكن ببساطة أن نحدد مكان الطائرة باستخدام أبعاد المكان الثلاثة، وهي الطول والعرض والارتفاع، فنحدد خط الطول وخط العرض اللذين يتقاطعان تحت الطائرة، ثم نحدد الارتفاع الذي تطير عليه هذه الطائرة.

ونظرا لأن الطائرة تطير بسرعة كبيرة، فإنه في اللحظة التي تنتهي فيها هذه القياسات، تكون الطائرة قد تحركت إلى نقطة أخرى تقابل نقطة تقاطع بين خط طول آخر وخط عرض جديد، ويترتب على ذلك أننا يجب أن نقول إن الطائرة كانت على ارتفاع كذا عند تقاطع خط طول كذا مع خط عرض كذا، وذلك في تمام الساعة كذا، وبذلك نكون قد أدخلنا في حساباتنا بعدا رابعا، أو قيمة رابعة وهي الزمان.

أهمية البعد الرابع

لا شك أن أهمية هذا البعد الرابع، وهو الزمان، تزداد كثيرا عندما تتناول دراساتنا تلك الأجسام أو الجسيمات التي تتحرك بسرعات بالغة الارتفاع.

والصعوبة التي نلاقيها في تصور البعد الرابع تشبه تلك الصعوبة التي يلاقيها الرجل المسطح الذي يعيش في عالم مسطح لا يوجد به إلا بعدان فقط، هما الطول والعرض، عندما يسمع عن بعد آخر يسمى الارتفاع.

وفي مثل هذا العالم المسطح، سيكون كل سكانه عبارة عن أشكال مسطحة، فبعض السكان سيكونون على هيئة مربعات، وسيكون البعض الآخر على هيئة مثلثات، ولن يكون لأي منهم البعد الثالث المعروف بالارتفاع.

ويستطيع سكان هذا العالم المسطح أن يتجهوا يمينا أو شمالا، وكذلك أماما وخلفا، ولكنهم لا يعرفون شيئا عن الاتجاه إلى أعلى أو إلى أسفل، بل ولا يمكنهم حتى تصور ذلك.

ومن الطبيعي أن علماء الرياضيات في هذا العالم المسطح يمكنهم تخيل وجود بعد آخر يتعامد على كل من الطول والعرض، وقد يمكنهم إثبات ذلك بواسطة معادلاتهم الرياضية، ولكن بقية سكان هذا العالم المسطح لن يصدقوا ذلك، وسينكره بعضهم كل الإنكار.

وعندما ينظر أحد سكان هذا العالم المسطح إلى فرد آخر، فإنه لن يرى منه سوى خط واحد فقط، وهو ضلع المثلث أو المربع المواجه له، ولن يستطيع أن يرى بقية أضلاعه الأخرى إلا عندما يدور حوله، ولكنه لن يخرج في حركته مهما فعل عن اتجاهي الطول والعرض.

ولن يتمكن كذلك هذا الرجل المسطح من أن يرى ما بداخل هذه المربعات أو المثلثات، فإن أحدا في هذا العالم لا يستطيع أن يتحرك إلى أعلى أو إلى أسفل.

لنفرض أن أحد سكان عالم آخر ثلاثي الأبعاد جاء زائرا لهذا العالم المسطح، ولنفرض أن هذا الزائر كان على هيئة كرة، وأنه وقف معلقا في الفضاء فوق هذا العالم المسطح.

لو أن هذا الزائر تكلم ونادى على سكان العالم المسطح، فإن سكانه سيسمعون صوته دون أن يروه، وسيدهشون كثيرا لهذا الصوت الغريب الذي يأتي إليهم من مكان ما ولا يرون صاحبه، ومن الطبيعي أنهم لن يستطيعوا رؤية هذا الزائر لأنه يقف الآن في البعد الثالث، وهو الارتفاع الذي لا يعرفون شيئا عنه، وسيلتفتون حولهم في دهشة شديدة، وسيظنونه من الأشباح، وقد يجري بعضهم ويختبئ خوفا ورعبا من هذا الصوت المجهول.

إذا فرضنا أن هذا الزائر الآتي من العالم ثلاثي الأبعاد قرر النزول إلى العالم المسطح، وهو عندما يفعل ذلك سيلامس أرض هذا العالم، ولكن سكان العالم المسطح لن يروا منه إلا تلك النقطة أو ذلك القطاع الصغير من الكرة الذي يلامس السطح الذي يعيشون عليه، ولن يستطيع أحد منهم أن يرى شكله كاملا، ولن يعرفوا أنه على هيئة كرة، بل سيرون منه نقطة أو خطا مستقيما قصيرا لا غير.

لو أن هذا الزائر الغريب دفع أحد الرجال المسطحين إلى الفضاء فإن هذا الأخير سيجد نفسه في بعد جديد غريب عليه كل الغرابة، وهو البعد الثالث المسمى بالارتفاع، وسيقع في حيرة شديدة، لأنه سيجد نفسه في موقف غريب لا يستطيع تفسيره ولم يسبق له التعامل معه.

سيرى هذا الرجل المسطح المعلق في الفضاء لأول مرة عالمه المسطح من موقع جديد وغريب، فهو يرى عالمه الآن من "فوق"، أي من البعد الثالث الذي سمع عنه من علماء الرياضيات، والذي لم يكن يعلم عنه شيئا، وسيفطن إلى أنه يستطيع الآن أن يرى ما بداخل المباني المسطحة، ويستطيع كذلك أن يرى أشكال المربعات والمثلثات، وسيرى بذلك لأول مرة أشياء جديدة في هذا العالم لم يرها من قبل.

عندما يعود هذا الرجل المسطح إلى عالمه مرة أخرى، فإن زملاءه وأصدقاءه سيسارعون إليه ليطمئنوا عليه، فقد غاب عنهم فجأة واختفى من أمام أعينهم في لمح البصر، ولم يعرفوا أين ذهب، وبحثوا عنه في كل مكان فلم يجدوه، ثم ظهر أمامهم فجأة من عالم الغيب مثل الأشباح! ولو أن هذا الرجل قال لهم إنني كنت أحلق فوق رءوسكم، وإنني كنت أنظر إليكم من أعلى، وإنني كنت في رحلة "فوق" هذا العالم، لما صدقه أحد ولاتهموه بالخبل والجنون.

إذا فرضنا أن أحد سكان هذا العالم المسطح أراد الانتقال من نقطة إلى أخرى في عالمه، فهو لن يستطيع أن يفعل ذلك إلا بالسير في خط مستقيم، إما في اتجاه الطول هـاما في اتجاه العرض، ومهما طال به الزمن فهو لن يخرج عن هذا الخط، ولو نقلنا هذا الرجل المسطح من عالمه المسطح إلى عالم آخر ينحني سطحه تدريجيا في اتجاه ثالث، مثل سطح الكرة، فإنه لن يشعر عندما يسير لمسافات قصيرة فوق هذا السطح الجديد بأنه ينحني مع هذا الاتجاه الثالث الجديد، بل سيبدو له هذا العالم الجديد عالما مسطحا كعالمه السابق، ويماثل ذلك شعورنا بأن الأرض مسطحة رغم أنها كروية الشكل.

لكن ذلك سيتغير كثيرا إذا خطر لهذا الرجل المسطح أن يسير باستمرار إلى الأمام في خط مستقيم، فسيرى لدهشته الشديدة، إنه بعد مدة طويلة قد عاد إلى النقطة التي بدأ منها، رغم أنه لم يرجع إلى الخلف، واستمر في سيره إلى الأمام طوال الوقت، ولن يتصور هذا الرجل المسطح أن عالمه قد انحنى بهذا الشكل في اتجاه ثالث غامض، ولكنه قد يستطيع بعد ذلك أن يستنتج هذا الاتجاه الجديد بطريقة رياضية.

لو أننا أضفنا بعدا رابعا إلى كل من الطول والعرض والارتفاع لكان هذا العالم الجديد مشابها تماما لعالمنا الحالي الذي نعيش فيه.

 

أحمد مدحت إسلام

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




اينشتاين





جدول الرؤية في العالم المسطح





اينشتاين والبعد الرابع