جراحة الأوعية الدموية رؤية أخلاقية خالص جلبي

جراحة الأوعية الدموية رؤية أخلاقية

لا شيء أولى بالنظرة الإنسانية والدثار الأخلاقي من الطب، لأنه عمل ساحته جسد الإنسان، ولا رقيب عليه في كثير من الحالات إلا الله والضمير، وكلما تقدم الطب كانت الحاجة إلى الإنسانية والأخلاق ألزم بالممارسة، وجراحة الأوعية الدموية أحد فنون الطب الراقية والحديثة، وبقدر رفعتها يرتفع معها شأن الأخلاق.

قبل أن ننتقل إلى الرؤية الأخلاقية لهذا الفرع من فروع الجراحة الحديثة يجدر بنا أن نتوقف عند محطات بارزة في مسار تاريخ وتطور هذا العلم.

فمع مطلع هذا القرن كان رائد جراحة الأوعية الدموية الدكتور الكسيس كاريل مؤلف الكتاب الشهير "الإنسان ذلك المجهول". فكر في تطوير أوعية جديدة محل المصابة والمسدودة، وقام بتجاربه الأولى على ذلك حتى تم تدشين أول تجربة باستخدام الوريد الصافن الإنسي من الساق لاستخدامه في مكان الشريان، وكان التخوف أنه كيف يمكن للوريد أن يتحول إلى شريان، وهذا آت من فهم الحياة على أنها قطع جامدة لا تتحول، لأن التجربة أثبتت أن الوريد مع تغير وظيفته تتغير طبيعته وبذا يتحول الوريد إلى شريان مع الوقت، وهذا يثبت أن الحياة تتغير باستمرار، ويزيد في الخلق ما يشاء، وكانت أول تجربة استخدام وريد عام 1948 على يد كونلين.

وعلى ما تذكر قصص التاريخ أن صلاح الدين الأيوبي مات بفصادة دم بعد يرقان أصابه، فاقترح أطباء ذلك اليوم فصده ليشفى؟! كما أن الإمام الشافعي مات بنزف من باسور ألم به، وكان معظم جنود المعارك وما زالوا يموتون بالنزف السريع والحاد، ولم يكن تطوير جراحة الأوعية الدموية بالأمر السهل دون تطوير أدواته، كما تم تطوير الشرايين الصناعية لتعويض الشرايين المصابة والمسدودة، بالإضافة إلى فهم الأسرار التشريحية والنسيجية لميكانيكية سيولة الدم ومدى ميوعته وكثافته، والعناصر التي تسبح فيه وتلعب الصفيحات الدموية الأثر المهم في سد الوعاء المنثقب، كما أن الكريات الدموية الحمر والتي تنقل الأكسجين يجب أن تلتوي في شكلها حينما تدخل أوعية دموية صغيرة.

إضافة إلى ذلك فإن تقدم التعقيم واكتشاف وتركيب المضادات الحيوية بالإضافة إلى المواد المميعة للدم مثل الهيبارين والوارفرين لعبا دورا حاسما في إمكان الدخول إلى هذه الجيوب التي كانت مثار الرعب للجراحين السابقين وما زالت.

عند ينابيع الدم

ولقد حققت جراحة الأوعية الدموية في فترة الثلاثين عاما المنصرمة خاصة منذ حرب كوريا عام 1950 قفزات نوعية، وبذا أمكن التدخل على أي شريان أو وريد بكل سهولة ونعومة لإصلاحه سواء في فتحه أو ترقيعه أو إعادة تدفق الدم إليه، كما أمكن تطوير مواد خاصة من أمثال الداكرون والجورتكس وسواهما من أجل زرع شرايين صناعية جديدة، أو ترقيع أماكن متضيقة.

إن ما سيرفع العالم الإسلامي هو العلم، العلم الذي لا حدود لإمكاناته لأنه من نبع الحي الذي لا يموت، ولا يعلمون شيئا إلا بعلمه، ومن علمه، بل إن العالم لن يطير إلى المستقبل إلا بجناحي العلم والسلم بعد أن تحولت الكرة الأرضية إلى قرية صغيرة.

وفي ضوء أهمية تعريب الطب، فأظن أنه من الإنصاف إلى ثقافتنا التي نبتنا منها، أن نكرمها بلغة القرآن، بدون لحن في اللغة، ولا كسر في المرادفات، ولا اختناق في المعاني، لأن المفاهيم والأفكار تختنق باختناق الكلمات، ولأن هناك علاقة بين اللغة والفكر والتاريخ. إذا كان الجراحون يخافون من النزف والأوعية الدموية، فإن مجال جراحي الأوعية الدموية هو ينابيع الدم، والسيطرة على النزف فيها، فهم يدخلون إلى أماكن الرعب وكهوف الخوف، وإذا كان الكثير من بقية الجراحات تقوم بالتفجير، أو البتر، أو الاستئصال، أو القطع، فإن فن جراحة الأوعية الدموية تصنيعي بالدرجة الأولى، سواء في إعادة تدفق الدم، أو ترقيع لشريان متضيق، أو تجاوز لشريان مسدود بشريان جديد، بل بتحويل اتجاهات الدم من مكان إلى آخر، ومن نظام إلى نظام "كما في تحويل الدم الوريدي من النظام البابي إلى النظام الأجوفي" فجوهر جراحة الأوعية الدموية هو بنائي تصنيعي.

الوقت الطويل والمضني والدقيق في لوحة فن جراحة الأوعية الدموية هو من إنجاز اليد الفنانة، فهذه الجراحة الدقيقة هي في الحقيقة لوحة رسم تأخذ بالألباب، فيها سحر الجمال، وروعة التناسق، وانسياب اللون الأحمر مع ظله الأزرق، التي تجمع طيف اللون بكامله، هذا الفن هو في الغالب، يجب أن يكون، ولمن يقتحمه: عملا فنيا دقيقا، حيث تتحول يد جراح الأوعية إلى ريشة فنان مبدع من خلال خياطة دقيقة محكمة، ولطف زائد بأنسجة رهيفة، وعناية فائقة لأوردة هي في حساسيتها أكثر من نعومة المرأة، ولا غرابة إذا رأيت الزوجية في الحياة كلها بما فيها نظام الأوعية الدموية، فالشريان بقساوته وضخامته يمثل الرجل، والوريد بنعومته وحساسيته يمثل المرأة.

وبقدر ما ينعدم الخوف من قلب جراح الأوعية الدموية وهو يرى النزوف المرعبة لسواه، حيث يسيطر عليها بسرعة فنية ولين، يعامل الأوعية بمنتهى الاحترام، بل وبحب وذوق، فهو يجمع بين مشاعر الاحترام والحب وعدم الخوف، والخوف إنما يأتي في العادة من الجهل بكيفية فن التعامل، فهو يتعامل مع الأعضاء التي تضخ الحياة إلى بقية أعضاء الجسد.

نعم إن جراحة الأوعية الدموية هي فن التعامل مع الأعضاء والأنسجـة التي تتولى إيصال مادة الحياة إلى كل خليـة في الجسم، فالأكسجين رمز الحياة هو المحمول بذلك العتال "الكرية الحمراء" الذي لا يعرف التعب، في دورة رائعـة يسقي الأنسجـة العطشى، والخلايا الظامئة من رحيق هذا الأكسـير "الأكسجين"، ذلك أن انقطاع الدم أو تدفقه وسفحه خارج وعائه، على حد سواء يفضي إلى الموت، إما موت عضو في الانقطاع وبتره، وإما إلى الموت العـام بفقد النسيج الدموي في الثانية بالنزف المجنون.

كأنه المشي على الصراط

نعم، إن جراح الأوعية الدموية يتعـامل مع الأوعية الدموية وكأنه يمشي علي الصراط، فالقطبـة الجراحية إن زادت أدت إلى التضييق، فالانسـداد، فموت الطرف المغـذي. وهي إن قصرت أفضت إلى الانتفـاخ بأم الدم "الأنورزم"، فالانفجار، فالموت، فجراح الأوعية هو مثل أهل الأعراف يلتفت يمنة ويسرى، وهو يمشي على حافة مشرطه الحادة ممسكا بحامل الإبرة الذي يعطيه التوازن على هذا الحبل المعلق بين السماء والأرض، يحوطه الموت من كل جانب، إن شد قدمه انغرس النصل في لحمه، وإن اضطرب توازنه هوى إلى الهاوية!.

وبعد. فليست كل إنجـازاتنا انتصـارا، ولا كل عملياتنا نجاحـا، بل نصاب بالإخفاق والإحباط في بعض الحالات، التي يجب أن يقوم جراح الأوعية فيها بعمليـة نقـد ذاتي قـاسيـة، ومراجعـة كي يتعلم من أخطائه لا أن يذرف الدموع، فعلى جراح الأوعية أن يتقي الله في مريضه بدقة الدراسة، ووضع التشخيص بشكل صارم، ومصارحة المريـض وصدقه، واستشارة زملائه أمام الحالات المعقـدة التي يجب أن يفهمها الزميل الآخر أنها أخلاقية عالية لنفع المريض، وليست فـرصة للانتهـازية والانقضاض، أو فهم أنها إشارة ضعف من الزميل، بل يجب أن يكبر هذا الموقف لأنه موقف النفوس الكريمة لا المريضة.

كذلك ليس المهم أن يجري جراح الأوعيـة الكثير من العمليات كي ينتشر اسمـه في الآفـاق، بل العبرة بحسن العمل، والقرآن أشار إلى أن المهم هـو حسن العمل وليس كثـرته الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عمل، فأشار إلى حسن العمل وليس إلى كثرته، والعمل الصالح يرفعه الله، ويرفع ذكر صاحبه عندما لا يطلبه، وهذه من تناقضات الحياة التي لا يفهم سرها إلا العالمون، فمن يضع نفسه يرفعها، ومن يرفع نفسه يضعها؟! فعمل الإنسان يركض أمامه ولا حاجة به إلى أن يرفع الصنوج وينفخ الأبواق من أجله.

في ظلال المشارط

نحن لسنا دون الخطأ ولا فوق النقد، بل عباد الله الضعفاء الذين نخطئ بالليل والنهار.

وعلينا أن نتعلم التواضع مع كل نجاح، فلا شيء يحبط العمل كالغرور، وإن الله لا يحب كل مختال فخور، ومن يمشي عجبا، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، كما يجب ألا نيأس مع الفشل بل يجب اعتباره لحظة تمر، وهناك ما قبلها وما بعدها وهي ليست كل الحياة، يجب أن نعلم أنفسنا قاعدة مهمة: ألا تستبد بنا اللحظة، واليأس لأنه من أخلاق الكافرين، كما علينا أن نلتمس العذر لزملائنا في اجتهاداتهم وهم يواجهون المواقف الصعبة، لأن الشماتة هي سمة النفوس الوضيعة الخسيسة، كما علينا أن نتجنب المغامرة بحياة المريض ما أمكن لأن الحياة هي أغلى شيء في هذا الوجود، لا ينبغي أن تهدر من أجل ادعاءات بطولية، ومغامرات حمقاء، ابتغاء رياء الناس وطلب المجد والحمد في مجالسهم.

ويبقى البتر أمرا كريها، ولكنه أمر متوقع في جراحة الأوعية الدموية قد يلجأ إليه الجراح يوما ما، ويجب أن ندافع عن أي طرف إلى حد الاستماتة، ولكن يجب أن نعلم مرضانا أن الذي يبتر ساقه يبقى إنسانا يمارس حياته بشكل طبيعي ولا يصبح معاقا، وأن المرء بأصغريه قلبه ولسانه، وليس بقدمه.

لقد حققت جراحة الأوعية الدموية قفزة رائعة باتجاه المستقبل، إلا أن قفزات الحضارة كان زنادها في العادة وقودا روحيا، لذا يجب أن يكون هذا الانطلاق- إن أريد له الاستمرار- مبنيا على تقوى من الله، وليس على شفا جرف هار، بمعنى أن يكون له نظام أخلاقي للمستقبل، يجب أن نفكر بتكوينه بجدية، وإذا كنا نريد أن نعظ الإنسان فإننا نذكره بالموت وكفى بالموت واعظا، ولكن الأطباء يرون الجثث التي تشحن يوميا إلى ثلاجات الموتى، فبماذا يمكن وعظهم يا ترى حتى يكونوا أخلاقيين؟.

وليد ينمو

ويبقى أن نذكر في النهاية أن هذا الفن وليد حديث، وعمره لا يتجاوز عقودا قليلة، ولكنه ينمو كنمو الوليد في السنة الأولى من حياته، لذا نأمل من جراء الأوعية الدموية، أن يحقق روح أولئك النفر الذين يخرجون من كل طائفة، بروح العلم، بروح الدهشة والفضول لمعرفة أحدث ما يصل إليه هذا الفن، وهذا يذكرني بقول الفيلسوف الألماني لسينغ من القرن الثامن عشر "لو أخذ الله الحقيقة المطلقة بيمناه، والشوق الخالد إلى البحث عن هذه الحقيقة بيسراه، ومعها الخطأ لزام لي، وسألني أن أختار، إذن لجثوت ذليلا عند يسراه بكل تواضع، ثم قلت يا رب: بل اعطني الرغبة إلى البحث، لأن الحقيقة المطلقة هي ملك لك وحدك"، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم "لا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم الذي لا أزداد فيه علما يقربني إلى الله تعالى".

 

خالص جلبي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




استخدم الشريان الثدي الباطن لأغراض منوعة منها زرع شرايين جديدة في القلب





تقنية التصنيع الوعائي بواسطة البالون وهي تعتمد على نفخ البالون فيحصل توسيع شرياني مناسب





تقنية ما يسمى الستنت أي توسيع الشريان والحفاظ على التوسيع بشبكة داخلية تحافظ على التوسيع





تقنية ما يسمى الستنت أي توسيع الشريان والحفاظ على التوسيع بشبكة داخلية تحافظ على التوسيع





حفر الشريان المسدود الداخلي طريقة حفر الوسا والباذجان





نزع مواد الانسداد الشرياني المباشر





استخدام تقنية الليزر لإذابة المواد العالقة والسادة للشريان من خلال منظار الوعاء الداخلي