أدوية لكن من الفضاء منير محمد سالم

أدوية لكن من الفضاء

ثمة علاقة بين الطب بدأت بمنتصف العام 1973 بغية دراسة التأثيرات المختلفة على جسم الإنسان تحت انعدام الوزن، وتم ذلك من خلال المكوك الفضائي "سكاي لاب" الذي حمل ضمن رواده طبيبا متخصصا هو "جوزيف كروين" والذي شملت أبحاثه تأثير انعدام الجاذبية على نبض القلب ومن ثم ضغط الدم، ودراسة تكوين خلايا الدم وتحللها، وكذلك توزيع السوائل في الجسم، وترسب المعادن في العظام والسعي نحو تقييم السعرات الحرارية في الفضاء، وأثر ذلك على عمليات بناء الخلايا في الجسم.

توالت الاهتمامات نحو الاستفادة من التقـدم العلمي في مجال الفضـاء في الفـروع الطبيـة المختلفة، وذلك باستحداث طبيب في الفضاء على شكل قمر صناعي مهمتـه الكشف عن الأمراض في المناطق النائية، وإرسال التقارير الطبية إلى الأرض، ولعل من أشهر الأقمار الصناعية التي استخدمت لهذا الغرض هو المكوك "6.A.T.S"، والذي حقق نتائج ملموسة وطيبة حينما انطلق ليدور فوق جزر كـالاباجوس على الساحل الباسفيكي في أمريكا الجنوبية.

الراية البيضاء

السرطـان.. داء السكـري.. الشلل الـرعـاش "Parkinsonism".. التهاب الكبد.. الإيدز.. وغير ذلك.

سلسلـة من الأمراض حـاول الإنسان علاجها، وسخر لها جميع اهتماماته وحشد لها جل طاقاته.. إلا أن محاولاته كانت متواضعة أمام هذه الأمراض العنيدة. وأسفرت أبحاثه المتواصلة، والتي استغرقت سنين عددا عن عقاقير متواضعـة لمواجهة البعض من هذه الأمراض، بينما عجز كليا عن مواجهة البعض الآخر، على الرغم من حدوث طفرات عديدة في مجال الطب، لعل آخرها الهندسة الوراثيـة والتي تأتي كل يوم بفتح جديد.

وإذا كـان الطب على ظهر الكرة الأرضيـة قـد رفع الراية البيضاء وأعلن انهزامه أمام هذه الأمراض، والتي استعصى على الإنسـان علاجها، فإن الفضاء الخارجي يعطي حلـولا لتلك المعضـلات، ويهب الإنسانية العلاج السحـري لمعظم هذه الأمراض المستعصية حيث يعتقد العلماء في مركز جونسون الفضائي التابع لناسا- وكـالة الفضاء والطيران الأمريكيـة في هيوستون- تكساس، أنه قـد يصبح بالإمكـان قريبـا علاج هذه الأمراض المستعصيـة عن طريق إنماء الخلايا البشرية في المحطات الفضائية، أو الأقمار الصناعيـة الحائمة حـول الأرض، ولعل المفتاح لسر الشباب الدائم، يكمن أيضا في مزارع خلوية تنمو في الفضاء بعيدا عن جاذبية الأرض.

يعيش جسم الإنسـان على الـدوام في صراع دائم، بحيث يخوض حـربا خفيـة ضد الأحياء المجهريـة، والخلايا الخبيثة، حيث يقود هذه المعركة الجهاز المناعي الـذي يستطيع أن يتخلص عمليـا من هـذه الأجسام الغريبة دون المساس بأنسجة الجسم المختلفة.

الجهاز المناعي مفتاح السر

ولعل من ألد أعداء الإنسان في الشيخوخة فشل جهازه المناعي في وقايته من الأمراض المختلفة وعلى رأسها السرطـان والأمراض المعدية، فمن المعروف أن خـلايـا الـدم البيضاء، تلك الخلايـا التي تجوب الدورة الدموية بحثا عن الكائنات الضارة للقضاء عليها تتكـون باستمرار في النخـاع العظمي Bone Marrow في جسم الإنسـان لتعويض ما هلك منها، كذلك خلايـا الدم الحمراء التي تنقل الأكسجين من الرئتين إلى باقي الجسم تنشأ أيضا في النخاع العظمي، وكلتاهما تتكونان من نوع واحد من الخلايا يعرف بالخلايا الجزرية Stem Cells، هذه الخلايا في انقسام مستمر لتكوين خلايا جديدة تتفرع لتكون النوع الذي يحتاجه الجسم من خلايا الدم المختلفة.

وتحوي كرات الدم البيضاء الخلايا الليمفاوية، هذه الأخيرة التي تنقسم من الناحية الوظيفية إلى قسمين متشابهين في الشكل مختلفين في المهام مثل الجنود الذين يرتدون زيا موحدا، ولكن لكل واحد منهم دوره الخاص الذي يقوم به أثناء المعركة الحربية.

النوع الأول: الخلايا البائية B.Lymphocyte وترتبط وظيفة تلك الخلايا بتكوين أجسام مضادة Antibodies، يختص كل منها بنوع معين من البكتيريا والفيروسات التي يتعرض لها الجسم ثم تستقر أخيرا في النخاع العظمي أو الغدد الليمفاوية.

النوع الثاني: الخلايا التائية. T Lymphocyte وهي خلايا تعرف جيدا كيمياء جسم الإنسان الذي تعيش فيه، وطبيعة أنسجته التي تختلف كثيرا من شخص لآخر، والتي تستقر أيضا في النخاع العظمي أو الغدد الليمفاوية.

وهذه الليمفاويات تساعد الخلايا البائية على التكاثر، وعلى إفراز الأجسام المضادة، كما أنها تختص بطرد الأجسام الغريبة التي تزرع في الجسم، حيث تكشف ببراعة مدى اختلافها عن أجهزة الجسم الأصلية ومن ثم تهاجمها في ضراوة بالغة، وتصب عليها القذائف والحمم من المواد الكيميائية المختلفة.

وللخلايا التائية وظيفة مهمة في مهاجمة الأورام السرطانية في الجسم، وتساعده على التخلص من بعض الأورام صغيرة الحجم، ومع تقدم السن تضعف تلك الخلايا، وبالتالي قد تظهر بعض الأورام السرطانية في الأعمار المتقدمة.

..والأمل يأتي من الفضاء

تميز القرن شبه المنصرم بثورات طبية متتابعة بدءا من اكتشاف المضادات الحيوية، مرورا بزراعة الأعضاء، وانتهاء بالهندسة الوراثية، كل هذه الثورات جعلت الإنسان يشعر بأنه يعيش عصر اللامستحيل، وأن الأمل قرين كل عمل ما دمنا نعيش في عصر حمل بين أحشائه كل هذه الثورات الطبية المتتابعة، وإن كان الحمل قد طال، أو بدا المخاض عسيرا في شفاء أمراض العصر إلا أن العلم لا يعرف المستحيل. ومن الأمور الجديدة المثيرة التي تواجه علماء البيولوجيا اليوم هي إمكان إنماء الخلايا الجزرية البشرية خارج الجسم في مزارع مخبرية، ولعل الهدف من ذلك هو الوصول إلى معرفة كيفية إدارة المزرعة المخبرية لإنتاج أي نوع من خلايا الدم البيضاء خارج الجسم لاستعمالها في دعم المناعة لدى الشيوخ أو الأشخاص ذوي المناعة الضعيفة، لكن لا بد من إيجاد طريقة لمنع رفض هذه الخلايا من قبل الجسم لأنه سوف يعتبرها دخيلة عليه، والبحث جار في هذا المجال أيضا.

ومن جملة العاملين في مجال إنماء الخلايا الجزرية في المزارع الخلوية علماء مركز "جونسون" الفضائي، وقد وجدوا أن إنماء أمثال هذه الخلايا في مفاعلات حية تحت ظروف انعدام الوزن على متن إحدى الرحلات الفضائية المكوكية قبل عام قد تم بطريقة أقرب لطريقة نموها داخل جسم الإنسان. وسبب ذلك من ناحية هو أن الخلايا في حالة انعدام الوزن لا تتعرض للأذى عندما ترتطم ببعضها أو مع جدار المفاعل أثناء تحريك الخليط الخلوي لتزويدها بالأكسجين.

ثم قام فريق برئاسة الدكتور "جليمس بولدنج" بإرسال أنواع أخرى من مزارع الخلايا إلى الفضاء ووجد أنها تنمو أيضا بشكل أقرب إلى النمو الطبيعي، وبالأخص مجموعة من الخلايا مأخوذة من المعى الدقيق التي نمت لتصبح قطعة معى تامة التكوين بدل أن تبقى كتلة من الخلايا دون شكل أو هيئة عند إنمائها فوق سطح الأرض.

وليس من المستبعد في المستقبل أن يصبح بالإمكان إنماء أعضاء كاملة في محطات فضائية من أجل استعمالها في عمليات غرس الأعضاء، لكن هم العلماء الآن هو إنماء الخلايا الجزرية في الفضاء بنجاح أولا، حيث يذكر الدكتور "جلين سبولدنج": إننا نقوم حاليا بدراسة عدد من مزارع الخلايا بعد إنمائها في الفضاء الخارجي، من بينها بعض السرطانات لمعرفة طريقة تكونها، هذا بالإضافة إلى بعض الأنسجة الطبيعية من الرئة والغضروف، ونبحث الآن في أي من المورثات تنشط في الفضاء، وذلك لرؤية ما إذا كان بإمكاننا اصطناعيا حفز نفس المورث على إنتاج البروتين نفسه على الأرض من أجل دفع خلايا المزارع المخبرية للقيام بنفس النمو والتنوع على الأرض كما في الفضاء.

آمال فوق الآمال

إن أحد أهداف إرسال المزارع المخبرية إلى الفضاء هو معرفة كيفية جعل هذه الخلايا تنمو بشكل أفضل على الأرض، وسوف تحمل كل رحلة مكوكية مزمعة ابتداء من شهر يناير/ كانون الثاني من العام القادم مزارع خلايا لتحقيق هذا الهدف بالذات، ومن بينها خلايا ذات تطبيق طبي مهم جدا تنمى في الفضاء ومن ثم تعاد إلى الأرض لاستعمالها في العلاج، وبسؤال الدكتور "سبولدنج" عن أي هذه التطبيقات يختار؟، أجاب بقوله: "لا يمكنني أن أرجم بالغيب كم من هذه التطبيقات يمكن تحقيقها في الفضاء، لكن نظرا للكلفة العالية لمثل هذه الحمولة، وحتى تكون مبررة من الناحية التجارية ينبغي بأن تتميز بكثرة الطلب عليها مثل إنماء خلايا جزيرات لانجرهانز البنكرياسية التي تفرز الإنسولين، والتي ينطبق عليها تماما تلك الشروط المطلوبة لإنماء الخلايا في الفضاء الخارجي.

وبذلك فإن مرض السكري سيكون في الطليعة في الاستفادة من هذه الثورة العلمية الجديدة، مما يحمل الآمال لملايين المرضى في العالم يعيشون تحت وطأة هذا المرض وآلامه، وكذلك فإن هذه الأبحاث تهدف إلى تحقيق الصحة والسلامة للجسم البشري.

 

منير محمد سالم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




ارتياد الفضاء هو أيضا طموح لدراسة الإمكانات البيولوجية غير المعتادة خارج الغلاف





الذي يستطيع أن يتخلص عمليا من هذه الأجسام الغريبة دون المساس بأنسجة الجسم





مكوك الفضاء ديسكفري وفي قلبة أحد المعامل الحيوية التي تبحث إمكان ابتكار أدوية جديدة في ظروف الفضاء خارج الغلاف الجوي