الشعر المقاوم.. بين الإقامة في المكان والإقامة في اللغة

الشعر المقاوم.. بين الإقامة في المكان والإقامة في اللغة
        

لأن المكان المحتل مهدد. والأرض أسيرة فإن الشعر المقاوم في أولياته شعر يدعو للتشبث بالأرض.

          شعر المقاومة على العموم, هو شعر إقامة في المكان, ذلك ما لمسناه في الشعر الفيتنامي المقاوم, وفي الشعر الفلسطيني وفي شعر الجنوب اللبناني.

          لقد اقترن الغزو من حيث بعض استعمالات اللغة, بما يقرّب بين الأرض والمرأة (أو العِرْض بالعرف العربي) فانتهاك الأرض من قبل الغازي شكل من انتهاك العرض, فيقال في اللغة أرض موطوءة, كما يقال امرأة موطوءة. ويقال اغتصب الأرض, كما يقال اغتصب المرأة. فاللغة في كلا الحالين, لغة جسدية, متعلقة بالشرف المنتهك ماديا وجسديا.

          فالأرض والمرأة كلاهما (حمى) بالمعنى العربي, ولا يصحّ لأول وهلة الفرار حين يدعو (الحمى) أهله للدفاع عنه, لذلك جاء الشعر المقاوم ليدعو للإقامة في المكان.

          ذلك ما نلمسه في شعر محمود درويش المبكّر (عاشق في فلسطين, أوراق الزيتون..) على سبيل المثال, كما نلمسه في شعر سميح القاسم: (على صدوركم هنا باقون كالجدار), وشعر توفيق زيّاد والمناصرة ودحبور وبسيسو وسواهم ممن تم الاصطلاح على تسميتهم بشعراء المقاومة الفلسطينية.

          على هذا الأساس, ومن باب التماثل في الواقع - مما أدى للتماثل في الإحساس - فإنه ما من شاعر جنوبي (من الجنوب اللبناني) من الشعراء المعدودين, إلا وكتب قصيدة تمجّد المكان وتدعو للإقامة فيه. وحفر بعضهم حفريات عميقة وتاريخية في أرض هذا المكان ليجعله قديمًا وأزليًا (متجذّرا), وليس عابرًا أو راهنًا فحسب, فكتب عباس بيضون قصيدته الملحمية الطويلة المسماة (صور), وكتب محمد العبدالله ـ قصيدة يارين (وهو اسم قرية في الجنوب اللبناني) وكتب الياس لحود قصائد عن سهل مرجعيون, وشوقي بزيع قصيدة (صور) وحسن العبدالله قصيدة (صيدا) وقصيدته الطويلة السحرية (الدردارة) وهو اسم نبع في سهل الخيام (مسقط رأس الشاعر), وكتبنا ما شاءت لنا الكتابة عن بيت ياحون (مسقط رأسنا في الجنوب), وعربصاليم, وفتى الرمان (نسبة لقرية كفر رمان في منطقة النبطية), وهكذا فإن المكان, بتسمياته المختلفة, من قرى ومدن وأنهار وجبال, ومن حيوانات ونباتات خاصة به, ومن أهل وعادات, حاضر حضورًا جوهريًا في هذا النمط من الشعر, الذي يجعل من المكان (المحتل) حمى مستباحا, ومن الإنسان فارسًا لهذا المكان وحارسًا له, ما يستدعي إنشادًا شعريًا, ينتقل به الشاعر, تبعًا لأسلوبه, من تمجيد العناصر, وحبها حبّا قد يصل به أحيانًا لدرجة الاندماج الجسدي أو إلى مرحلة التوحّد الصوفي.

          وقد قالت فدوى طوقان في قصيدتها المعنونة (الفدائي والأرض):

(هذه الأرض امرأة
إن سرّ الخصب في الاثنين واحد...).

استنهاض المعنى

          وربما وصل الشاعر بالإنشاد الملحمي لتمجيد شهداء الأرض, إلى لحظات متصلة بالمعنى الإحيائي للموت في سبيل الحق, من حيث إنه كما ورد في القرآن الكريم, (ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون), أو كما ورد في الإنجيل المقدّس (أطلبوا الموت توهب لكم الحياة), وبحيث يستنهض المكان المعتقدات الدينية والشعبية لأهله, من الكربلائية في الجنوب اللبناني ومعنى شهادة الإمام الحسين (ع) في كربلاء, إلى معنى القيامة في موت السيد المسيح (ع). على هذا الأساس قولنا في قصيدة بعنوان (المسيح الجديد):

(يمشي على الموت مختالاً كأنّ به
من الألوهة سرّا ليس يخفيه
يمشي الهوينا وقتلاه تمجّده
كأنما كلّ ما يُرْديه يحييه
يعلو على الغيم أحيانًا وأبصره
يدنو فيصبح أدنى من معانيه
أعطيتُه كل ما أوتيتُ من نِعَمٍ
وما ندمت فألقاني على التيه).

الإقامة في المكان

          من حوالي ربع قرن من الزمان (في ثمانينيات القرن المنصرم) كتب شاعر جنوبي قتل خلال الحرب الأهلية في لبنان, هو موسى شعيب, الأبيات التالية:

(هنا باقون كالأزل
نشدّ جذورنا بجذورنا الأوَلِ
نعانق شوكَ هذي الأرضِ بالمُقَلِ
أَلَمْ تُخلق سوى الأفواه للقبلِ?
هنا باقونَ لن نَبرَحْ
وإنْ يُهدَمْ لنا بيت
وإنْ نُقْتَلْ
وإنْ نُذبحْ
فهذي الريح موّال لنا يصدحْ
وهذا الحقل أطفال لنا تمرحْ
هنا باقون مثل الصخر لن نبرحْ).

          في هذا النصّ, دعوة للإقامة في المكان, وهو الجنوب اللبناني, وهي إقامة دامية, أو إقامة ضنك, ولكنها طيّبة كالمنيّة عند الذّل, التي قال فيها جدّنا المتنبي:

(إنّ المنيّة عند الذُلّ قنديدُ) أي عسل.

          وفي الإقامة, وصْلٌ للجذور القريبة في المكان, بالجذور البعيدة, وما يشبه الوصايا المقدّسة بالحفاظ على مطارح الآباء والأجداد, وعلى آثارهم وجذورهم وقبورهم وبقايا عظامهم.

          والمعنى هذا, تمارسه جميع الشعوب والأقوام, وورد في تواريخ وميثولوجيات الحضارات المبكرة والقريبة, بل ثمة ما هو أبعد من ذلك, ثمّة سحر ما, أو لعنة من اللعنات, ستلحق بنا إذا غادرنا المكان. يقول الشاعر إننا إذا رحلنا: (ستلعننا كروم التين والصُبّار والعنب).

          وهذه الكروم, من خلال سماتها, والأماكن التي تتكاثر فيها, جنوبيّة على الخصوص, وشاميّة على الإجمال, وليست كروم التين والزيتون في فلسطين التي ورد ذكرها في القرآن الكريم (والتين والزيتون وطور سنين, وهذا البلد الأمين) سوى جزء تاريخي ومقدّس منها, فثمة إذن, حراسة للمكان, قريبة من السحر أو القداسة أو بالمعنى السياسي الحديث, ثمة تعلّق بالوطن والدفاع عنه حتى الموت, فليس سوانا أحد ليطيّب خاطر الغسق, وليمسح الغبار عن جبين الحجارة, والعرق المتحدّر عن زنود الحطابين, وليس سوانا أحد ليستقبل أول النهار في القرى الجنوبية, وليودعه حين يأتي المساء, وهذا ليس شعر إقامة فحسب, بل هو شعر مقاومة وصمود, ومثله قولنا في قصيدة بعنوان (دخان القرى):

(هو القلب أم حفنة من دخان القرى
قال لي صاحبي:
نشأنا معًا
وضحكنا معًا
وشربنا معًا وَحْلَ أقدامنا
فهل أنت مثلي غدًا ميّت في المدينة?
قلت: هذا اتجاهي
من النهر حتى احتراقاته في الخليج
جنوبًا
جنوبًا
جنوبًا
وكل الجهات التي حددتني غَدَتْ واحدة
قال لي:
أنت لا تعرف الأرض والآخرين
قلتُ: أمي نهتني عن الموت إلا على صدرها
قال: خُذْ رقم قبري وغابْ
ولما التقينا
بكينا معًا فوق صدر التراب).

          من البيّن أيضًا, أنّ هذا الشعر بدوره, هو شعر إقامة في المكان, من خلال عملية اندراج جسدي, وتبادل أدوار, بين عناصر التراب وجوارح الشاعر, والتحام أخير ونهائي بين الإنسان والأرض يصل لحدود الاتحاد الصوفي, وهو شعر مقاومة أيضًا.

ارتباط غريزي

          ثمّة إذنْ, عناصر أوّلية تصل لحد الفطرة, تجعل الإنسان متعلقا بمكانه, بمنزله, بأهله وجيرانه, بفتاة أحبها وهو صغير من خلال هذه النافذة, أو بترب لاعبه على ذلك الملعب, بصخرة مقيمة هنا, أو أغصان دالية معلّقة هناك. وقد يجد الإنسان مثلها أو أكثر منها في أماكن أخرى من العالم, إلاّ أن امتزاجها بسيرة حياته, امتزاجا حسيا جسديا, وامتزاجا نفسيا ووجدانيا, يجعل منها جواهر في مطلق الإحساس بها, ففي هذه الأمكنة ولدت الحياة لأول مرّة, وعليها درج الإنسان في الصبا والشباب, ومن مجملها يتكوّن إحساس بالألفة والسكينة, هو جزء من الإحساس بالوطن الذي قال فيه ابن الرومي:

ولي وطنُ آليت ألاّ أبيعه وألاّ أرى غيري له الدهر مالكا


          إلى أن يقول:

وحبَّبَ أوطان الرجال إليهمُ مآربُ قَضّاها الشبابُ هنالكا


          من أجل هذا, يحبّ الإنسان أن يعيش في وطنه, ولكنه أيضًا يجب أن يموت دفاعًا عن وطنه.

          نقول: إنّ هذه العناصر الأولية للمكان والأهل, الواصلة لحدّ الفطرة والبداهة, ينفعل بها كل إنسان على طريقته, ويدافع عنها على طريقته, ثمة على سبيل المثال, في قرية (عيناتا) من الجنوب اللبناني ثلاثة قبور لاتزال قائمة حتى اليوم, وهي لأبناء فلاّح جنوبي من القرية, قتلوا خلال الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني في العام 1982. سألَتْ مراسلة أجنبية والدهم الشيخ السؤال التالي:

  • ماذا ستفعل الآن بعد موت أولادك الثلاثة? هل سترحل?

          فأجابها: اسمعي: سأبقى.. (وأشار إلى قبور أبنائه الثلاثة) وقال:

          نحن هنا ليس لنا سكن في أي مكان آخر إلا فوق هذا التراب بالذات أو تحته.

المكان الأول.. المكان السحري

          والشعراء, غالبًا ما يُدخلون هذه العناصر الأوليّة للمكان, والإقامة, والسيرة في دواخلهم السحريّة, أو يطلقونها, كالحمائم, في مخيّلاتهم العجيبة.. فيبتكرون منازل للمنازل, كما يقول المتنبي:

لك يا منازل في القلوب منازل أقفرت أنت وهُنَّ منكِ أواهلُ


          أو يتداخلون معها تداخلاً عجيبًا ومفاجئًا, وإبداعيا, فهي عناصر تظهر من الخارج كأنها عناصر حيادية, ولكنها, في القصيدة, تغدو عناصر أخرى ممزوجة بنبض الشاعر, ومغسولة بمائه السحري, ومولودة ولادة جديدة وخاصة, من خلال كلماته.

          على هذا الأساس سنجد شاعرًا جنوبيًا هو حسن  خليل عبدالله, يقول في قصيدة (الدردارة) (المؤرخة العام 1981), واصفًا طرفًا من طفولته التي قضاها قريبا من نبع الدردارة في الخيام:

(أذكرُ من حديد الصيف فَخَّ حسن خليل وبأسه المائيّ
أنا هناكَ في العصفور
كيف تكون في العصفور?).

          فانظر: يمضي الولد الجنوبي لزمانه وأحواله, لكنه يبقى مقيمًا في العصفور, فلو أصاب صياد ما العصفور - ذاك لأصاب (حسن خليل) بالذات, وأكثر من ذلك, فإنّ العناصر السحرية البدائية للمكان, يرتّبها هذا الشعر ترتيبًا مدهشًا قريبًا من السحرية الرعوية, التي تنتشر من خلالها الأرواح في الزوايا والحشرات وفي الأشجار والماشية.. فيقول:

(يعيش يعيش ديك الماءِ
عاش الديكُ
عاش الديكُ
عاش الأصفر العصفور
بين الثور والمجرى
وصفراء النساء
وصُفرة الديفور...).

          فأي قدرة توليدية خُصّ بها هذا الشاعر, فكي يخترق بالكلمات, واللعب الطفولي, عناصر الطبيعة الأولية, وليفاجئ الحياة بحياة أخرى في القصيدة (لعلّها أجمل) ويفاجئ المكان (بمكان آخر لعلّه أطرف وأجمل..) وكل ذلك مردّه للروح المبدع للشاعر.. ذاك الروح الذي قال فيه جارسيا لوركا: (الروح المبدع هو القوّة الخفيّة التي قال عنها (يا جانيني) إنه يُحْسب بها كل إنسان ولم يعرفها فيلسوف. وتجلّي الروح المبدع يستلزم تغييرًا مشعًا للأشكال والطرز القديمة ويهب إحساسًا بالنضرة, جديدًا كل الجدّة, كوردة تخلف حديثا كمعجزة ويوّد في النهاية ما يشبه الحماسة الدينية صرخة تواصل مع الله من خلال الحواس).

          شعر المكان, أو شعر الإقامة طَرَف من شعر المقاومة. وهو ملموس في شعر شعراء المقاومة الفلسطينية, من أمثال محمود درويش وفدوى طوقان وسميح القاسم وتوفيق زيّاد وأحمد دحبور, مثلما هو ملموس في شعر المقاومة الفيتنامية, والشعر الأسباني, وملموس غزارة لدى كوكبة من شعراء الجنوب اللبناني (الياس لحّود وحسن عبدالله ومحمد العبدالله وشوقي بزيع وسواهم), مع تقاطعات وتمايزات لا تخفى على الدارس, هذا الشعر يقيم في المكان, والمكان يقيم فيه, يحتمي كل منهما بالآخر, ويدافع عنه, فالشعراء يدافعون عن الوطن بإبداعهم الشعري, مثلما يدافع المقاومون بالسلاح, أو بالعقيدة, أو بالمال: كلّ بالأداة التي يملكها.

          وحين يموت شهيد على تراب الوطن, فهو يموت من أجل القصيدة أيضًا.

من الإقامة إلى الرحيل

          هنا, علينا ألاّ نضع حدودًا نوعية صلبة بين شعر المكان والإقامة, فنعتبره طرفًا من شعر المقاومة, وشعر الاغتراب والرحيل, فنعتبره واقفًا في الطرف المعاكس للمعادلة. فإنّ المتنبي حين يقول:

على قلق كأن الريح تحتي أسيّرها يمينًا أو شمالاً


          فإنه لم يكن يستوطن وطنًا أو مكانًا بعينه, بمقدار ما كان يستوطن قلقه وكبرياءه.. وهذا هو سبب غربته العظيمة:

تغرّب لا مستعظما غير نفسه ولا قابلا إلا لخالقه حكما


          فإذا كانت إقامة المتنبي هي في الرحيل, فأين كان يقيم هذا الشاعر إذن?

          نسأل أنفسنا, ونجيب: كان يقيم في المعنى.. في الفكرة.

          - ألم يكن للمتنبي وطن?

          - بلى.

          - وأين?

          - في غربة نفسه.. على أرض غامضة.. في مجاهل كبريائه.

          هذا الانتقال بالشعر من حيّز الإقامة في المكان ومديحه, إلى حيّز الإقامة في الفكرة, هو انتقال بشعر المكان والمقاومة, من طبقة إلى أخرى, كأن يبحث أدونيس مثلا, عن (أندلس الأعماق) وأن نبحث نحن عن (آسيا الحبيبة), وأن يبحث سركون بولص عن مدينة غامضة ليست موجودة على الخريطة اسمها (مدينة أين).

          وهذا على كل حال, وفي جوهر شعر الإقامة والرحيل, ما كان اختطّه جارسيا لوركا لنفسه في ديوانه (ألتماريت), وبابلو نيرودا في قصائد (سيف اللهب) وقصائد إلى ماتيلدا والنئوس وحجارة تشيلي, وما اختطّه لنفسه بنقلات نوعيّة محمود درويش, في تحوّله من (أوراق الزيتون) و(عاشق من فلسطين), إلى قصائد (لماذا تركت الحصان وحيدًا) وقصائد (جدارية) فبعدما كان هذا الشاعر يحاور المكان (فلسطين) ويمتدحه, التفت إلى نفسه فلم يجد لا المكان ولا نفسه, فخرج إلى المنفى, وصار يحاول المنفى ويمتدحه باعتباره بديلاً عن المكان, ثم نظر إلى نفسه من جديد, فلم يجدها ولم يجد الوطن ولا وجد المنفى. وفي هذه اللحظة التراجيدية لشاعر المقاومة الفلسطينية الكبير, بدأ يحاور الفكرة ويحاور الزمان.

          هنا, علينا ألاّ ننسى مفارقة هي التالية: حين ابتعد محمود درويش عن حيّز الواقع والمكان بأبعاده الحسيّة, وغادر الخطاب المباشر والمكشوف متجهًا نحو الرمز والمخيّلة, فإنه خسر مساحة شعبية واسعة من الناس, إلاّ أنه بالمقابل, كسب القصيدة بمعناها الفني التوليدي, ولم يحصل ذلك له, إلاّ من خلال ما يتطلبه الشعر من مخاتلة, وحيل شعرية, وفنتازيا خيال ولغة, ولعب بعيد المدى مع الكلمات, ولبوسات متباينة بين دخول في جوف تاريخي أو أسطوري تارة, ولجوء لنصّ وثني طورًا, أو إنشاد بنايات كثيرة في معظم الأحيان.

          وقد تطهّر عدد من شعراء الجنوب بدم كربلائي في قصائدهم, أو بطهور صوفي وعرفاني, ومع ذلك, فقدرهم جميعًا, على ما يظهر, هو أن يُصغوا لعويل الصمت في ذواتهم, وأن يهتف كل شاعر وهو بين الحشود (آه يا وحدي) إنها غربة واحدة للشعراء, تعتريهم من قديم الزمان حتى اليوم.

الإقامة في اللغة

          في هذا الموقع من الشعر, أو في هذه الطبقة, ينهض النص الشعري بذاته, بفكرته, ببدنيته, لكي ينسى أرومته وأصله. وهو ما يمهّد للمستوى الثالث, أو الطبقة الثالثة من المقاومة بالشعر, وهو إقامة الشعر في اللغة.

          وحين تسأل الشاعر هنا: أين تقيم? يجيبك: أقيم في لغتي.. فاللغة كما يقول باشلار, هي بيت الشاعر, وهي أكثر من سكن وأكثر تعقيدًا من وطن.

          وتدخل في هذا المستوى من التحليل إشكاليتان:

          الأولى إشكالية فلسفية أو عقيدية (أيديولوجية) تتعلّق بمعنى الإبداع الشعري, والثانية لغوية تتعلّق بخروج النص الشعري من النظام السيمانتيكي للغة, من حيّز الكلام, إلى النظام السيمائي للقصيدة.

          إننا لا نستطيع أن نغفل, في علاقة الشعر بالحياة والواقع, إشكالية التباين بين (القول/ الفعل) و(القول/ القول). فالأول محفوظ للخالق جلّ وعلا, للمبدع الأول, أما الثاني فيتجاذبه الشعراء وفيه أقوال.

          وهذه الإشكالية قديمة على كل حال. فلم يكن للشاعر في جمهوريّة أفلاطون سوى دور هامشي لأنه يتعامل بالخيال والأوهام, بعكس الفيلسوف الذي يسوس المدينة بالعقل والحكمة. فالشاعر مطرود تقريبًا من المدينة الأفلاطونية. وقد سمّته الأساطير اليونانية القديمة (سارق النار المقدسة) وهي نار الخلق المحفوظة للآلهة دون سواهم, يسترق الشاعر السمع إليهم ويسترق منهم نار الخلق.

          حسنًا.

          ماذا نفعل بالشاعر? هل نرجمه? هل نقبله? وكيف?

          وحين جاء الإسلام عمّق هذه الإشكالية. فقد جاء في سورة ياسين, الآية 82 (إنما أمرُهُ إذا أراد شيئًا أن يقول له كُنْ فيكون).. وحين هجا القرآن الشعراء, اتهمهم بالهيام (ألم تَرَهُمْ في كل وادٍ يهيمون) وبأنهم (يقولون ما لا يفعلون) وذلك هو تقربيًا, صنيع الوهم أو السحر أو المخيلة التي تشطح بالشعراء, ويعتبره النص القرآني مجافيًا للحقيقة.

          لقد جاء المتنبي فحاول النبوّة فأخفق.. لأنه لا ينبغي له ذلك فكتب الشعر وقال:

وما الدهر إلا من رواة قصائدي إذا قلت شعرًا أصبح الدهر منشدًا


          فاعتدّ بقوّة المخيّلة ورنين الكلمات, وهو ما سنّ عليه الشعراء خطتهم في التاريخ حتى اليوم. يقول شكسبير (كلمات... كلمات... كلمات), ويقول أدونيس (قادر أن أغيّر), فكيف?

          إنه الوهم (الشعر) الذي يصنع حقائقه, وهو مطروح في موازاة الواقع وفي مواجهته, فكلما ضغط الواقع وتشعّب وغدا مهيئا لالتهام كل شيء, حتى المخيّلة, يصبح الشعر أكثر حرجًا, وأكثر دعوة للابتكار والتفرّد, لأنه يأبى أن يكون صدى للواقع, بل لعلّه يصبو ليبدع واقعًا آخر بالشعر, بالمخيلة والكلمات.

          أما الإشكالية الثانية فتتعلق بخصوصية الشعر كأعلى فن من فنون اللغة.

          هنا كل قصيدة جديدة, مبدعة, كينونة إضافية للغة, فيما هي, كينونة وبنية, وطريق, مهما كان موضوع هذه القصيدة, ومهما كان همّها, فكل شعر جميل هو شعر مقاوم بالمعنى الاستراتيجي للشعر والمقاومة.

 

محمد علي شمس الدين