جمال العربية

"مجمعيات"
من طبيعة المجامع اللغوية أن يكون بحثها اللغوي وانشغالها بقضايا اللغة- تيسيرا وتطويرا، ومحافظة على الأصول الصحيحة، اجتهادا في مسايره العصر وحاجاته والمتغيرات فيه- أن يكون هذا كله بعيدا عن تأثيرات الحياة الخارجية لهذه المجامع، وأن يتم في هدوء وروية، وبأخذ أمده الزمني المطلوب حتى لو استغرق الأمر سنوات متتابعة.

وعندما حاولت جمهرة المشتغلين بهذه الأمور، المنتظرين لرأي إلمجمع فيها أن يقتربوا من ساحة هذا العمل الدءوب، أمكنهم أن يلتمسوه في مصادر عدة

وبالنسبة لمجمع اللغة العربية في القاهرة، فهناك مجلة المجمع الفصلية، ومجموعة القرارات المجمعية في الألفاظ و الأساليب على مدى أكثر من نصف قرن، ومجموعة القرارت العملية، وكتاب الألفاظ والأساليب، وكتاب أصول اللغة والمعاجم المتخصصة وغيرها من مطبوعات المجمع التى يمكن العودة إليها والإفادة من ثروتها الفكرية واللغوية المتراكمة منذ قيام المجمع عام 1934 حتى الآن.

من بين صفحات هذا السجل الحافل، ما أقره المجمع- منذ سنوات- تماشيا مع خطته في إجازة استعمال بعض الألفاظ غير العربية (التي يسميها الأعجمية) عند الضرورة على طريقة العرب في تعريبهم، وتماشيا مع مقتضيات الحاجة العملية والعملية، وذلك بالنسبة لهذه الأفعال التي جرى بها الاستعمال، لمجيء الاشتقاق على وزن عربي صحيح، ولكونه سائغا في الذوق:

بَسْتَرَ: وهو مأخوذ من "باستير" العالم الفرنسي، صاحب الطريقة المعروفة في التعقيم.

بَلْوَر: مر البلور، وهي كلمة عربت قديما

تَلْفَن: من التليفون

فَبْرَك: من الفابريكة. والمراد بالفعل: صنع الشيء بواسطة الآلة ( وإن كانت الكلمة أصبحت لها دلالة أخرى في العامية المصرية تدل على الاختلاق؟ الكذب أو عدم الإتقان ).

جَبَّسَ: من الجبس (وهو من مواد البناء) معرب

كَهْرَب من الكهرباء، وقد أقر المجمع - من قبل- تعريب الاسم.

دَخَّن : من الدخان (ويطلقه المحدثون على التبغ) والأصل في تعبير دخن : دخن على إحراقه. وهو من قبيل المجاز.

تَجَلَّط: من الجلطة (وهي في الأصل الجرعة الخاثرة من اللبن الرائب) ثم توسع فيها المحدثون فأطلقوها من باب التشبيه على الجرعة من الدم إذا تخثر، وقد اشتقوا منها تجلط إذا تخثر.

وقد سبق هذا القرار المجمعي مناقشات طريفة ومستفيضة بين علماء المجمع، وبحوث قدمها بعضهم، من بينها البحث الذي، ألقاه العالم الفلسطيني الراحل الدكتور إسحاق موسى الحسيني عضو المجمع حول تعريب بعض الكلمات الأجنبية التي شاعت و لغتنا المحكية بحيث تكون دالة على المراد بصورة لا تؤديها بها لفظة أخرى، في دقة دلالتها، مع مرونتها بالصورة التي تمكننا من أن نشتق منها ما تتطلبه الضرورة من مصدر وفعل واسم فاعل واسم مفعول، قياس على الألفاظ العربية الأصلية. ومعنى هذا الكلام أن نأخذ الكلمة الأجنبية فنعربها، ونصوغ منها كلمات عربية تلائم الاستعمال.

مثال ذلك كلمة "بنسلين": لا يمكن ترجمتها أو وضع مقابل لها في لغتنا، يمكننا أن نشق منها- أي ونصوغ منها كلمات أخرى، فنقول: بنسله، وبنسل، ومبنسل، ومبنسل

وكلمة بستر. وهي مشتقة من اسم علم هولويس باستير، واللفظة شائعة على الألسنة ومكتوبة على زجاجات اللبن المبستر. وهي مما لا يمكن ترجمته، ويمكن أن نشتق منها فنقول: بستر، يبستر، بسترة، مبستر، ومبستر.

ولا يمكن أن نحل محلها لفظة عقم،.لأن التعقيم هو قتل مت في الشيء من. الجراثيم بأية، وسيلة، في حين تحدث البسترة بغلي السائل حتى- درجة حرارة معينة ثم تبريده فجأة

كذلك تليفزيون: وهم اسم شائع شيوعا لا سبيل إلى إلغائه، يمكن أن نشتق منه فنقول: تلفز، يتفلز، تلفزة، ومتلفز، ومتلفز.

وكلمة تليفون: وهي أفضل من لفظة "هاتف" المستعملة في بعض البلاد العربية، لأن "هاتف" تستعمل اسما فحسب، ولا يشق منها فعل، في حين يمكننا أن نشتق من كلمة تليفون، فتقول: تلفن، يتفلن، تلفته، ومتلفن، متلفن إليه، وجميع هذه الألفاظ تدور على الألسنة بيسر.

كذلك بلور: يقال في الكتابة المعاصرة: تبلورت الفكرة في رأسه، وفكرة غير مبلورة. ويمكن أن يشتق منها فيقال: بلور، يبلور، بلورة، وتبلور، يتبلور، تبلورا، ومتبلور ومتبلور، والمعنى صار شفافا كالبلور.

كذلك كلمة "إسفلت" المأخوذة عن الإنجليزية والمشتقة بدورها من اليونانية "اسفلتوس" وهي شائعة كلاما وكتابة، ويجوز أن يقال: سفلت الشارع يسفلته سفلتة ومسلفت ومسفلت، بمعنى وضع الإسفلت عليه

كذلك كلمات: فبرك يفبرك من الفابريكة، وجبس من الجبس، وشحم السيارة من الشحم، جاء في المعاجم: شحم القوم أي أطعمهم الشحم.

وقد علق الدكتور طه حسين رئيس مجمع اللغة العربية السابق على هذا البحث الطريف بقوله:

إن من خصائص المجامع اللغوية أن تكون بطيئة، وأن تكون متمنعة أشد التمنع قبل أن تتخذ قرارا، فالأناة خير دائما والعجلة من الشيطان.

وأحب أن أذكركم بهذه المناسبة أن كلمة "شيك " يقال إن أصلها عربي هو "صك" وقد استعملت كثيرا عند الإنجليز واستعملها الفرنسيون أكثر من خمسين عاما قبل أن يقرها المجمع اللغوي الفرنسي ويوافق على أن تدخل في معجمه.

من هنا كان إقرار المجمع لبعض ما جاء في بحث الدكتور إسحاق موسى الحسيني- وهو ما وضعناه في صدر هذا المقال- وعدم موافقته على البعض الآخر، لأن الأغلبية من بين العلماء لم تقتنع بحججه فيه.

وقريب من هذا السياق ما حدث من مناقشات طريفة سجلتها محاضر جلسات مجمع اللغة العربية حول المصطلح الموسيقي " بشرف "، وكان موضوع المناقشة الرئيسي تعريب المصطلحات الموسيقيه.

فقد رأى المجمع أول الأمر أن توضع له لفظة الهلل، أي أول المطر.

وعندما تساءل بعض الأعضاء عن أصل كلمة بشرف، أجيب بأن هذه الكلمة فارسية الأصل وهي "بيش راو" ثم استعملها الترك في لغتهم بتصرف قليل، فصارت في لغتهم "بشرف"، معناها: إلى الأمام.

ثم اقترح بعض الأعضاء تعريبها بكلمة " المقدمة "، فرد على ذلك بأن المقدمة كلمة عامة تصلح لأي شيء. ثم أضاف بعض الأعضاء أن الصدر الأعظم- في عصر الدولة العثمانية- كان يتقدمه من يفسح له الطريق وكان هذا الشخص يسمى "بشرويش" أي المقدم.

وأخيرا استقر رأي المجمع على تعريب المصطلح الموسيقي بشرف بالمطلع، والذي يقابل الكلمة الإنجليزية: introduction .

على باب الربيع:
" سواقي أبريل
"
للشاعر: محمود حسن إسماعيل

محمود حسن إسماعيل أحد أضلاع المثلث الشعري الكبير الذي حمل عبء الحركة الشعرية في مصر، منذ ثلاثينيات هذا القرن، والذي يضم معه إبراهيم ناجي وعلي محمود طه. وفي شعر هؤلاء الثلاثة يتمثل ميراث الحياة الشعرية منذ مستهل القرن، بدءا بكلاسيكية شوقي وحافظ ومطران ووجدانية جماعة الديوان، العقاد والمازني وشكري، ورومانسية جماعة أبوللو- التي كانوا من نجومها الشعرية- وتجديدية المهجريين: جبران ونعيمة وأبي ماضي والمعلوف وغيرهم.

ويتميز محمود حسن إسماعيل عن رفيقيه بامتداد مساحة العمر (1909- 1977) التي أتاحت له إنجازا شعريا أكبر يتمثل في دواوينه المتتابعة: أغاني الكوخ، هكذا أغنى، الملك، أين المفر، نار وأصفاد، قاب قوسين، لابد، صلاة ورفض، هدير البرزخ، نهر الحقيقة، موسيقى من السر، وصلاة إلى الله.

كما يتمثل هذا الإنجاز في معمار قصيدته المحكم، وأبنيته السامقة، وقدرته الفائقة على التصوير والتجسيد، ومعجمه الشعري الحافل بالدلالات والرموز، المرتبطة بطقوس الحياة في صعيد مصر وريفها. وبثقافته العربية الإسلامية، وشمولية نظرته إلى الإنسان والحياة والكون.

وهذه القصيدة " سواقي أبريل " التي وضع الشاعر لها عنوانا جانبيا هو "على باب الربيع" تمثل حقيقته الشعرية ولغته وعالم تصوراته وأخيلته، التي جعلته أكثر شعراء زمانه تأثيرا على الحركة الشعرية من بعده، خاصة الشعراء الرواد في حركة الشعر الجديد- في مصر والعراق- الذين اعترفوا بعمق تأثيره، وبخروجهم من معطفه الشعري.

فالقصيدة التي تبشر بالربيع، ربيع الحب والحياة والطبيعة، يمتلئ معجمها- في الوقت نفسه- "بالكفن" و"يدفنني و "الهشيم" و " الرماد" و " الغروب لما و " المكفن " و " سكتتي " و " قبري " و " النعش " و " الدمن ".

وتتحدث عن ذكرى الشاعر الذي مر غريب السكن.

ترى أكان الشاعر يستشعر في أعماقه- بفضل شفافيته وقدرته على استقراء المجهول- أن رحيله عن عالمنا مرتبط بهذا الشهر الذي يتحدث عنه: شهر أبريل، وأن لحظة النهاية ستوافيه وهو على أرض الكويت- حيث كان يعمل خبيرا في إدارة بحوث المناهج في وزارة التربية- في 26 أبريل 1977. فكأننا- بهذه القصيدة- نحتفل بذكراه الخامسة عشره.

وهي دعوة إلى إعادة قراءة واحد من شعراء العربية الكبار:

ضج الهوى في بدني... فهل نزعت كفني؟
وسقت فجرا من زمان الحب فوق أعيني
وجئتني بالسحر والماضي الذي بددني
ونشوة لم أدر إلا أنها توقظني
وتطلق الريح لآفاقي وتزجي سفني
***
ضج الهوى في بدني... فزلزليني، واسكني
وأحرقي كل هشيم في الحياة لفني
وكل صمت راح في رماده يدفنني
ويغرس النسيان في كل تراب ضمني
سوقي إلى قلبي عذابا خالدا يرحمني
ويترك الأيام حولي لاهيات المحن
ضخ الهوى في بدني، وشب حولي زمني
وشعشعت بالوجد ناري، وتلظت فتني
بالله ياكاهنة الحب أعيدي أرغني
وباركيني واهتكي الستر الذي حيرني
وأيقظني الأوتار من رقادها المكفن
هذا رمادي ضارع، يسأل: من أوقدني
ومن أدار سكتتي سواقيا للفتن؟
ومن بكأس كنت قد حطمتها جرعني
وينبت الزهر على قبري جديد الفنن
أبريل دير العاشقين من سحيق الزمن
سمعته يتلو المزامير، فهل يسمعني؟
أواه من خطاه.. من سحر بها أرعشني
الجو سكران. ألا من رشفة تسكرني
والدوح نشوان، ألا من نشوة تنعشني
والطير مبهور الجناح، كجفون المدمن
والعشب منضور الصباح كجبين المؤمن
والنخل في بحر الضياء كصواري سفن
والنهر خلد تائه لم يدر أي وطن
والموج ذكرى شاعر مر غريب السكن
لم يرو عنه الكون إلا نغمة في أذن
سألته عن شجوه، فعاد لي يسألني:
أين الغناء العذب من ناي به سحرتني
ساقي الربيع دائر. قم غنة وغنني
واشرب صلاة الحب من كل مكان واسقني
من قبل أن تدور بالعمر سواقي الزمن
فتغتدي، والطير نوح فوق نعش غصن
وأغتدي، والشعر نبع جف بين دمن