الحريات الدينية في لبنان.. بين الحيرة والحرية

الحريات الدينية في لبنان.. بين الحيرة والحرية

«قلتم لي: لا تدس أنفك في ما يعني جارك،
لكني أسألكم أن تعطوني أنفي.. وجهي في مرآتي مجدوع الأنف».
«صلاح عبدالصبور»

أعترف كإنسان، وإنسان لبناني وقد أكون - أو أني صائر إلى أن أكون - نموذجاً للإنسان العربي والمسلم، بما أن نصاب التعدد متحقق في الحالة العربية (أديان ومذاهب وإثنيات أخرى)، وفي الحالة الإسلامية كذلك، وبما أن هذا التعدد مستقطب بالفصال بما يستدعي من حروب دورية دوارة وفتن وكوارث، أعترف بأني ملزم بالحرية، وقد ولدتني أمي حراً، والحرية إذ تتيسر لي بنسبة أو بأخرى، الآن أو غداً هنا أو هناك، تُلزمني وتحفظني.

ولكني خائف، فلست كما أحب ويحب لي من يحبونني من قبيلي أو غيره.. على أنهم ليسوا كما أحب لهم أيضاً.. وإذ قضيت عمري واعداً نفسي أن أتحقق بهم وفيهم كفاء ما يتحققون بي، فإن هناك ما ومَنْ يُلح عليّ ويتوعدني إن لم أعد إلى بيت الطاعة مذعناً لجماعتي المذهبية التي تتعاظم أحلامها ومخاوفها، وأنا لا أخاف عليها إلا منها أولاً ومن غيرها ثانياً، وأخاف على الآخرين منهم ومن غيرهم.. وقد أعجز أو أكف عن الممانعة وأذعن وأستمرئ الإذعان حماية لجسدي ومن دون اهتمام زائد بروحي التي تمر بالجماعة الخاصة إلى الاجتماع العام، ريثما أصبح كارهاً للآخرين مكروهاً لديهم.

وعندما ينقلب الحب إلى بغض وكراهية وبائية نكون قد تخطينا مرحلة اهتزاز الأفكار إلى مرحلة اهتزاز القيم حيث لا ضمان إذ ذاك ولا سلام.

إن إصراري.. واسألوا أمثالي.. على تبادل المحبة وتداولها، أي طلب الحرية وممارستها حواراً تكاملياً ونظم علائق مفتوحاً ومنفتحاً، يُدعى في محيطى المذهبي نقصاً في الولاء أو خيانة أو كفراً أحياناً. علماً بأن قناعتى قد انتهت إلى أن الخلاص الديني أو الأخروي فردي، وتمكنت من قراءة النص الديني التأسيسي على هذه الفرضية مقتنعاً بأن خلاف ذلك هو خلاف لعدل الله تعالى الذي يكتمل به التوحيد. ومن هنا أذهب إلى الآخر من باب فرادته لا جماعته، وأشرع له باب فرادتي لا جماعتي، وقد يتاح لي أن أمارس حريتي في وسط مسيحيي وسطي بين الاستقطابين المسيحيين المتقابلين بحدة، أما في الأطراف المسيحية فأنا ملزم أن أكون في طرف منها أو معه، أي أني بين خيارين فإما أن أتنصل من الشيعة وإما أن ألعن السائد الشيعي السياسي وتداعياته وتمظهراته اليومية خطاباً وسلوكاً.. كما أن بإمكاني أن أفعل ذلك، أي حريتي، وإن نسبيَّة، في بعض الأوساط السنية التي بدأت على شيء ما من السعة ثم أخذت تتضيّق أو تُضيَّق أوتَضيق يوماً بعد يوم.. والأشد ضيقاً بي وبأمثالي الذين يتراجعون أو يختبئون في منازلهم ويعتصمون بصمتهم رويداً رويداً.. هو الحيز الشيعي الذي يتفاقم بخله بالحرية وامتعاضه من القول الحر أو الفعل الحر.

وهو، أي وسطي المذهبي، يسمح لحليفه المؤقت غالباً، السني أو المسيحي أو الدرزي، بأكثر مما يسمح لي، لأن له معه مصلحة، وله عليّ ولاية (إلهية) تعني في المحصلة بأن رشدي الشخصي ليس شأني بل هو شأن القبيل، أي الهرم الواقف على رأسه الذي يفكر لي حتى في أدق الشئون الحميمة والخاصة وهو يعرفني أكثر مما أعرف ذاتي.

و«ما أنا إلا من غُزيَّةَ إن غَوَتْ
غَوَيْتُ وإن تَرشُدْ غزية أَرْشُدِ».

ومتى ترشد غزية؟ لا أدري ولكم تمنينا أن تكون أحزابنا العربية أرقى من غزية وخابت تمنياتنا.

إنفلونزا العصبية

سؤال: هاأنا كشيعي أو لبناني بِدع في لبنان.. أو في غيره.. أم أن هناك من أفراد المذاهب والأديان الأخرى من هو أو هم مثلي؟ نحن في لبنان الآن نزحف أو ندفع دفعاً إلى صورتنا النمطية العتيدة والنهائية، أي أن نصبح عيدان ثقاب في علب مختلفة القياسات والألوان موحدة المشاعر والألسنة، ومتواجهة في تفاصيل الحياة، من طعامها وشرابها إلى لباسها وأشكال وجوهها وفنونها، وصلواتها وجامعاتها وروضات أطفالهم، وأحزانها وأفراحها، وذاكراتها وأحلامها. وكل محيطنا من طنجة إلى جاكرتا موبوء بـ«إنفلوزا العصبية»، ومتجه من حالة القبول العميق أو على مضض بالتعدد والاختلاف، إلى حالة الرفض والتنصل من المشترك للإقامة في المختلف، واختلاق أو استذكار الفوارق لتعلية الحواجز وإعلاء شأن العزلة والانعزال.

ما قد يعني تعطيلا أو تأجيلا إلى أجل بعيد، لتيار أو تيارات الاعتدال والوسطية التي لم نتمأسس حتى الآن بحيث تتراكم منجزاتها وبالتواصل والتعارف والحوار، ما جعلها عرضة للابتزاز والانشقاق والاستلحاق، على طواعية مرة وراغمة مرة أخرى، وفي حين أن التطرف كان ولايزال مشكلة الاعتدال، فإن الاعتدال لم يصل إلى كونه مشكلة حقيقية للتطرف الذي يتكاثر كالفطر ويسوّغ بعضه بعضاً ويسوّغ الراهن منه ما يأتي.

إن هناك أسئلة أولى لابد من المراوحة على طرحها على ألا تتكفل هذه المرة حساسية بعينها في الإجابة عنها، إذ لابد من ورشة معرفية تؤمن الجواب المركب والمفتوح على واقع إشكالي مركب ومفتوح، ومن هذه الأسئلة: هل يمكن تصور التعدد من دون حرية أو حرية من دون تعدد؟ وهل يمكن تصور التعدد من دون دولة جامعة لا تختزل نفسها في مكون من مكوناتها، وتحيا على الحوار بين مكوناتها وبينها وبين مكوناتها بدل التعيش على السجال أو الصراع الذي يغذي استمرارها المحدود والقلق بـ«الكورتيزون» ويعطل جهاز إنتاج المضادات الحيوية في جسمها وجسم اجتماعها؟

وهل يمكن أن تكون الدولة الجامعة إلا دولة تبادلية تداولية؟

إن باستطاعتنا الاتفاق على أن إبطال أو بطلان أو تراجع الدولة فكرةً ودوراً ومعنى هو إبطال للتعدد، وإبطال للحرية تبعاً وبالضرورة، لا لمصلحة الحرية إذن، ودعك من «برودون» وسائر الفوضويين في التاريخ. ولا لمصلحة وحدة الاجتماع الوطني العام، لأن الاجتماع لا يجتمع إلا في دولة، ومن الضروري أن يرقى في لحظة من اجتماع أهلي مساعد للدولة إلى اجتماع مدني تحت سقف الدولة والقانون ليسد الفراغات الناتجة عن انحسار دور الدولة في إدارة الشأن العام بسبب اتساعه المتوالي، وبالتالي يكمل الدولة وإن كان ظاهرا يوازيها، ولكنه لا ينقضها وإن عارضها.

إن الوحدة بمعناها التام مفهوم باطل ومستحيل وهو يحتاج إلى عنف كثير ويولد عنفاً أكثر (يوغوسلافيا مثلاً).

الدولة والتحضر

ولكن الوحدة التي نحن مدفوعون إليها، ليست هي تلك الوحدة المحال، بل هي الطوائف على حساب الوطن والاجتماع الوطني والدولة الوطنية، ومعها أو يلازمها غياب الحرية، أو لا يبقى من الحرية ما يكفي لأن تكون حياً، بل تميل إلى أن تصبح كائناً بيولوجياً حصراً، لأن التعدد الوطني أو الحرية أو الحيوية أو الحياة أو المدينة (الدولة) أو المدنية (التحضر) لا يمكن الحفاظ عليها إلا بتعزيز التعدد في المتحدات الطائفية والحزبية.

ما يعني أن وحدة الطائفة هي بديل أو نقيض التعدد الوطني وإضرار بالدولة كضرورة، على أن وحدة الطائفة أساساً لا تقوم إلا على إلغاء حرية أعضائها، وعندئذ، يصبح الحر في طائفته، أو المتحرر من إملاءاتها وضغوطاتها، والمصر على تحريرها بإدماجها لا فصالها، يصبح منشقاً أو مرتداً، والطائفة الأخرى لا تقبله إلا إذا أثبت انشقاقه أو ردته على طائفته من دون أن تكون على استعداد لأن تصبح هي طائفته بصرف النظر عما إذا كان يريد ذلك، وعما إذا كان ذلك صواباً وطنياً أو دينياً.. وهذا يعني أننا وطنيون أو مواطنون بمقدار ما نمارس من خيانة!

لقد نزل الانقسام الاجتماعي في لبنان هذه المرة، كما ينزل الآن في غير لبنان، إلى الاجتماعي واجتاح يوميات البشر وتفاصيل الحياة، فكيف يبقى الوطن بما هو وعي للأرض والكيان والشعب والقانون ومعرفة مشتركة وعيش مشترك، إذا ما انهزم أمام المذهب؟

إذا أصبح المذهب وطناً أو ديناً، ضد الدين بمقدار ما هو ضد الآخر.. وصار الاعتداء تطرفاً كما هو في نظر المتطرفين، وبعض المعتدلين.

إني أمر بشوارع بيروت المدينة العاصمة، فلا تعصمني، وهي كانت لتعصمني لو عصمتها، فكيف تبقى بعدما كانت عاصمة للكتاب وصارت سوقاً؟

والعصمة تعني اللقاء في المعرفة، في إنتاجها والاستمتاع بها وبنشرها، وهذا لا يكون إلا بالشراكة، ولا يمكن أن يكون الماضي على عواهنه الكثيرة محلاً للشراكة، الشراكة تأتي من استشراف المستقبل، وليقل لي أحد ما هو أكثر الكتب انتشاراً في أوساط الطوائف؟ هو كتاب الماضي، هو الكتاب الذي يستدعي الماضي الشقاقي ليؤمن غطاء أيديولوجياً للانقسام والعصبية المستشرية، الأكثر تداولاً هو الثارات والذهول وذاكرة الدم والجهل المتبادل.

ما قلته حتى الآن وبهذه السخونة وهذا الوجع وهذا الخوف من المشهد وخلفياته ومؤشراته هو مشاعري.. هو ما يجيش في صدري ويطفح به قلبي، وحتى لا أتحول إلى قارئ تعزية عاشوراء أو رتبة دفن المسيح، سأجرب وبصعوبة بالغة الانتقال من حرارة القلب إلى برودة العقل، وأنى لي! وما في القلب يصعد دائماً إلى العقل ليصبح العقل قلباً أو كالقلب.. في حين أن ما في العقل لا يهبط دائما إلى القلب.. (إن القلوب مواطن الأوطان).

وإني أسأل الباحثين عن ضمانات حقيقية للانتماء الوطني، هل صحيح أن هناك.. أو أنه كان هناك إشباع بالحرية في لبنان؟

قد يكون، ولكن أرجو أن تلتفتوا إلى أن كثيرين يعتبرون ذلك فضيلة من فضائل الطوائف!

هذا في حين أن الحصيف يرى أن تراجع دور الدولة الجامع والمانع، إلى أبعد مما يقتضيه قيام المجتمع المدني بدوره المكمل لدور الدولة، هو الذي أعاد اللبنانيين إلى هوياتهم الفرعية حيث يمارسون ما يشبه الحرية.

إن المدقق يرى أنه في منعطفات متكررة ومتسارعة في العقود الأخيرة من تاريخ لبنان، تتعاظم وتتسارع جاذبية الاستقطاب المذهبي الحاد والفصالي، الذي يلازم أو يتفرع عن تراجع مشروع الدولة ويؤشر على بداية تراجع فكرة الدولة في وعي اللبناني وانتظاراته، وإن كان يبدو أنه في هذه المنعطفات كأن الحرية تكاد تعني التنافس اليومي على مخالفة القانون والدستور والميثاق وأنظمة العلائق الطبيعية بين المواطنين أفراداً وجماعات، وصولاً إلى الطلاق البائن مع الثقافة المجتمعية المنتجة على أساس الشراكة واتساع المساحات البينية في الحياة والعمل، وانتهاء بممارسة أقصى وأقسى أشكال الإقصاء والإلغاء والعنف المباشر وغير المباشر على أساس من تقديس الذات المذهبية وأبلسة الآخر.

الحرية والفوضى

ألا يعني ذلك أن ما نشاهده في لبنان، ظاهره الحرية وباطنه أو واقعه الفوضى؟ وإن كان هذا الواقع مموهاً في الماضي بعيد الاستقلال وحتى عام 1958، فإنه أصبح اليوم سافراً ومستأثراً بالمشهد وخلفياته وإحتمالاته، ومن احتمالاته انحصار الحرية النسبية أو السلبية، أي الحرية ضد الآخر، كما في الانتخابات النيابية الأخيرة مثلاً - في حدود الحيّز المذهبي الذي أصبح عرضة لاستبداد أشد وأدهى وأمر.

وعليه فإن بإمكان من يريد أن يبطل الادعاء بأن التعدد الديني في لبنان هو مصدر الحرية أو أحد أهم مصادرها، أن يفعل، من دون اضطرار إلى القياس على أحوال مماثلة نسبياً، في بلدان أخرى عربية أو إسلامية أو مشرقية، هي أقرب إلى الأحادية من التعدد، ما يسوغ لها الاستبداد أو يسهله عليها، أو يتيح لسلطاتها تضييق مساحة الحرية أو تزييفها أو إفراغها من مضمونها أو اختزالها في الشخص أو في الحزب، في الحزب الواحد أو حزب الواحد.

وعليه، فإن التعدد الديني موضوع عملياً في مقابل المدينة وطريقة إدارتها ونظام حياتها وعلائقها، وبالمحصلة يصبح التنوع الديني على الضد من الحرية، ألا نعلم أن الخطاب الديني خطابان، خطاب توحيد وخطاب تغريد، والأول مفعول أو مفتعل والثاني هو الذي يفعل أو هو الأفعل! هو الأفعى!

هل يعني ذلك أن العلمنة هي الحل؟ ولكنها لم تكن ناجعة في تجارب عدة وقد مهّدت للأصولية في أكثر من مكان هنا وهناك وقد كان الاستبداد العلماني كما في العراق أشد وطأة من الاستبداد الديني، أو الاستبداد المختلط أو الملتبس بالدين.

تقديري أنه لا بد من نظام معرفي جديد، هذا إذا اتفقنا على أن النظام السياسي يقرأ في النظام المعرفي، الذي قد تكون المعرفة فيه لا معرفة، لابد من معرفة علمية مفتوحة على النقد والتنمية الدائمة بشأن الدولة والاجتماع والحوار التكاملي بينهما باعتبار أن كلاً منهما ضرورة للآخر، وبشأن الجدل المبدع بين الثروة والمعرفة أي تحويل الثروة إلى معرفة والمعرفة إلى ثروة، على أساس أن التنمية الشاملة هي الحل، ولأن الإشكاليات تتراكم وتتجدد فإن التنمية هي إنجازات متواترة ومترادفة من دون قطيعة إلا في حدود ما يقتضيه المستجد المعرفي أو الحياتي، أي القطع والوصل، أو الاستيعاب والتجاوز.

هذا النظام، أو هذه المعرفة، تحتاج إلى كتلة معرفية متعددة الحساسيات لتنميتها من خلال تحرير المساحات المشتركة بين حقول المعرفة المختلفة، هذا من أجل أن نبدأ من مكان آخر، من مكان وخطاب وفعل يغري مجتمعاتنا بالديموقراطية والحرية أو نظام الحريات، بعدما تحول تكرار الاستبداد إلى موروث جيني لابد من معالجته بتكرر فعل المعرفة والحرية، حتى يتحول بالتدريج إلى موروث جيني بديل.

وعليه، وكما ذكرت سابقاِ، فليس الأمر كما توهم كثيرون وأنا منهم، من أننا مدينون بما نسميه حرية أو يشبه الحرية للتعدد الطائفي، لأن التعدد الذي يشعر بالحاجة إلى الحرية وينتجها هو التعدد الطبيعي، والتعدد الديني يأتي مما وراء الطبيعة، وحتى لا يكون مقاماً للقسمة يجب أن تذهب إليه مما تتفق عليه أنت والآخر من أفكار وقيم الحياة، وحينئذ تجد الغيب في انتظار الشهود وتجد السماء مهمومة ومنهمكة بالأرض وأهلها، وتجد الآخرة في الدنيا لا الدنيا في الآخرة.. وعليه فليس صحيحاً أن أي طائفة في لبنان مثلاً ليس بإمكانها أن تمارس حريتها لولا وجود الطائفة الأخرى، لأن الحرية إذا أعطيت للطوائف، بما هي طوائف لا على أساس المواطنة، أغرتها بالغلبة، فإن كان حجمها أو شروطها الإقليمية لا تمكنها من الغلبة، تقاذفتها الطوائف الأقوى أو هشمتها وراكمت الخوف والريبة.. والضغينة.

الوحدة بالتعدد

هذه ليست دعوة متسرعة لإلغاء الطوائف، وإن كان هناك من الطوائف من يريد الخلاص من طوائف أخرى، طمعاً بمجتمع (نقي) لا يلبث أن يبتلى بعنف أشد فتكاً في داخله، ما يعني أن أمن الطوائف هو في وجود الطوائف، لا في إلغائها ولا في إبقائها خارج نصاب المواطنة.

كما أني لا أريد أن أرى علاقة سببية بين الطوائف ونقص الحرية أو تزويرها، وإنما هو التلازم الذي يلزم بالحل، مفترضا إمكانه حتى لا يتحول إلى مقيم دائم الإقامة، إلى أن يرحل الوطن من المواطن أو المواطن من الوطن، وعليه، فإن حرية الطائفة تكاد تساوي أو توازي الإضرار أوالانتقاص أو إلغاء حرية الطائفة الأخرى، وهذا قد يفسر الرغبة المتفاقمة بتبادل الغلبة لدى مجموع الطوائف كلما سنحت الفرصة لإحداها.

في لبنان، يرقى السؤال إلى ما هو أشد فتكاً بالحلم اللبناني فضلاً عن الذاكرة، أم ذلك الحلم، الذي يختزن لبنان الرسالة، أي جعل الائتلاف حاكماً على الخلاف والاختلاف، أي إثراء الوحدة بالتعدد وصيانة التعدد بالوحدة، على أساس الحرية كشرط إنساني ووجود وشرط حيوية وإبداع، وعلى أساس أن المتعدد المحكوم بالوحدة يئول إلى الاجتماع وإن افترق، أما الواحد المستقطب بالفصال، فإنه يئول إلى التشظي شكلا ومضموناً أو مضموناً على انتظار الشكل (الانفصال) - وإن اجتمع - مثال الصومال، وأمثلة أخرى على لائحة الانتظار.

وعليه، فإن الفارق النوعي بين النموذج اللبناني والنماذج الأقرب إلى الأحادية أو ضآلة نسبة التعدد فيها. هذا الفارق يصبح فارقاً افتراضياً أو غير فعّال، مادام الواحد أو المتعدد يئول إلى إلغاء الحرية بالاستبداد مرة وبالحرية - أي ما يشبهها - مرة أخرى. وهل من حل؟ أدعو للحفاظ على شيء من الرجاء أو استنبات الأمل بالبحث عن مساحة محتملة الإخصاب في تربة الاجتماع اللبناني وغيره وما تبقى من جوامعه، عن مشروع غير متسرع تحمله كتلة تاريخية تشبه التي حملت الاستقلال أو الاستقلالات، وتعتبر نفسها في حالة إعادة تأسيس. إنها في المحصلة دعوة إلى تواطؤ آخر بين المدنيين اللبنانيين وغيرهم متدينين وغير متدينين مع لبنان وغيره، وضد البادية ومن دون ضرورة إلى التنصل من طوائفهم.

التواطؤ على مشروع وطني بشروطه العربية بمعنى الهوية المركبة وأنظمة المصالح لا الاختزال العرقي ولا السخرة القومية، مشروع مدني يعتمد الوسطية أو النسبية في كل شيء، موقعاً للرؤية، والاعتدال في كل شيء ودائماً مسلكاً ونهجاً، والتشويه الدائم حلاً وأسلوباً، في معالجة التحديات والنزاعات، على حداثة لا تحديث فقط أي على شكل ومضمون حداثي، حداثة موصولة غير مجتثة ولا مجففة، متصالحة متثاقفة وغير متماهية مع الكل حتى الغرب، موصولة بالذاكرة وبالحي من الموروث أو القابل للحياة، تستشرف المستقبل من دون قطيعة مع الماضي بالنقد والوعي إلى أن يكون شرطاً في استقبال الآني لا استدباره.

كأني وصفت لبنان الرسالة مرة ثانية! لابد من رسالة ولبنان مرشح دائم لكتابتها وحملها ونشرها.

 

 

 

هاني فحص