رحيل يوجين يونيسكو: لا.. هي الطريق الأوحد نحو الأفضل محمود قاسم

رحيل يوجين يونيسكو: لا.. هي الطريق الأوحد نحو الأفضل

ظنناه مات منذ زمن طويل.. ترددت هذه العبارة مجددا عندما أعلن عن موت الكاتب المسرحي المعروف "يوجين يونيسكو" في أواخر شهر مارس الماضي. وقد سبق أن ترددت عدة مرات في السنوات الأخيرة كلما مات كاتب مسرحي متميز، كان ملء السمع والأبصار في الخمسينيات والستينيات. ثم دخل إلى دائرة الظل الكثيف.

إذا كانت هذه الجملة مثيرة للدهشة، فإن الظاهرة المرتبطة بها تثير الدهشة أكثر، فلا يعني تصور الناس أن كاتبا قد مات منذ أمد طويل، وهو على قيد الحياة، غير أن هذا الكاتب نفسه قد توقف عن الإبداع، أو أن مدرسته التي ينتمي إليها قد ذاب زمنها مع التاريخ، أو أن الفن الذي يمثله هذا الكاتب لم يعد بؤرة جذب. وهو المسرح بالنسبة ليوجين أونسكو.

وفي حالة الكاتب الراحل، فإن الأسباب الثلاثة تجتمع معا لتفسر تلك الجملة، وأهمها بالطبع هو أن المسرح نفسه لم يعد بنفس القوة التي كان يتمتع بها على كل المستويات حتى أواخر الستينيات. وحتى تلك الآونة، كان الكاتب المسرحي هو النجم الأكثر لمعانا من الروائيين، والشعراء، باعتبار أن آلافا من البشر يجيئون إلى المسرح من أجل رؤية مسرحيته، وذلك أمر يختلف بالطبع عن الفنون الأخرى الأكثر جماهيرية مثل السينما. حيث يأتي الناس لرؤية الفيلم كعمل متكامل يحمل اسم المخرج، والكاتب لا يمكن إغفال نجومه.

وقد ساعد هذا الازدهار على تطور فنون الكتابة المسرحية خلال نصف قرن من الزمان بشكل لم يحدث لهذا الفن منذ بداية تاريخه قبل عشرات القرون. وعلى سبيل المثال، فإن لحظة دخول شاب صغير من رومانيا إلى مسرح دونكنامبلس بباريس في 16 مايو عام 1950 تعد لحظة تحول تاريخية، حين جاء يشهد حفل افتتاح مسرحيته الأولى "المغنية الصلعاء".

عبث مجنون

والمثير حقا في هذا الأمر، أن الجماهير التي قذفت يونيسكو بأقذع الألفاظ والشتائم والسباب، وهاجموه عند خروجه من الصالة لما فعله، وأيضا النقاد الذين تصدوا لهذا العبث المجنون الذي وصفه في هذه المسرحية. كل هؤلاء قد راحوا يخلعون القبعات بعد عشرين عاما بالضبط أمام نفس الكاتب وهو يصبح عضوا في الأكاديمية الفرنسية.

أي أنه خلال فترة قصيرة جدا من الزمن، أصبح هذا الشكل الجديد من المسرح عملا كلاسيكيا، يمكن لصاحبه أن ينضم إلى عضوية أقدم أكاديمية في أوربا، وأكثرها تزمتا.

فقد استطاع يوجين يونيسكو أن يثبت أقدامه طوال عقدي الخمسينيات والستينيات، وأن يثير من حوله التساؤل، وأيضا الإعجاب الشديد، حتى إذا بدأ عقد السبعينيات، الذي شهد أفول المسرح، كان عليه أن يتحول إلى أكاديمي، يثرثر، ويناقش، وأن يمارس أنشطة عديدة ليس من بينها التأليف المسرحي، ولكن كان عليه أن يمثل تارة، ويرسم لوحات تارة أخرى، ويدلي بالأحاديث الصحفية بكثافة ملحوظة. حتى يؤكد للناس أنه لا يزال على قيد الحياة. ولكن هذا لم يمنع أن يردد البعض: "ظنناه مات منذ زمن طويل". ويونيسكو مولود في 12 نوفمبر عام 1912 في قرية رومانية صغيرة، لأم فرنسية وأب روماني. ما لبث أن شد رحاله مع أسرته الصغيرة إلى فرنسا، ثم عاد بعد اثني عشر عاما إلى بوخارست. وهناك التحق يوجين بالمعهد الفرنسي، وتعرف على صديق عمره الفليسوف سيوران. والذي دفعه لأن يسافر إلى فرنسا. وقد شجعتهما على ذلك القلاقل السياسية التي كانت تشهدها البلاد، رغم ظاهرة الانفتاح الثقافي على الغرب. وقد اعترف الكاتب في مقالاته المنشورة في كتاب يحمل عنوان "لا" أنه بين عامي 1918، 1938 قامت المؤسسات الثقافية بالانفتاح على الغرب، ودعت أبناء الشعب الروماني إلى فهم ثقافته. وقد ساعد ذلك على هجرة كتاب آخرين إلى فرنسا، منهم الروائي ميرسا الياد. وقد شكل هؤلاء الأدباء ظاهرة تعرف باسم الفرانكفونية الرومانية.

وفي مذكراته التي نشرها عام 1977، أكد يونيسكو أنه قد قرأ الأدب الكلاسيكي في سن المراهقة، ولم يكن أمامه سوى أن يبحث عن أشكال جديدة للفنون، فقد قرأ باسكال، وراسين، وأيضا فلوبير، ثم كافكا، ودوستويفسكي.

من المهم الإشارة إلى أن أهم أسباب هجرة يونيسكو إلى فرنسا هو تحرش هتلر برومانيا، والتوتر الذي عاشت فيه أوربا في تلك الآونة. ويروي في مذكراته أنه قد استوحى مسرحيته المشهورة "الخرتيت" من شخصية هتلر. ومفتاح الدخول إلى شخصية ومسرح يوجين يونيسكو، ليس فقط فيما أطلق عليه "العبث" بل باستخدام لفظ "الضد" في كل شيء، السياسة، والفن، والحياة، وقد بدا هذا في مقالاته التي نشرها في رومانيا تحت عنوان "لا" وفي مذكراته يرى أنه كان دائما ضد كل الأشكال: الشيوعية، والحكومات، والثورة، والنازية، والمجتمعات التقليدية.

عالم سخيف ومثير للسخرية

وإذا كان العبث قد بدا من خلال سلوك "ميرسو" في رواية "الغريب" لكامي، كئيبا، يتشح بالحداد والسواد والإلحاد، فإن يوجين يونيسكو قد حول عبثه إلى حالة من السخرية من كل شيء، ابتداء من مسرحيته الأولى "الكراسي" التي عرضت عام 1950 ومرورا بأعماله الشهيرة ومنها "المغنية الصلعاء" و"قاتل بلا أجر" و"الخرتيت" و"جاك أو الامتثال" و"قاتل بلا أجر" و"الدرس" و"الملك يموت" وغيرها من الأعمال.

رأى يونيسكو أن العالم لا يمكن أن نأخذه بشكل جدي. فهو يوشك فرط ما به من سخف أن يثير الضحك والسخرية. ولكن هذا لا يعني أنهم يعيشون على هامش هذا العالم، بل هم ينشدون البحث عن معان جديدة لعلاقة الإنسان بالحياة، وعن أشكال مختلفة للكيان الإنساني، عن مبادئ جديدة، ومحاولة للخروج من العزلة التي أصابت البشر بشكل مر حتى في القرن العشرين.

وقد آمن يونيسكو وزملاؤه من كتاب مسرح العبث، ومنهم صموئيل بيكيت، وفرناندو ارابال، وآدمون، وغيرهم، أن الذين وقفوا مع هذا العالم بشكل جاد لم ينجحوا كثيرا، فلماذا لا نجرب السخرية، والعبث. وليس صحيحا أن مسرح يونيسكو هو هروب من الواقع المعيش، بل هو مجابهة لهذا الواقع فحسب الناقد ماثيوجالي فإن مسرحية "المغنية الصلعاء" قد تصدت لحرب التحرير في الجزائر، رغم أنها لم تشر إلى ذلك بشكل مباشر، وكذلك الحال، كما ذكرنا، بالنسبة لمسرحية "الخرتيت".

المسرح المضاد

ومن الصعب الكتابة عن يوجين يونيسكو باعتباره حالة فريدة، بل كان ظاهرة ارتبطت بغيرها من الأدباء الأجانب الذين جاءوا إلى فرنسا، وصنعوا جميعا هذا المسرح. وقد جاء في مجلة "لونوفيل اوبسرفاتور" على لسان الناقد جي ويميرا أن أغلب من ارتبط بحركة العبث جاء من خارج فرنسا مثل "بيكيت"، و"آدمون" ثم "لوي بونويل". وقد حاولوا صناعة ما يسمى بالمسرح المضاد، أو اللامسرح أسوة باللارواية التي اشترك في صياغتها أيضا "بيكيت"، لكن يونيسكو لم يكتب إبداعا غير المسرح.

وفي هذا المسرح كانت للأشياء أهمية لا تقل عن البشر، مثل الكراسي، وفناجين الشاي. وإذا كان كتاب الرواية الجديدة قد اعتبروا أن الجملة الواحدة تشكل عملا دراميا متكاملا، يكاد ينفصل عما قبله، وبعده، فإن كل المسرحيين التجريبيين، لم ينسوا أن المسرح يختلف تماما، وأن على الناس أن تشعر أن هناك حدوتة، وأشخاصا، وأشياء في هذا المسرح. لذا فإن هناك واقعة في كل رواية، وهناك حدثا، وأشخاصا متعددين، قد تبدو تصرفاتهم غير مبررة، ولا منطق فيها، ولكنها في المقام الأول تصرفات، وهم يتكلمون، حتى وإن كان حوارهم يفتقد إلى المنطق، يثير السخرية، أو الرثاء.

ففي المسرحية "المغنية الصلعاء" نرى أسرتين تنتميان إلى البرجوازية الصغيرة الأولى تحمل اسم مارتن، والثانية اسم سميث. وكل من أبناء الأسرتين فقد كل اتصال لهما بالواقع، وبالآخر. ورغم العشرة الطويلة التي جمعت بين زوجين، فإنهما يكادان لا يعرف أحدهما الآخر. وأصبحت السمة الغالبة في حياة كل منهما هي التكرار.

هذا التكرار يكاد يجعل من كل منهما ترسا يدور في نفس الفلك ويفعل نفس الشيء، ورغم ذلك فليس من السهل عليه أن يتغير إلى شيء آخر.

الخرتيت ينتشر بين البشر

وحول علاقة البشر بالروتين رأينا الكثير من شخصيات يونيسكو يتكرر وجودها في مسرحياته، ومن أبرزها "الخرتيت" فـ "بيرانجيه" موظف صغير، وعلى الرغم من ذلك فإنه لا يستطيع أن يتكيف مع آلية العمل. وهو على خلاف دائم مع زميله "جان" الموظف الممتثل، الذي يقدس الروتين، ولذا فهو يسدي له العديد من النصائح..

لكن أثناء إحدى المرات التي ينصحه فيها، يسمعان صوت "خرتيت" ينطلق من جوار النافذة "مما يثير التساؤل بين الزميلين" وأيضا بين الناس، عن أسباب ظهور الخرتيت، ولماذا ظهر في تلك الآونة؟ وكأن الكاتب يسخر من أساليب التفكير لدى البشر، فبدلا من الحديث عن مقاومة الخرتيت، راحوا يثرثرون في أسباب ظهوره.

وطوال أحداث المسرحية، ندرك أن الخرتيت ليس حقيقة، بل هو معنى انتشر بين البشر.

وإذا كان بعض النقاد قد أشار إلى أن الخرتيت هو هتلر، فإن نقادا آخرين رأوا أن كلا منا بداخله خرتيته الخاص يطارده، مثل تلك الزوجة التي جاءت إلى مكتب زوجها، وأبلغت زملاءه أن خرتيتا قد طاردها طوال الطريق، ثم نكتشف أن الذي ظل يطاردها هو زوجها.

ولذا فإن عملية "الخرتتة" سرعان ما تنتشر في المدينة، ويتحول الموظف المثالي جان إلى خرتيت، حتى تتلون بشرته بلون أقرب إلى الوحش. وشيئا فشيئا يصبح صوته أجش، ويثقل سمعه.

وتنمحي الذاكرة منه.

ويرى إبراهيم حمادة في مقدمته للأعمال المسرحية الكاملة ليوجين يونيسكو أن معنى هذه المسرحية "واضح كل الوضوح". ويتلخص في أن الكاتب ينعي عدم الاستقلال في المواقف والآراء، وانعدام حرية الفكر والحرية الفردية، مما يؤدي حتما إلى اعتناق الآراء والمواقف الجماعية في صورة أو أخرى. وهذه الفكرة تجدها في مسرحيات أخرى ليونيسكو، فهذا المدرس يطغى بتفكيره على تلميذه في مسرحية "الدرس" وهذا المحقق يلغي شخصيته من أمامه في مسرحية "ضحايا الواجب" وهذا المجتمع يلغي شخصية الفرد في مسرحية "جاك أو الامتثال". ومسرحية "المستقبل في البيض". وقد تحدث يونيسكو عن هذه المسرحية إلى مجلة لونوفيل اوبسرفاتور- 25 ديسمبر 1982- قائلا: "عرضت هذه المسرحية لأول مرة عام 1959 في مدينة دوسلدورف.

وفي العرض الأول كان هناك أكثر من 58 احتجاجا من الألمان. وقد كتب أحد النقاد في اليوم التالي "لقد علمنا يونيسكو كيف أصبحنا نازيين". ولكن الأكثر غرابة أن الجمهور في هذا العرض لم يكن إلا من كبار رجال الصناعة الذين لا يهمهم تمويل نظام هتلر.

"كيف يمكنهم أن يشكروني لأنني شرحت لهم كيف أصبحوا نازيين، وهم يؤمنون بأن "خرتيتي" ليس سوى محاكمة للماضي الذي أسدل عليه ستار النسيان".

رحل يوجين يونيسكو، ومن قبله عمالقة المسرح، من أمثال بيكيت، وجان أنوي، وبدأ هذا المسرح على اختلاف مدارسه يواجه مشكلة العثور على أبناء جيدين جدد، ولم يكن أمام أصحاب دور العرض إلا أن يعيدوا تجسيد النصوص القديمة، بنجوم جدد، وإخراج باهر.. ولكن هيهات، فالواقع اليوم يختلف عنه تماما عندما كانت خشبات المسرح متأججة بالحماس. والرغبة الأبدية في التغيير.

 

محمود قاسم

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




يوجين يونيسكو





يوجين يونيسكو





يوجين يونيسكو