ذكرى الأخطل الصغير عبدالله الأخطل

ذكرى الأخطل الصغير

الشعر هو نبض العربية الزاخر، والاحتفال بذكرى الشعراء
هو احتفال بغناء القلب العربي، لهذا تلزمه الحميمة، وفي
هذا المقال حميمة ابن أديب يتحدث عن والده الشاعر.

منذ البداية كانت البوصلة الأدبية والفكرية للأخطل الصغير بوصلة سليمة، فإذا كان في عصره - وفي كل عصر - مدرستان أدبيتان واحدة محافظة وأخرى مجددة، فإن الأخطل الصغير كان بلا مراء مع هذه الأخيرة، وإذا كان التجديد يعني ببساطة التعبير عن قضايا العصر والناس، والنفس قبل كل شيء، تعبيرا إبداعيا يقطر نضارة وحلاوة، فإن الأخطل الصغير كان ذلك الشاعر المجدد الذي ساهم مع رفاقه من كبار شعراء زمانه في نقل الشعر العربي من حال إلى حال.

ولم تكن بوصلته الفكرية والسياسية أقل سلامة من بوصلته الأدبية، فقد انتمى من البداية إلى أحرار لبنان الذين نظروا إلى بلدهم على أنه دار من ديار العرب، وإلى مواطنيه على أنهم إخوة في المصير الواحد لا يفرقهم مذهب أو طائفة، ومع أنه كان نصرانيا يفخر بما أداه النصارى عبر التاريخ لبني قومهم العرب، فقد كان معتزا في الوقت نفسه بانتمائه إلى تراث العرب والإسلام، كما كان مناضلا وطنيا وقوميا سواء في سيرته أو في شعره.

فالذي قال في حفل تكريم أقيم له في دمشق زمن الرئيس شكري القوتلي، مذكرا بآل جفنة النصارى الذين حكموا الشام:

إني وقفت بها أسائل عن فتى

من آل جفنة رائح أو غاد

الحاملين الشمس فوق وجوههم

والحاملين الشهب في الأغماد

رفعوا الشآم على الصفائح والندى

وبنوا من الصلبان بيت الضاد

هو نفسه الذي قال في ذكرى جلوس الملك عبدالعزيز في الرياض:

يا شعر كم لك عندي من يد ويد

معسولة المجتنى موفورة النعم

آمنت بالشعر حسب الشعر مفخرة

إن أيد المصطفى في الموقف الجهم

فراح حسان يزجي كل صاعقة

لم تبق للكفر صرحا غير منهدم

حتى تهلل وجه الحق تغمره

روح الرسول ودالت دولة الصنم

آمنت بالشعر أخلاقا ومعرفة

سبحانك الله من علمت بالقلم

ولد بشارة الخوري المعروف بالأخطل الصغير عام 1890 في بيروت، ودرس في مدارسها الوطنية، ومنها مدرسة "الحكمة" التي زامل فيها بعضا من رفاقه الذين أصبحوا أدباء وشعراء كبارا كجبران خليل جبران ووديع عقل، وفي مدرسة الحكمة بدأت براعم الشعر تتفتح في مخيلته، كما بدأت روحه تقوم بأولى جولاتها على مدارج الإلهام، وكان يقول إن الفضل في تنشئته الأدبية والعربية يعود إلى مدرسة الحكمة التي قال فيها مرة:

قل لوكر النسور قدست وكرا

كل يوم تهدي إلى الأفق نسرا

يحمل الحق مشعلا بين عينيه

فإن يحترق فقد مات حرا

وككل شاعر كانت بداياته الشعرية متواضعة وله ديوان من بواكيره ظل مخطوطا اسمه "الوتر الجريح" فكر يوما في نشره، وأعطاني أوراقه فطبعته له على الآلة الكاتبة، كانت بيني وبينه مودة خاصة، فأنا أكبر الثاني من إخوتي بثلاث عشرة سنة، وعندما بدأنا ذات يوم نقرأ معا قصائد "الوتر الجريح" التفت إلي وسألني رأي فيها، فلذت بالصمت، قال لي: أنا أرى أنني لم أصبح الأخطل الصغير فيها، فما رأيك؟ وعندما وجدني غارقا بالصمت من جديد، قال لي: احرق هذه القصائد.. وهكذا كان.

لقد كان رأيه أن الأشياء التي ينبغي أن تترك للتاريخ هي الأشياء الجميلة، وأن على الشاعر أن ينقي شعره، وألا يبقي في ديوانه إلا الرفيع والفذ من الشعر.

وعندما أعلن الدستور في تركيا أنشأ في بيروت جريدة أسماها "البرق" كان ذلك عام 1908 وهو في التاسعة عشرة من عمره، فالشعر عنده ترافق مع الصحافة، ويبدو أن الشعر لم يسلس له قياده إلا بعد وقت، وقد روى أنه كان يتردد في شبابه إلى الحلقات الأدبية في بيروت ومنها حلقة كان يتصدرها أديب بارز من أدباء تلك الحقبة هو الشيخ إسكندر العازار، "وكنت أقرأ على الشيخ قصائدي فيتناولها بالنقد اللاذع ويردد: لن تكون شاعرا يا بشارة، أنت صحفي، دع الشعر لسليم، مشيرا إلى سليم العازار أحد أعضاء الحلقة، وذات ليلة كنا في مقهى من مقاهي بيروت البحرية نجلس حول الشيخ، فالتفت إلي فجأة، وقال: هات ما عندك يا بشارة، فقرأت عليه قصيدة لا أذكرها، فلما انتهيت تبسم وهو يحمل صدفة من صدفات التوتياء يعمل سكينه فيها ويتناول لحمها اللذيذ، وقال: شعرك مثل التوتياء هذه: جزء من اللحم اللذيذ، وتسع وتسعون جزءا من الصدف الشائك الذي لا يصلح لغير... وهنا توقف عن الكلام ونظر إلي ساخرا ورمى الصدفة في البحر، إلى أن جئت الحلقة ذات يوم بقصيدتي التي مطلعها:

عشت فالعب بشعرها يا نسيم

واضحكي في خدودها يا نجوم

فصفق لها الشيخ وهلل ثم ربت على كتفي قائلا: "ظل بشارة يهذي حتى نطق بالشعر أخيرا".

الجرائد مناشف للصحون

كانت مكاتب "البرق" في أيامها ملتقى كبار أدباء العرب وشعرائهم، كما كانت صوتا وطنيا وقوميا صارخا، وقد كتب مرة المؤرخ اللبناني يوسف إبراهيم يزبك يقول: إن الجامعة العربية ولدت أول ما ولدت في إدارة جريدة البرق في بيروت في أوائل هذا القرن قبل ولادتها الرسمية عام 1945، في إشارة منه إلى توجهها القومي وجمعها رجالات العرب الكبار من كل أقطارهم في مكاتبها وعلى صفحاتها، وقد وصف الشاعر الشيخ أمين تقي الدين مقرها في بيروت على الصورة التالية:

"ما رأيت كإدارة البرق فيما رأيت إلى اليوم من إدارات الجرائد، فلا هي إدارة جريدة ولا هي ناد أدبي، ولا هي قهوة للمنادمة ولا هي خان للمسافرين، ومع ذلك فقد عرفتها مصدر البرق ومجلس الأدباء، جئتها في الصباح وقد تمشت على مقاعدها أشعة الشمس وطافت في أنحائها حرارة الصيف فظننتني جئت مغارة من جهنم لولا أني رأيت فيها قوما جلوسا إلى مديرها عهدتهم إخوان الملائكة على الأرض، ومن ذا ينكر قدسية الشيخ العازار وتقى ابن ثابت وطهارة ابن الخوري، وأتيتها عند الظهر فإذا بمائدتها الكبرى المغطاة أبدا بالجرائد والمجلات لتفكهة الزائرين وتسليتهم قد تحولت إلى مائدة للأكل، وصارت المجلات صحفا للحم، والجرائد مناشف للصحون، وزرتها في العصر، فإذا بإخوان الأدب قد التقوا فيها كأنهم على موعد، وكأنما هي مزار يتبرك به، فهناك الأديب التاجر والأديب العامل والأديب الطبيب والأديب المحامي وحملة الأقلام من كل صنف وطراز، وإني لأكتب الساعة على مكتب مديرها فما أقف إلا ريثما أصغي إلى أبيات من الشعر ينشدها الأستاذ الزهاوي شاعر العراق لأستاذنا العازار أو ريثما أعي فكاهة العازار إثر فكاهة".

ولكن البرق اضطرت مرارا للتوقف حتى احتجبت اخيرا، فقد اضطرت للتوقف أول مرة عندما أرسل ذات يوم محمد كرد علي رسالة إلى صاحبها طلب منه وبصورة عاجلة إحراق كل ما تضمه إدارة البرق من وثائق ومستندات تدين الشاعر ورفاقه الوطنيين المناضلين ضد السلطة العثمانية، والتواري فورا عن الأنظار.

كان محمد كرد علي يعمل يومها، وقبل أن يصبح عضوا مؤسسا في مجمع اللغة العربية بدمشق، في الإدارة العثمانية في بعبدا قرب بيروت، وكانت تربطه بصاحب البرق صداقة متينة، فأرسل إليه مع صديق مشترك لهما هو جرجي نقولا باز الرسالة التي أشرنا إلى مضمونها آنفا، فما كان من الشاعر إلا أن أحرق كل وثيقة لها صلة بنضاله ونضال إخوانه، واستأجر عربة خيل أو صلته إلى دير في "ريفون" من أعمال كسروان تخفى فيه فترة من الوقت باسم حنا فياض، وفي طريقه إلى ذاك الدير التقى بالشيخين فريد وفيليب الخازن صاحبي مجلة "الأرز"، وكانا مثله من الوطنيين، فأبلغهما مضمون رسالة محمد كرد إليه وطلب إليهما عدم إكمال سيرهما إلى بيروت والعودة للتخفي في إحدى مناطق جبل لبنان التي كان لها وضع سياسي خاص منذ أحداث عام 1890، ولكن الشيخين الخازنين لم يصغيا إلى نصيحته، وتابعا سيرهما إلى بيروت، وفيها ألقت السلطات العثمانية القبض عليهما وساقتهما مع رفاق كثيرين لهما إلى محاكمات صورية انتهت بالجميع إلى أعواد المشانق، فيما عرف بعد ذلك بأحداث عام 1916، عام الشهداء.

في "ريفون" يقيم الأخطل متخفيا متنكرا باسم آخر كما أشرنا، وفيها يختار لقبه الذي اشتهر به وغلب على اسمه الأصلي: بشارة الخوري.

أما أسبابه الموجبة في اختيار هذا اللقب - الأخطل الصغير - فقد أشار إليها في حياته أكثر من مرة، وهي أنه أحب شعر الأخطل وشخصيته، وكان يحمل معه ديوانه إلى كل مكان، وكما كان الأخطل نصرانيا مقربا من الدولة العربية في زمانه، وهي الدولة الأموية، فقد كان الأخطل الصغير يطمح عندما اختار هذا اللقب إلى أن يكون في المستقبل شاعر الدولة العربية الواحدة التي يحلم بها.

ومع الوقت غلب اللقب على الاسم، فأصبح الشاعر معروفا به أكثر مما هو معروف باسمه، وعندما حاول فيما بعد أن يحيي الاسم فيرسل إلى الجرائد اللبنانية قصائد له ممهورة باسمه، كان رؤساء تحرير هذه الجرائد يحذفون الاسم ويضعون مكانه اللقب.

ولكن الاسم لم يختف تماما من الذاكرة العامة، التي كان ينبغي أن تسعف أصحابها في التفريق بين بشارة الخوري، شاعرنا، وبين سياسي لبناني مرموق يحمل الاسم نفسه، هو الشيخ بشارة الخوري الذي أصبح رئيسا للجمهورية اللبنانية في مطلع استقلالها.

مصادفة غير سعيدة

كان بشارة الخوري الشاعر معروفا في العالم العربي والمهجر أكثر من بشارة الخوري السياسي رئيس الكتلة الدستورية، وعندما انتخب هذا السياسي اللامع عام 1943 رئيسا لجمهورية لبنان ظنت وسائل الإعلام العربية خارج لبنان أن الذي انتخبه اللبنانيون رئيسا لجمهوريتهم هو بشارة الخوري "الأخطل الصغير"، ولذلك صدرت بعض الصحف في العالم العربي والمهجر الأمريكي حاملة مانشيتات من نوع: "فخامة الأخطل الصغير"!! في تلك الفترة لم تكن وسائل الإعلام قد تقدمت على النحو الحاصل الآن، وكانت "البرقية" بمستواها البدائي هي سيدة الموقف، لذلك ظل رئيس الجمهورية قبل أن ينتخب وبعد أن انتخب، حانقا على هذه المصادفة غير السعيدة بالنسبة إليه، هناك شاعر يحمل نفس اسمه هو أكثر شهرة منه في العالم العربي وعالم المهجر، ولذلك.. ولأول مرة في التاريخ، يضطر رئيس جمهورية للتوقيع باسم "بشارة خليل الخوري" للتمييز بينه وبين شخص آخر يحمل نفس اسمه، في حين كان الأخطل الصغير يكتفي بتوقيع "بشارة الخوري" وحده دون أن يشير إلى اسم والده "عبدالله".

ومن مظاهر ضيق رئيس الجمهورية بالشاعر الذي يحمل اسمه أنه رفض إعادة امتياز جريدة "البرق" إلى الشاعر، بعد أن كانت سلطات الانتداب الفرنسي قد ألغته، ومع أن الشاعر حاول مرارا في عهد الاستقلال الأول إعادة إصدار "البرق"، إلا أن رئيس الجمهورية كان يقدم أعذارا هي في الواقع واهية، ومع أنه في أواخر ولايته حاول التقرب إلى الأخطل بدعوته لتمضية أيام عنده لا مقره الصيفي ببيت الدين، إلا أن الحذر بقي سيد الموقف بينهما. ومن طريف ما يذكر في هذا المجال أن جورج حيمري مدير غرفة الرئاسة قصده يوما إلى حيث كان يجلس في مقهى على ساحة البرج وأبلغه دعوة الرئيس، فقال له الأخطل: إذا لم يعد لي امتياز "البرق" فإنني لن ألبي دعوته.. ثم أشار الأخطل إلى شارع كان يشق حديثا باسم "شارع بشارة الخوري"، على بعد أمتار منهما، وقال لحيمري: قل للشيخ بشارة إنه إذا لم يضع له تمثالا ضخما في مكان ما من هذا الشارع، فسيعتبر الناس بعد مضي عشرين عاما أن الشارع هو لي وليس له.

ولم تصدر "البرق" بعد ذلك وظل الأخطل عاطلا عن العمل منذ إلغاء امتيازها عام 1933 حتى توفي عام 1962.

كان الأخطل صديقا لمعظم شعراء عصره، وكان في طليعة من يعجبه من هؤلاء الشعراء أمير الشعراء أحمد شوقي، وقد التقى به متأخرا- عام 1930- كان الاثنان قد دعيا لرثاء الزعيم السوري فوزي الغزي، وقد التقيا في منزل رئيس الجمهورية شارل دباس في "عاليه" بعد أن كان شوقي قد تعرض لحادث سيارة أغمي عليه إثرها، ولما أفاق وجد الأخطل بجانبه فبادره بالقول: "كنت ستنظم قصيدة رثاء ثانية".. ويذكر الأخطل هذه الحادثة عندما رثى شوقي بعد ذلك، إذ يقول في خاتمة قصيدته:

شوقي أتذكر إذ "عاليه" موعدنا

نمنا وما نام دهر عن مقادره

وأنت تحت يد الآسى ورأفته

وبين كل ضعيف القلب خائره

ولابتسامتك الصفراء رجفتها

كالنجم خلف دقيق من ستائره

ونحن حولك عكاف على صنم

في الجاهلية ماضي البطش قاهره

سألتنيه رثاء خذه من كبدي

لا يؤخذ الشيء إلا من مصادره

وشوقي هو الذي عرفه على المطرب محمد عبدالوهاب وطلب من هذا الأخير أن يغني له قصيدته "الهوى والشباب"، ثم غنى عبدالوهاب قصائد أخرى للأخطل، منها "جفنه علم الغزل" و "يا ورد مين يشتريك"، وهي قصيدة نظمها الأخطل وعبدالوهاب معا قرب بركة ماء في بيتنا في "الدورة" كلمات العامية لعبدالوهاب، وكلمات الفصحى للأخطل، واستمرت علاقة عبدالوهاب جيدة بالأخطل حتى رحيله وإن اعتراها بعض الفتور مرة بسبب قصيدة "اسقنيها بأبي أنت وأمي" التي غنتها أسمهان، وكان عبدالوهاب قد بعث برسالة إلى الأخطل يستأذنه بتلحينها بعد أن قرأها في الصحف، وقبل أن يجيبه الشاعر زارته "أسمهان" بصحبة الدكتور "بيضا" صاحب اسطوانات "بيضا فون"، ويبدو أن قلب الشاعر قد اهتز للمطربة الساحرة التي أتت تطلب هذه القصيدة بالذات لتغنيها، وعندما عاتبه عبدالوهاب بعد ذلك قال له إن رسالته إليه لم تصل إلا بعد أن كان قد اتفق مع أسمهان، فأبرق إليه عبدالوهاب قائلا: "صدق من قال: أعذب الشعر أكذبه"!!

قصائد ملحنة

لعل أفضل شهادة على طلاوة شعره وغنائيته هي شهادة محمد عبدالوهاب له، فقد سأله "علي أمين" مرة عن الشعراء الذين لحن لهم، فسمى له المطرب الكبير هؤلاء الشعراء دون أن يذكر الأخطل الصغير من بينهم، فقال له علي أمين: "لكنك لم تذكر الأخطل الصغير"، فرد عبدالوهاب: الواقع إنني لم ألحن للأخطل الصغير لأن القصائد التي غنيتها له كانت تأتيني ملحنة منه.

وكان في شعره الغزلي رقيقا جدا حتى وصف بأنه شاعر المرأة، لقد سماه سعيد عقل في مقدمته لديوانه شاعر الغزل الأوحد.

إذ كان له قاموسه المترف الناعم حتى في شعره الوطني، يقول مثلا: قم نقبل ثغر الجهاد وجيده، ولكن هذا لا يعني أنه لم يعرف أن يكون قاسيا أو قويا في مواطن القسوة والقوة.

من ذلك قوله في انتفاضة أبناء جبل عامل ضد الفرنسيين عندما أراد هؤلاء تحديد المساحات المزروعة من التبغ:

شرفا "عامل " وفيت العلى

حقها، إن وفاء الحق دين

ما جراح تلك بل أوسمة

لثمتها شفة منا وعين

انصفوهم إنهم من أمة

زانت الدنيا بعدل العمرين

ورثوا بأس علي في الوغى

ورموا البطل بإيمان الحسين

والكثيرون منا لم ينسوا بعد قصيدته في فلسطين عام 1936 التي تظل أروع ما قيل في قضيتها.

ولعل مما جعل شعره قريبا من الناس عبارته السهلة، وعدم حاجة هذه العبارة إلى مراجعة القواميس، وقد ساعده على ذلك عمله في الصحافة، وما تحتاجه هذه المهنة من ابتعاد عن العبارات المقعرة والبائدة واقتراب من لغة الحياة والناس.

وقد أخذ عليه، وعلى شعراء جيله أيضا، أنهم كانوا شعراء مناسبة أو شعراء مناسبات، في إشارة إلى مشاركتهم في أحداث وطنية أو اجتماعية أو شخصية، وأذكر أنه قال لي مرة إن المناسبة في أيامه كانت دار النشر الوحيدة، وكانت فرصة للشاعر كي يتحدث عن أمور شتى ذاتية وعامة، وهكذا كانت المناسبة تتسع لجولة، كثيرا ما يجد الناس فيها الكثير مما يشكون منه ولا يجدون من يعبر عنه سوى شعرائهم.

وكان يجيب على من يتهمه بقصر النفس في شعره ببيتين من قصيدة له:

أنا يا ربيع، ولا أمن، قصائدي

لولاك ما طبعت على فمها فما

صغرت فهبها في اللآلي حبة

أو لا، فهبها في الأزاهر برعما

وكان لسان حاله إزاء موجات التحديث الشكلي:

بعض الجديد الذي يدعونه أدبا

يموت في يومه، هذا إذا وهبا

إن لم يكن لك حسن الوجه تعرضه

فقد ظلمت به أثوابك القشبا

قضى الأخطل الصغير حياته فقيرا، ومن أطرف ما ذكره مرة أنه عندما كانوا يتوجونه "أميرا" للشعر في ذاك اليوم المشهود في قصر اليونسكو ببيروت لم يكن في جيبه سوى سبع ليرات لبنانية كان قد اقترضها من عامل في المقهى الذي يجلس فيه في بيروت.

وكان له طقوسه الخاصة في نظم الشعر، كان يقفل غرفته على نفسه بالمفتاح و "يرندح" وهو ينظم، كنا، ونحن صغار، نعود من المدرسة انا وإخوتي فنسترق النظر من ثقب الباب ونجد والدنا يذرع غرفته ذهابا وإيابا وهو يرندح أو يغني، فنسرع إلى الوالدة لنقول لها إن والدنا قد أصابه مس من الجنون.

وكانت له أشياؤه الصغيرة بالطبع، لم يعرف طيلة حياته أن يعقد ربطة العنق أو شريط الحذاء، وكان ينزل إلى مقهاه الأثير في ساحة البرج أحيانا بربطة عنق وبشريط حذاء غير معقودين إذا لم يجد من يساعده على عقدهما.

ولكنه كان حريصا على الهندام الحسن والشكل الأنيق، وبذلك لم يكن من أنصار النظرية التي ترى أنه على الشاعر أن يحرص على هيئة معينة تدل عليه.

وإن أنس لا أنس الأيام الثلاثة التي أعقبت وفاته، عندما توفى الأخطل في 31 تموز 1962، الساعة الرابعة بعد الظهر، فقد انتشر الخبر في كل مكان وكان له وقعه الحزين في كل بيت لبناني وعربي، سجي الجثمان في قاعة كلية الحقوق في بيروت لمدة ثلاثة أيام، وذات ليلة سمعنا زغردات وشاهدنا من بعيد شبانا وشابات يرقصون.. شاهدنا من بعيد الشاعر كمال ناصر ومعه مجموعة كبيرة من الفتيان والفتيات يرقصون ويرددون: اليوم عرس الأخطل، وكانوا يغنون قصيدته في فلسطين: سائل العلياء عنا والزمانا..

ملكات الجمال حول الجثمان

في آخر ليلة من الليالي الثلاث سهرت على جثمانه ملكات الجمال اللبنانيات، حتى كبيرات السن منهن، كن حوالي 12 ملكة جمال، وكن يرددن: لقد كان شاعر المرأة والجمال، لم يدنس كرامة المرأة بأي كلمة في شعره، أوليس هو القائل في حفلة تتويج أول ملكة جمال في لبنان في أواخر الثلاثينيات:

الصبا والجمال ملك يديك

أي تاج أعز من تاجيك

نصب الحسن عرشه فسألنا

من تراها له فدل عليك

 

عبدالله الأخطل

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الأخطل الصغير





أحمد شوقي





محمد عبدالوهاب