محمد الفايز... سندباد القصيدة العربية (شاعر العدد)

محمد الفايز... سندباد القصيدة العربية (شاعر العدد)

على الرغم من أن معظم الدول العربية تقع على سواحل بحرية طويلة، فإن قلة من شعرائها على مدى تاريخها الطويل اهتموا بالبحر كمرجعية، ومن بين هؤلاء القلة يبرز اسم الشاعر الكويتي محمد الفايز.

ومحمد الفايز - الذي أعاد للدنيا حديث السندباد وفقا لرؤاه الشعرية والفكرية الخاصة عبر كتابته لمذكرات بحار اعتبره نموذجا لكل البحارة العرب - يعتبر أحد أهم أسماء الحالة الشعرية في الكويت، خصوصا في النصف الثاني من القرن العشرين. فقد تنوعت تجربته واغتنت بالكثير من التجارب السابقة والمجايلة لتجربته ولكنها انفردت بخصوصيتها البحرية على الرغم من التأثيرات الواضحة التي لاحت في خطوطها الفنية تحديدا.

ولد محمد فايز العلي في الكويت العام 1938م، وبدأ رحلة التعليم الأولى عند «الملا» وفقا لنظام «الكتاتيب» الذي كان سائدا في كثير من البلاد العربية آنذاك، فتعلم القراءة والكتابة والحساب وحفظ القرآن الكريم، وانطلق بعدها ملبيا نداء الشعراء الذين استهوتهم عوالم السحرية، فقرأ كل ما وقع بين يديه من دواوينهم الشعرية وشغف شغفا خاصا بالمتنبي فاعتبره معلمه الأول، لكنه عندما أمسك بالقلم ليخط أولى إبداعاته لم يكتب قصيدة، بل قصة قصيرة وكان يومها موظفا في الإذاعة الكويتية بعد أن ترك عمله في وزارة الكهرباء، مفضلا أن يعمل في وظائف أقرب إلى اهتماماته الكتابية فعمل أيضا كمحرر صحفي في مجلة الكويت وكمراقب للتمثيليات في تلفزيون الكويت.

وبعد أن نشر قصته الأولى في إحدى المطبوعات الكويتية العام 1963م استهوته الكتابة القصصية فكتب الكثير من القصص التي نشرها، وربما حول بعضها إلى تمثيليات إذاعية، قبل أن يهجر القصة القصيرة إلى الأبد لمصلحة القصيدة، التي رأى أنها تستحق أن يكرس لها كل إبداعه اللاحق.

والغريب أن الفايز بدأ بنشر إبداعاته موقعة باسم مستعار هو «سيزيف» البطل الأسطوري، الذي كان يحمل على ظهره صخرة ثقيلة وهو يصعد الجبل وكلما سقطت وسقط معها قبل بلوغ القمة بقليل، عاد ليكمل المحاولة بصبر عجيب ودأب مثابر. وقد أصر الفايز على ذلك الاسم حتى وهو يصدر ديوانه الأول والأكثر أهمية «مذكرات بحار»، لكنه عاد وأصدره مرة أخرى موقعا باسمه الحقيقي بعد أن لمس الاهتمام المميز به من القراء والنقاد.

مثّل ديوان مذكرات بحار - الذي رسم فيه محمد الفايز ملامح البحار الكويتي، كنموذج للبحار العربي بشكل عام - ثورة شعرية حقيقية اندفعت بقوة في بحر الشعر الكويتي الهادئ، خاض من خلالها غمار التجريب الشعري عبر إعادة كتابة قصة السندباد باعتباره مواطنا كادحا لم يجد سوى أعماق البحر المخيفة ليبحث فيها عن رزقه بشجاعة ومهارة ومرارة أيضا. وهكذا سجل الشاعر في تلك المذكرات تاريخا غير مكتوب للإنسان في الكويت من خلال علاقته الإشكالية بالبحر كمصدر للرزق وموئل للأحلام، وأيضا كوحش متربص بالبشر المعتدين على سحرغموضه وهدوء أعماقه.

ومع أن الفايز برع في ذلك النوع من الشعر التجريبي المعتمد في مجمله على الأسلوب القصصي فإنه لم يستغرق كل كتاباته اللاحقة، ففي كثير منها نجده فيلسوفا متأملا أحوال البشرية بهدوء يسيطر على القصيدة.

والغريب أن الشاعر الذي كان ينظر إليه باعتباره أحد أهم الأسماء الشعرية التجديدية في الكويت في الستينيات والسبعينيات، عاد في الثمانينيات من القرن المنصرم تقليديا بشكل أثار دهشة قرائه والنقاد. فقد دأب في تلك الفترة على نشر قصائد موغلة في المباشرة والتقليدية في الصحافة الكويتية، بشكل يومي تقريبا، قبل أن يعود ليجمعها في مجموعات شعرية. ولعل المتلقي لتلك القصائد يلاحظ بسهولة أن الشاعر عانى نكوصا فنيا واضحا في سنواته الأخيرة لم يجد من يبحث عن أسبابه حتى الآن على الصعيد النقدي.

بالإضافة إلى «مذكرات بحار»، صدرت للفايز عدة مجموعات شعرية هي «النور من الداخل»، و«الطين والشمس»، و«رسوم النغم المفكر»، و«بقايا الألواح»، و«لبنان والنواحي الأخرى»، و«ذاكرة الآفاق»، و«حداء الهودج»، و«خلاخيل الفيروز»، و«تسقط الحرب»، وصدرت آخر مجموعاته الشعرية بعد وفاته بعنوان»: «خرائط البرق». وله أيضاً مجموعة قصصية عنوانها: «الأرض والتفاح»، وملحمة شعرية بعنوان: «خالد بن الوليد»، ولم يضمهما إلى أعماله الكاملة التي صدرت عام 1986م.

توفي الفايز في مثل هذه الأيام يوم السابع والعشرين من فبراير العام 1991م، أي بعد يومين على تحرير الكويت من احتلال النظام العراقي الصدامي لها.

ووفقا لشهادات عائلته فقد كان في أيامه الأخيرة صامتا لا يفعل شيئا سوى قراءة القرآن وديوان المتنبي وتحريك قطع الشطرنج، وكأنه كان يريد أن يؤكد على أن الحياة مجرد لعبة، وأن البشر فيها قطع شطرنج يتحركون فيها، ولكن ليس بإرادتهم الكاملة غالباً.

 

 

 

سعدية مفرح