مثل نهرٍ يحاور ينبوعه.. (إلى ابنتي حنين في عامها الخامس)

مثل نهرٍ يحاور ينبوعه.. (إلى ابنتي حنين في عامها الخامس)

لا الخريف الذي فيه أبصرتِ
أضغاث أولى النجوم
ولا عُرْيُهُ يشبهانكِ،
لا جريانُ الزهور البطيء
على مهج الأمهات
ولا رجْع إغماضةِ الحالمين
لك الآن أن تطبقي راحتيكِ
على ما تعدُّ لك الأرضُ
من ياسمينْ
لك الآن أن تكبري خلسةً
أو تفيئي إلى جنةٍ من دمىً
أو تطيري بأجنحة القبَّرة
فوق حقلٍ تنام صباحاتُهُ
في فراء الخراف،
أو تُعِدِّي فطوراً شهياً
لعصفورةٍ تترنَّح مخمورةً
فوق أسلاك ضوء الصباح
ولي أن أؤرجح أياميّ الباقيات
على وقْع أحلامك المسرعة
مثل أنفاس صيفٍ تفطَّر قمحاً،
وعند حروف اسمك الأربعة
سأعاود ترميم ذاك المهبِّ الذي
ظَلَّلَتْني سماواتُهُ،
بحنوِّ امرأه
وبلهفة طفلٍ إلى ثديهِ،
إن قلبي لأضيق من أن يضمَّكِ
حين تنامين ليلاً
وهذا البريقُ الإلهيُّ في وجهك الطفل
أوسعُ من ضوء عينيَّ،
والعمر أقصرُ من أن يكون امتداداً
لخطوتكِ التاليه...
منذ أنْ كنتِ أَبْنَه بالبذرةِ العالقة
بأحشاء أمِّكِ
سابحةً في العماء
وحتى انسدال النهار الذي أودعتْهُ
الأسرَّةُ أحلامك اليانعه
بتُّ أعرف،
أكثر من أيِّ وقتٍ مضى،
سرَّ إطراقة الأرض شوقاً
إلى عشبةٍ تتململ ظمآنة
في عروق الحصى،
ولغز انحناء النساءِ على دمعةٍ
ظلَّلَتْ نوم أبنائهنّ،
وأحسستُ أني تضاعفتُ
كي أصبح اثنين في ضحكةٍ واحده
وأني تخفَّفتُ،
في ظلِّ كَوْني أباً لكِ
من ثقل هذا الجسدْ
وحتى أشدّ مناطق روحي صقيعاً
يلامسها كلما أقفرتْ دفءُ كونكِ
تغفينَ بالقرب مني
لو تعيرينني يا ابنتي قطرة من صفائكِ
كي أستردَّ شظايا الحياةِ
التي أخطأتْني ذبالاتها
قبل خمسين عاماً
وأسعى بدأب النمال الصغيرةِ
كيما أنظّفني من صداع الكوابيس
والكتب البائره
لو تعيرينني سرَّ نظرتك الحائرة
0نحو ما تلامسه العينُ
إلا لماماً
لكي أقتفي ببداهة طفلٍ
طزاجة تلك الحروف التي تتفتَّح أكمامها
عند مسقط رأس اللغة
كيف لي أن أرى ما ترين
من الكائنات التي بَرَّأَتْها الهشاشةُ
من شبهة اللمس؟
أو من كواكب مجهولةِ الاسمِ
لم تصل الأرض إلا بُعَيْدَ الأفولْ
كيف لي مثلما، لامباليةً،
تجعلين الحقيقة تمشي على قدميِّ الكنايات
أن أمتطي ظَهْرَ مُهْرِ الخيال الجموح
بجرَّةِ عينٍ بدائيةٍ،
أو أوائم بين المعاني وأضدادها
حيث ترتـاح هــانــئةً ثُلَّةٌ
من ثعالبَ داكنةٍ
في ضيافةِ ديكٍ كسولْ
أو أرى قمراً يجلس القرفصاءَ
ويرعى وحيداً قطيعاً
من الابتساماتِ
يزرع صيف الحقولْ
أو أرى أرنباً طائراً
فوق مملكةٍ من عطشْ
يحطُّ وحيداً على جدول الضرب
كي يشرب الماء،
من أين لي،
حيث تخفق هذي القصيدة في البحثِ
عن موطئ للبداهةِ،
أن لا أصيخ إلى زقزقات الملائكة الهانئينْ
في تضاعيف صوتكِ،
لكنني لم أزل أقتفي من خلالكِ
أعقاب ما كُنْتُهُ،
ناظراً مثل نهرٍ يحاور ينبوعهُ
نحو أشهى الثمار التي اخضوضرتْ
في ضباب السنينْ
لكأني إذا ما ضممتكِ نحوي
صدايْ
يرحِّل وديانه المقفرات إلى صوتك المشتهى
وهو يلهج باسمي صباحاً
وإمًّا مشيتِ علي الأرصفه
أرى في خطاك خطايْ
أو أرى ما تأنَّث من صورتي
في مرايا الحنينْ
وفي زَغَبِ الهدهداتِ التي تتعهَّدُ
من غير صوتٍ،
ملامح طفلٍ ينامْ
احمليني إذن يا ابنتي عالياً
حيث تهدي أرائــكُ فــتَّانةٌ مهدها
للبنات الصغيرات،
حيث الرياح، بلا أمهاتٍ، تهيم على وجهها
والعذوبةُ تنمو على غفلةٍ
من هديلِ الحمامْ
واعلمي أنَّ هذي الحياة،
لأنكِ فيها،
نصير أقلَّ اصفراراً
ونصبح أنقى ذيولُ الغمامْ
وأنّي إذا كنتُ أكتبُ هذي القصيدهْ
فكي تقرأيها إذا ما كبرتِ،
وكي تدركي ذات يومٍ،
ولو في غيابي،
بأني أقدِّم قلبي إليكِ
على طبقٍ من كلامْ

 

 

 

شوقي بزيع