رمان الأندلس الذي وصل إليها من الشام فاضل السباعي
رمان الأندلس الذي وصل إليها من الشام
نقل العرب إلى الأندلس، فيما نقلوا من المعارف والعلوم وفنون الحضارة، نباتات كثيرة لم يكن يعرفها قبلهم أهل إسبانيا. ذلك أن التجارب العميقة، المتراكمة عند الأمم المفتوحة، في مشرق الإمبراطورية العربية الإسلامية ومغربها، كانت قد أخذت في التفاعل، وبالتالي في الانتقال شيئا فشيئا من قطر إلى قطر، يحملها معهم أبناء الدين الجديد. وكان مما حمل أهل الشام، في ذهابهم إلى الأندلس، أنواع نباتات، من شجر وفاكهة وزهر، قد نشأوا عليها في أرض الآباء، وأرادوها أن تكون معهم، حيث توجهوا، مطعما ومنظرا وتذكارا، فنشطت، في الوطن الجديد، الزراعة، وازدهرت الفلاحة، وانتشرت البساتين في السهول والوديان، وكست الأشجار سفوح الجبال. والحق، لقد أغرم الأندلسيون بالحدائق (وكانوا يسمونها: الجنات! واليوم، تسمى واحدتها: جنينة)، اصطناعا لها وتجميلا، في كل مكان. وقد تنوعت عندهم: ما بين حدائق عامة. وخاصة، وحدائق في أفنية البيوت، وحدائق في الدور الكبيرة وفي القصور، وكذلك حدائق الشرفات والنوافذ والجدران، وحدائق المدرجات المعلقة، وحدائق الأرياف، والحدائق الطبيعية. واشتملت هذه الحدائق على النباتات التزيينية: كالورد، والياسمين، والقرنفل، والبنفسج، وشقائق النعمان، والدفلي، والخشخاش، والسوسن، والنرجس، وعلى الأشجار المثمرة: كالمشمش، والتفاح، والرمان، والتين، والإجاص، والنارنج، والأترج (الكباد)، ونخيل البلح. وليست هذه النباتات كلها مما نقل العرب إلى الأندلس، لا ولا هي كل ما نقلوا، فقد ذكر المؤرخ العالمي المعاصر ويل ديورانت، وهو يعدد فضل العرب على الزراعة في إسبانيا، أصنافا أخرى نقلوها إلى هناك، منها: الأرز، وقصب السكر، والقطن، والسبانخ، والأسفراج (الهليون)، والزنجبيل، والمر، والموز، والكرز، والليمون، والسفرجل، والخوخ (ما يسمى اليوم في الشام، بالذراقن). وقد يكون أول ما نعرف من النباتات، التي انتقلت إلى الأندلس قادمة من المشرق العربي، هو الرمان، هذا الذي أوردت المصادر الأندلسية حكاية طريفة عنه، توقف عندها صاحب "نفح الطيب"، وهي حكاية تعود إلى أوائل عهد الأجداد في الأندلس، وعلى وجه التحديد أيام "عبدالرحمن بن معاوية"، الأمير الأموي الشاب الهارب من بطش العباسيين، والذي دخل الأندلس، وكتب له القدر أن يتملكها سنة 138 هـ (755 م) وهو ابن خمسة وعشرين ربيعا!. ثم يتولى حكمها من بعده (سنة 172 هـ) تسعة من سلالته خلال ما يقرب من قرنين ونصف القرن من عمر الزمان العربي!. رصافة الشام ورصافة قرطبة وبعيدا عن الرمان، نتحدث بادئ ذي بدء، عن أن عبدالرحمن- الذي لقبه التاريخ بـ "الداخل"- كان قد فقد أباه "معاوية بن هشام" وهو طفل صغير، فعاش في رعاية جده الخليفة الأموي العظيم "هشام بن عبدالملك"، هذا الذي كان قد انتقل بعاصمة بني أمية من دمشق- إثر اجتياح الطاعون لها مرتين- إلى مدينة "الرصافة" على تخوم بادية الشام، وقريبا من فهر الفرات، فأحيا ذكر هذه المدينة، وقد كانت معروفة عند الروم (البيزنطيين) بـ "سرجيو بوليس"، وذلك قبل أن تمتد إليها يد الفناء، تدميرا بفتك المهاجمين، وتصحرا بفعل الطبيعة، وهي في عصرنا هذا، أنقاض في صحراء موحشة!. أقول: هناك، في قصر الإمارة في رصافة الشام، قضى عبدالرحمن طفولته وشب عن الطوق. فلما قدر له أن يتملك الأندلس، ويستقر في قرطبة، رأى أن يبني قصرا للإمارة، اختار له موقعا، في شمالي العاصمة، وأطلق عليه- وما نسي عاصمة جده الشامية- اسم "الرصافة" (وفيما بعد نسبت كتب التاريخ هذه الرصافة إلى العاصمة، فقيل: "رصافة قرطبة"، ذلك أنه كان في الديار الإسلامية غير قليل من القصور، أو الأحياء، أو الأرباض، قد سمي كل منها بالرصافة!). عبدالرحمن الداخل يدعو الأهل إليه بعد أن ثبت عبدالرحمن الداخل ملكه في الأندلس تلفت حواليه يبحث عن الأهل. ولعل ما فاض في صدره من العطف عليهم، كان أبلغ مما انتابه من الحنين إلى الأرض التي سل فيها عرش الآباء، واستؤصل الأبناء بالتقتيل والترويع والتهجير!. فأخذ سلطان الأندلس الأموي، الظافر، يستدعي من بقي من الأهل والأقارب في ظل أصحاب الرايات السود (العباسيين)، ويستقبل بالترحاب من يفد عليه منهم، التماسا للأمن في ظله، واستمتاعا بما استحوذ عليه من بلهنية العيش والعز والسؤدد!. وفي ذلك
يقول: وأخته "أم" الأصبغ وكانت في البال أختاه الحبيبتان: "أم الأصبغ "، و"أمة الرحمن". فأما "أمة الرحمن" فقد كفت المصادر التاريخية عن الإشارة إليها، من يوم فرار أخيها من الشام، مما يوحي بأنها قد فارقت الحياة في ليلة المحنة الليلاء!. وأما "أم الأصبغ"، فقد أورد التاريخ لنا عنها نبذة صغيرة، ما أشد نفعها لنا في "مسألة الرمان" موضوعنا (و "الأصبغ"، لغة: هو الحصان المبيض الناصية، أو أطراف الأذن!). تقول الرواية الأندلسية إنه لما استتب الحكم لعبدالرحمن واتسقت له الأمور، بعث إلى الشام من يأتيه بأخته أم الأصبغ. وكان المبعوث هو ذلك المحدث الجليل "معاوية بن صالح"، أصله من حمص، قد دخل الأندلس قبل دخول الأمير عبدالرحمن، ونزل إشبيلية، وشهد تملك الفتى الأموي للبلاد. وقد توجه الفقيه الشامي، في سفارته هذه، إلى المشرق، فحج أولا، والتقى في الديار المقدسة بالإمام "مالك بن أنس". وبعدئذ عرج على العراق، ثم الشام. وفي دمشق، أو في قنسرين (المدينة القريبة من الرصافة)، يلتقي بالأخية أم الأصبغ. ونحسب أنه حدثها عما حققه أخوها عبدالرحمن من انتصار، وبين لها ما بات يتمتع به من سلطان على البلاد، ومن إجماع أهل الأندلس على طاعته بعد أن أظلها الأمن، ثم توقف في حديثه عند أهل الأمير وأقاربه، الذين يتوافدون عليه من كل فج، وهو بهم مرحب، وهم يشاركونه في الرياسة، ويستمتعون في كنفه بالعيش الهانئ الرغيد، وبعدئذ يهيب بالأميرة أخت الأمير، أن تتأهب للسفر، فإنما مجيئه إليها ليكون رفيقا لها في سفرها المرتقب الميمون!. ونحسب، كذلك، أن الأميرة قد أصغت، بجوارحها كلها، إلى المبعوث الأندلسي، وهو يقدم لها من الأخبار ما يبهج وما يشوق. ولسنا نشك في أن عينيها- وهي الأخت الكبرى- قد انهلت منهما دموع غسلت وجهها، فرحا وشكرانا إليه تعالى. اعتذار، وهدايا شامية! ولكن ما عرفناه، يقينا، أن أم الأصبغ لم تستجب لهذه الدعوة الكريمة، وقد تعللت بقولها: قد كبرت سني، وأشرفت على انقضاء أجلي، ولا طاقة بي على شق البحار والقفار! وحسبي أن أعلم ما صار إليه (أخي) من نعمة الله!. وهي إن لم تكن طعنت في السن حقا، فليس من شك في أن النكبة- التي قيض لها أن تنجلي- قد أوهنت عزمها ونالت منها أي منال. وانصرف الشيخ عائدا إلى الأندلس، مصحوبا بهدايا، وصفتها إحدى الروايات الأندلسية بأنها "تحف أهل الشام " (وهل "أهل الشام" سوى الأخية أم الأصبغ؟)، ووصفتها رواية أخرى بأنها "طرائف، منها: رمان الرصافة، (الرصافة) المنسوبة إلى هشام (فابن صالح قد زار الأميرة في الرصافة. حيث كان يقيم الخليفة هشام، جدها، والتي فيها دفن). أجل! أرسلت "أم الأصبغ"، حفيدة هشام بن عبدالملك، في هداياها إلى أخيها، شيئا من رمان الشام، وما درت أنها بذلك تنقل زراعته من مشرق إلى مغرب، وأن اسمها- عندما يقيض له أن يذكر في التاريخ- سيقترن بهذا الجانب من الهدية: الرمان!. الرمان في مجلس الأمير وبيان ذلك- كما تحدثنا المصادر الأندلسية، وكما أضيف إليه من تصوراتي الخاصة!- أن الرمان وصل، في حينه، إلى أمير الأندلس، الشامي، الذي ما برحت ذكريات الشام تلح عليه، بحلوها ومرها. كان الأمير، تلك الساعة، في مجلس ضم خواص رجاله، أمراء ورؤساء وقادة، منهم "سفر بن عبيد الكلاعي"، من جند الأردن في الأندلس (وهو من الأنصار، أنصار رسول الله، الذين كانوا يحملون الألوية في غزواته صلى الله عليه وسلم، وظلوا يتولون حملها بين أيدي الخلفاء من بني أمية في الشام). عرضت الرمانة، الواصلة من الشام توا، على رجال الأمير.. وجلهم إما وافد من الشام، وإما منتم بأصوله إليها. وجعل جلساء الأمير يتداولون الرمانة: فالذين كانوا قد عرفوا الرمان في بلد الآباء، أخذوا "يتذكرون الشام ويتأسفون عليها!"، كما يقول المؤرخ الخشني (من أهل القرن الرابع للهجرة، العاشر الميلادي)، والذين ولدوا في الأندلس، أتيح لهم، في هذه السانحة، أن يتعرفوا الرمان برؤيته، أول مرة، في مجلس الإمارة هذا!. كسرت الرمانة- أو الرمانات، ما ندري!- ووزعت أجزاؤها على جلساء الأمير، على كل منهم جزء، هو ما نسميه- في دارجة اليوم في الشام- بـ "الجمل" أو "الكوز". "سفر الكلاعي " يزرع الرمان أكل كل جزءه.. إلا واحد، هو سفر الكلاعي، الذي احتفظ بجزئه، وقد "راقه حسنه وخبره" على قول شيخ مؤرخي الأندلس ابن حيان (من القرن الخامس للهجرة)، وسار به إلى حيث يقيم، في كورة "رية"، المنطقة الواقعة جنوبي قرطبة، والتي ينزلها جند الأردن. ولقد بدا أن لسفر الكلاعي معرفة، بالفلاحة، فأحب أن يستفيد من جزء الرمان هذا، بغير أكله والتمتع بلذاذة طعمه. فأكب عليه يعالجه معالجة الفلاحي المتقن فنه!. هنا أسمح لنفسي
بأن استعير نصا نباتيا ورد في كتاب لأحد علماء الفلاحة الأندلسيين، ابن العوام (من
القرن السادس الهجري). يقول: وتتخذ الحفيرة في تراب طيب من وجه الأرض، مخلوط بزبل قديم، ورمل ورماد، وفي شهر يناير (كانون الثاني) يلقى من حبه، في الحفيرة الواحدة، من ست حبات إلى تسع، وأزيد من ذلك حتى اثنتي عشرة. ويفصل بينها بالتراب. وتسقى بالماء عقيب زراعتها. ولا يكثر من السقاية في الأيام الأولى!. حتى إذا نما، وصار على قدر شبر، يزبل ببعر الغنم، وزرق الحمام وتراب سحيق، أثلاثا، ويتعاهد بالسقي اليسير بالماء، فإذا صار إلى نحو شبرين زيد سقيه على ترتيب. وبعد ثلاثة أعوام، ينقل إلى المواضع التي تراد له.. ويحمل ثمره إلى أميره عبدالرحمن وبدا أن هذا هو ما اتبعه سفر في معالجته لذلك الجزء من الرمانة الذي حظي به في مجلس الأمير: نثر حب الرمانة الشامية النضجة، عصره، غسل النوى المتخلف بعد العصر، جففه، واتخذ له الحفائر على ما ينبغي، ثم نقل النباتات في مواعيدها، وانتظر سنوات حتى أزهرت الشجيرات، وعقد حملها وأثمر. ويتابع ابن حيان: وما لبث أن انتشر نوع هذا الرمان، واستوسع الناس في غراسه، ولزمه النسب إلى (سفر)، فصار يعرف إلى الآن (أي عصر المؤرخ ابن حيان) بالرمان السفري". واستفاد أحد الشعراء الأندلسيين مما في كلمة "سفر" من معنى، فكتب قصيدة إلى من أهدى إليه رمانا. قال، في الرمانة:
وقد إنتقلت صفة الرمان "السفري" من الأندلسيين إلى الإسبان فهي في لسانهم اليوم Zafari ... فتأملوا!. ولكن ما هو الرمان، في التعريف العلمي اليوم؟. هو شجر مثمر، من الفصيلة الآسية (نسبة إلى شجر الآس). له ضروب. يؤكل من ثمرته لبها، المائع، الشاف، المحيط بالبذور. والاسم العلمي للرمان، كما اصطلح عليه اليوم Punica granatum وبالفرنسية Grenadier، وبالإنجليزيةPomegranate. . والجلنار زهره، كلمة فارسية: جل (يعني: ورد) ونار (رمان): زهر الرمان. ولقد ذكر الأجداد طرقا عدة لفلاحة الرمان، منها: استنباته من حبه، وغرس أغصانه التي يستحسن أن تؤخذ من أعلى الشجرة، ومنها "العكس" (أو التغطيس) بأن تحنى أغصانه المدلاة إلى حفائر في الأرض. وضروب الرمان، من حيث طعمه: حلو، ومز (لفان)، وحامض. ويعصر وعصيره مز، لذيذ منعش، ويربب، فمنه رب الرمان، الذي يستعمل في الطبخ حمضا ذا نكهة. وقد نزع الفلاحيون الأندلسيون إلى تحسين طعمه والارتقاء بلذاذته، فأرادوا لحبه أن يتضاءل مقدار النواة فيه أو تنعدم بمرة. ووجه العمل في ذلك- كما ينصح الحاج الغرناطي الطغنري (من القرن الخامس للهجرة)- أن الرمان، إذا غرس، وأتى عليه عام، فيشق القضيب المغروس برفق حتى يوصل إلى اللب، الذي يعرفه عامة الفلاحين بالمخ، فيستخرج منه اللب بأسره، ويدس في موضع اللب عود من شجر الطرفاء، أو شجر الصفصاف، ثم يشد عليه رباط، ويترك عليه مدة عام، فإذا التحم حل عنه الرباط. فيكون الرمان بلا نوى. وفضلوا من ضروبه الحلو، فأتى ابن العوام لذلك بعلاج فريد في نوعه، قال: إن طلي، من أسافل القضبان التي تغرس، مقدار أربع أصابع، بالعسل الجيد، وكذلك إن صب على الحب المغروس عسل، فإن الرمان يخرج حلوا!. وصحة هذا "التعليم" أو عدمها، عند علماء الزراعة اليوم. فلعلهم، إن تبينوا بالاختبار صحته، أن يمتعونا بأكل الرمان دون النوى!.
|
|