قراءة نقدية في رواية «ملحمة السراسوة»

قراءة نقدية في رواية «ملحمة السراسوة»

«كان خروج السراسوة بحثا عن مكان بعيد وآمن, فهل لمثل هذا المكان وجود؟ وإذا كان، فأين؟ وكيف؟».

نعرف من هذه الرواية أن «السراسوة» للكاتب أحمد صبري أبو الفتوح والصادرة عن «دار ميريت» هم فرع من أبناء وأحفاد الشيخ «موسى السرسى» أحد كبار علماء الأزهر في بدايات القرن التاسع عشر، والذى قدم طفلاً من قرية سرس من أعمال منوف إلى مدينة القاهرة ليدرس في الأزهر حتى صار واحداً من أكبر علمائه، وواحداً ممن أشاد بذكرهم الشيخ حسن الجبرتى فى كتابه الشهير «عجائب الآثار في التراجم والأخبار».

ولم يكن لقب «السراسوة» هو فقط ما أورثه الشيخ موسى لأبنائه من زوجته الأولى الملقبة في هذه الرواية « بالأم الكبيرة»، بل كان الجزء الأهم من الميراث إلى جوار الثروة الضخمة التي أسسها لهم في مدينة «سرس» ذلك الشعور القوى بأهمية العلم الديني والدنيوي وتلك المجموعة من الصفات الإنسانية التي قد لا نعرف كيف تتكون ولا كيف تنتقل من جيل إلى جيل، ليصبح من حقهم أن يحتكروا هذا اللقب «السراسوة» مع أنه من حق أى عائلة تعيش في مدينة «سرس»؟!

كيف أصبح «السراسوة» الذين ورثوا عن هذا الجد العظيم ثروته الكبيرة، وبعض صفاته أبطالاً لملحمة يكتبها واحد من أحفادهم بعد ما يزيد على قرنين من الزمان؟!

كيف ظل السراسوة عائلة واحدة، عائلة كبيرة ومتماسكة طيلة قرنين من الزمان ليكتب هذا الحفيد عنهم رواية يقع جزؤها الأول بعنوان «الخروج» فيما يقترب من خمسمائة صفحة، ويعدنا في آخره بأجزاء أخرى مقبلة؟

نعرف جميعا كيف تتفكك أية أسرة بالمصاهرة والسفر والهجرة وراء المصالح والأعمال، فما الذي أبقى هؤلاء «السراسوة» يحملون اسم مدينتهم القديمة مع أنهم غادروها منذ سنين بعيده، ثم يمنحون هذا الاسم للقرية التي أنشأوها في شمال الدلتا في أحد نواحي مديرية الدقهلية؟!

تعلمنا من الجغرافيا كما تعلمنا من التاريخ أنه لا شيء يربط أسرة صغيرة أو كبيرة عبر الأزمنة والأمكنة سوى خوف عظيم أو مطامع عظيمة، فهل هذا ما تقدمه لنا ملحمة السراسوة؟

هل نحن أمام رواية تروى عن الخوف العظيم والمطامع العظيمة، ماذا يفعلان بالناس وماذا يفعل الناس في ظلهما؟

لماذا نتعجل الفروض والتوهمات؟ لماذا لا نبدأ من البداية مع هذه الرواية متذكرين ما قاله النقاد قديماً وحديثا: ليس مهما ما تقوله الرواية بل المهم كيف قالته؟

بناء الرواية:

يبدأ الفصل الأول من الرواية وكأن الأحداث تروى من خلال الضمير الثالث العليم بكل شيء، فيقدم لنا خروج الطفل موسى من قرية سرس بصحبة أبيه وأعمامه ليتلقى دروسه في الأزهر في موكب يوضح أهمية مثل ذلك الحدث في ذلك الزمن، ثم يستمر هذا الفصل في متابعة هذه الرحلة إلى القاهرة في البر وفي نهر النيل وكأنه يقدم لمحة عن أحوال مصر في نهايات القرن الثامن عشر، فعلى جانبى النهر تبدو المزارع أحيانا، ومن بين أعواد الذرة يخرج قطاع الطريق لمهاجمة المسافرين في البر أو في النهر، فيكون على المسافرين في هذا الزمن أن يكونوا مقاتلين في الوقت ذاته، وقبل أن ينتهى الفصل الأول يختفي صوت الضمير الثالث العليم بكل شيء، ليظهر لنا راو جديد هو مؤلف هذه الرواية، وهو أحد أحفاد عائلة السراسوة ممن يعيشون معنا الآن في بدايات القرن الحادى والعشرين، وهو لا يدعي أنه يملك من المعرفة ما يملكه الضمير الثالث العليم بكل شيء، بل إنه ينقل لنا مما سمعه من آبائه وأجداده، مما سمعوه من آبائهم وأجدادهم عن تاريخ العائلة الذي يعتقدون بحق أنه أثمن الموروثات من عائلة الشيخ موسى السرسي، وسيبقى لهذا الراوي الأخير الفضل في نقل تاريخ هذه العائلة من طور الحكايات الشفاهية إلى طور الرواية المكتوبة، وفي الواقع أن دوره أمام هذه المرويات الشفاهية عن تاريخ العائلة كان أكثر من رائع، فقد نقل بقدر كبير من الحياد ما كانت تتفق بشأنه هذه المرويات وما كانت تختلف وما كانت تصمت، ثم يبتعد بمسافة محسوبة عن هذه المرويات ليبعث في بعضها من روحه ما يرى أنها تستحقه من وهج الإبداع متحملاً مسئولية رؤيته، ثم ينهر نفسه أحيانا عن المضي في هذا الطريق ليحافظ على ما للرؤية الجماعية لحكايات العائلة من نكهة التاريخ والمجتمع المنحدرة منهما، وأحيانا كانت تدركه الحيرة في تفسير الأحداث والوقائع التي تختلف بشأنها الحكايات، فلا يتردد في أن يبث قارئه تفاصيل حيرته وكأنه يطلب مشاركته في كتابة الرواية وليس مجرد قراءتها، وهذا ما يتميز به بناء هذه الروية فهي نتاج وعي جماعي ورؤية جماعية وفردية في آن واحد.

صعود أسرة

تقول الحكايات إن العائلة التي جاء منها الشيخ محمد السرسي كانت من الفلاحين، وأن صعود ابنهم الذي تعلم في الأزهر هو الذي صعد بالأسرة إلى أن يصبح أهلها سادة مدينة سرس، سواء في نهاية عصر سلطة الأتراك العثمانيين أو الاحتلال الفرنسي، حيث إن الشيخ موسي السرسي كان أثناء هذا الاحتلال أيضا عضوا في الديوان الذي أنشأه نابليون ليكون أداته في التعامل مع الشعب المصري.

وتُفصّل الحكايات في الطريقة التي تحقق بها هذا الصعود، فتشير إلى أن من أهم أسبابه - إلى جوار أخلاق الشيخ العظيمة التي كانت تجعل بعض من يهبون جزءاً من أموالهم وقفاً لأعمال الخير يشترطون أن يكون الشيخ محمد السرسي ناظراً لهذا الوقف حصول الشيخ السرسي على نصيب من «حصص الالتزام» في العهد العثماني، وهو نظام كان بمقتضاه يتم توزيع هذه الحصص على الشخصيات المهمة سواء من المماليك أو العلماء أو التجار من المصريين، فيكون على الملتزم أن يسدد للدولة ما تفرضه من ضرائب وعوائد على الأرض التي يشملها ذلك الالتزام، وفي المقابل يعود الملتزم ليحصل من الفلاحين الذين يزرعون هذه الأرض على ما دفعه للحكومة وعلى ما يستحقه هو كمنتفع من هذا الالتزام، وكان هذا النظام هو الأسلوب السائد لملكية الانتفاع بالأرض الزراعية حيث إن ملكية الأرض ذاتها آنذاك كانت للسلطان العثماني بحكم الفتح، وتشير الحكايات أيضا إلى أن الذي كان يقوم بالإشراف على كل هذه الزراعات هو الشيخ سيد أحمد الابن الأكبر للشيح موسى الذي لم يستكمل تعليمه بالأزهر، لأن اهتمامه بشئون الحياة العملية كان يفوق اهتمامه بالعلم، ثم تفصل الحكايات في أن هناك أسباباً أخرى وراء تواصل ذلك الصعود، من أهمها ما حدث بعد وفاة الشيخ محمد السرسي عميد العائلة، ثم الوفاة المفاجئة لابنه الأكبر الشيخ سيد أحمد الذي كان يدير عملياً شئون الالتزام، فقد عاد الشاب أحمد السرسي الابن الأول للشيخ سيد أحمد والحفيد الذي كان يدرس في الأزهر في رعاية جده، والذي كان الجد يأمل أن يأخذ مكانه ومكانته في الأزهر، وتقول الحكايات إن نبوغ هذا الحفيد في أمور الدين لم يكن يماثله إلا نبوغه في أمور الدنيا، لقد عاد إلى مدينة سرس بعد هذه الأحداث المفاجئة ليقود مسيرة العائلة، وفي ذهنه إدراك جديد بأن نظام الالتزام في ضوء الأحداث الجديدة بعد خروج الفرنسيين في طريقه إلى الزوال، وأن التنمية الحقيقية للثروة الزراعية تكون بالإكثار من المصانع التي تعتمد بالدرجة الأولى على الزراعة مثل مطاحن الحبوب، ومعاصر الزيوت، وأنوال النسيج المأخوذ من زراعة الكتان الذي انتشرت زراعته آنذاك، وكان هذه الاتجاه هو ما بدأت جهود الأسرة في صعودها المتجدد بقيادة ذلك الحفيد تتجه إليه، وقد أتاح هذا الاتجاه كما تقول الحكايات فرصا للعمل وللحياة الكريمة للفروع الفقيرة من العائلة، وإلى أن يشعر الجميع بأنهم يعيشون تحت مظلة من الرخاء والمتعة، هل كان ما وصلت إليه أحوال هذه الأسرة في هذه المرحلة من تاريخها هو الذي وضع بذور التماسك في هذه الأسرة، وهي البذور التي أثمرت شعورها القوي بأن سرس هي مدينتهم، وأنهم هم السراسوة بحق وأن التعليم الديني الذي حرصوا طوال تاريخهم على أن يبعثوا بأبنائهم إليه هو الطريق الذي لا طريق سواه إلى أن يكون لهم جنة في السماء وجنة في الأرض؟! وأن مدينة سرس هي فردوسهم الأرضي؟

ماذا تقول الحكايات؟ وماذا يقول الراوي الحفيد؟

تقول الحكايات إن حالة الفوضى التي سيطرت فترة على البلاد بعد خروج الفرنسيين، انتهت بعد استقرار الأمور للوالي الجديد محمد علي الذي ألغى نظام الالتزام بعد أن أصبح قادرا على أن يستولي لنفسه وبواسطة عماله وعساكره على ضرائبه وعوائده من الفلاحين، ومن دون حاجة إلى ملتزم، وبالتالي فقد زالت حصص الالتزام عن العائلة، كما زالت عن غيرهم.

وتقول الحكايات أيضاً إن العائلة التي كانت قد انشغلت بعض الوقت بأمر زواج أنبغ أبنائها الشيخ أحمد السرسي بأجمل بناتها مريم ابنة عمه وهو الزواج الذي أبدع في وصف كل ما يتصل به الراوي الحفيد مؤلف هذه الرواية، ليعيد إلى الحياة صورة من تقاليد الماضي الجميلة - هذه العائلة قد أفاقت ذات يوم وبعد شهور قليلة من هذا الزواج على الوفاة المفاجئة للشيخ أحمد السرسى الذي أوصل العائلة إلى أعلى ما وصلت إليه، ولم يخفف من هذه الصدمة المروعة إلا اكتشاف العائلة أن العروس مريم التي كانت تسميها الحكايات «ريحانة الأسرة» قد حملت منه في هذه الشهور بمولود شاءت رحمة الله أن يجيء ذكرا، فسموه أحمد الثاني وكأنه جاء تعويضا من الخالق سبحانه لموت الأب الصادم، تقول الحكايات إن مريم التي ترملت وهي لا تزال في مقتبل الشباب تفرغت لتربية طفلها وأقسمت ألا يمتد إلى جوارها ظل رجل آخر. وأصرت على إرسال ابنها بعد أن تجاوز طفولته إلى المعهد الأحمدي بطنطا ليستكمل رسالة أبيه، ويمشي على دربه، وقامت هي في البيت وفي الغيط بما يقوم به النساء والرجال للمحافظة على ثروة ابنها، ليتفرغ لدراسته، وليواصل دور أبيه.

ماذا يقول الراوي الحفيد؟

كانت الحكايات عند هذه المرحلة تقول إن مريم الجميلة عندما تذهب إلى الحقل كانت تلبس ملابس الرجال، وتلف رأسها بعمامة رجل بعد أن قصت ضفائر شعرها الطويل، وقد توقف الراوي الحفيد ابن ثقافة القرن العشرين أمام ما يمكن أن ينجم عن محاولتها قمع أنوثتها في هذه المرحلة من العمر، وأمام ما لا بد أن تتعرض له من محاولات التحرش بها ما دامت تذهب إلى الحقول من نوعية من الرجال لا يخلو منها زمان أو مكان، وماذا يمكن أن يصنعه ذلك في شخصية مريم من تأثير، ثم زجر نفسه عن التمادي في هذه المحاولة، وفي الواقع أن ما ألمح إليه الراوي الحفيد عن هذه النقطة هو أمر بالغ الأهمية في تقنية هذه الرواية التي تقوم على تعدد الرؤى، فهذا الذي ألمح إليه هو الذي سيفسر لنا في وقت لاحق من قراءة هذه الرواية لماذا وكيف نجحت مريم في الدور الذي قامت به قبيل رحلة الخروج، وهو دور لم يكن من الممكن أن تنجح في أدائه مجرد زوجة لا تخرج من دنيا البيت لتواجه دنيا العمل والناس بكل ما فيها من طيب وردئ!

نعتذر عن هذا الاستطراد الذي كان لابد منه هنا، ونعود إلى ما تقوله الحكايات عما يسميه كاتب هذا المقال:

مؤشرات الخروج من الفردوس:

الظهور المفاجئ للمملوك «قفل» الذي أقطعه والي مصر الجديد محمد على نصف الأراضي المحيطة بمدينة سرس مكافأة له على الخدمات التي أداها له في صراعه للتخلص من المماليك قبل المذبحة الشهيرة وبعدها، وكانت الحكايات قد تعرضت في وقت سابق لذكر هذا المملوك «قفل» بوصفه «مهتار الشراب القديم في قصر «نفيسه خاتون» والذي كان بينه وبين جدهم الأكبر الشيخ موسى السرسي خصومة قديمة لأنه اعتقد أن الشيخ موسى كان المتسبب في طرده من قصر نفيسه خاتون الزوجة السابقة لعلي بك الكبير».

لم يكن ظهور المملوك «قفل» في حد ذاته في مدينة سرس بعد أن أقطعه الوالي محمد علي نصف أراضيها، وفي ذات الوقت الذي بدأت تنحسر فيه عن العائلة أجزاء من ملكها بزوال نظام الالتزام يمثل لهم تحدياً خاصاً، فقد كانت البلاد كلها تتعرض لتغيرات من كل نوع، ولكن التحدي الخاص والمقلق بدأ حين دعا «قفل» أبناء عائلة السرسي إلى قصره الجديد في مدينة سرس وطلب منهم في لهجة لا تحتمل تأجيلاً أو تأويلاً أن يبيعوه مطاحنهم ومعاصرهم وأنوالهم في مدينة سرس، ومن الواضح كما تقول الحكايات أنه لم تكن هناك أدنى فرصة لمناقشة منطقية مثل هذا الطلب أو كيفيته، فاكتفوا بأن طلبوا منه مهلة للتفكير للرد على كيفية تنفيذ طلبه، وفي الواقع أن تفكيرهم بعد ذلك انصب على فهم ما وراء هذا الطلب، وما حقيقة دوافعه، فهل هو في حاجة حقاًّ إلى مثل هذه المطاحن والمعاصر والأنوال التي كانت كل ما بقي لهم بعد زوال الالتزام عنهم أم أنه لا يزال يذكر خصومته القديمة لجدهم الشيخ موسى السرسي، ويسعى إلى إذلالهم حيث لا يكون أمامهم بعد بيع هذه المطاحن والمعاصر من وسيلة للعيش، سوى أن يعمل رجالهم أجراء في أرضه، ونساؤهم خدماً في قصوره!؟

لقد طلبوا منه مهلة للتفكير، ولكن هذه المهلة لم تسلمهم إلا إلى حيرة أشد فما الذي يمكن أن يفعلوه حقاًّ أمام هذه القوة الغشوم المتغطرسة، التي لا تجدي معها الحكمة ولا تتعادل القوة، وأمام نظام جديد للدولة لم يتضح لهم من معالمه سوى أن هذا المملوك يحظى برعاية الوالي الذي يقف على رأسه!

المشكلة أن المملوك «قفل» لم يحتمل هذه المهلة فقد بلغهم أن عدداً من رجاله دهم مطاحنهم ومعاصرهم فنثروا أجولة الدقيق، وأهرقوا الأواني الملأى بالزيوت، وسحبوا الثيران والخيول التي كانت تدير هذه المطاحن والمعاصر إلى حظائر المملوك قفل!

مرة أخرى يذهب رجال العائلة إلى قصر المملوك يطلبون منه على الأقل أن يرد عليهم خيولهم وثيرانهم، وحتى يمكنهم الوصول إلى حل في أمر البيع، ولعلهم فوجئوا هذه المرة باستجابته لطلبهم، وتفسيره لما حدث بأنه بسبب غضبه لما سمعه من أن زوجة لأخيهم اسمها «مريم» لا تكف عن سبه أمام الرائح والغادى، فنفوا بشدة أن تفعل امرأة أخيهم شيئاً كهذا، وطلبوا منه أن يقدم لهم من سمع منهم ذلك القول، فلم يستجب لطلبهم، وتركهم يتأملون الحجم الحقيقي للمصيبة التي عليهم أن يواجهوها!

المملوك القديم إذاً لا يكتفي بإذلالهم بل طامع فى زوجة أخيهم الذي صنع لهم فردوسهم الذي يتهدده الفقد وهذا ما يربك كل حساباتهم، وقبل أن يصلوا إلى رأى أو تقدير بلغهم النبأ الأخطر أن المملوك اقتحم مع بعض رجاله دارهم في غيبتهم ليرى بعينيه تلك المرأة التي حدثوه عن سبها المتكرر له، وحين خرجت له مستنكرة دخوله إلى بيت في غيبة أصحابه لم يحر جوابا سوى أنه أعلن «أنه لم ير فى حياته امرأة بمثل هذا الجمال».

يقول الراوي الحفيد:

عند هذه اللحظة بدا كأن حيرة العائلة قد انتهت وأن القرار الذي كانوا يبحثون عنه برز في وقت واحد في عقولهم جميعا، وأنهم لم يعودوا في حاجة إلى أن يتناقشوا حوله أو فيه؟!

عند هذه اللحظة يسجل الراوي الحفيد بعضاً من أروع صفحات هذه الرواية، إنه لم يقل أبداً في أي سطر من هذه الصفحات كلمة واحدة عن طبيعة هذا القرار، ولا أشار أدنى إشارة إلى المناقشات التي دارت حوله أو أدت إليه، ولكن اكتفى في هذه السطور بأن يصف سلوك هؤلاء الذين أتخذوا هذا القرار حيال ما يحيط بهم من زمان أو مكان، وحيال ما تعودوا أن يقوموا به من فعل أو قول!

ومن خلال هذا الوصف الرائع يوشك هذا القرار أن يتسلل إلى عقل القارئ.. فهم ينظرون إلى الحقول وإلى الدور وكأنهم يرونها لأول مرة أو لآخر مرة فتكاد تهجس أنه قرار رحيل، ولكن أشياء أخرى يتم رصدها ووصفها فتكاد تهجس أن أمرا خطيراً لابد أن يحدث قبل هذا الرحيل، وأن أمورا أخرى يتم الإعداد لها لابد أن تسبق هذا الأمر الخطير! وأن بعض هذه الأمور منوط بمريم أرملة أخيهم الذي أوصلهم إلى مكانتهم العالية، لقد نطق أحدهم بكلمة واحدة جعلها الراوي الحفيد عنوانا لهذا الفصل في هذه الرواية « إذا كانت النهاية فلنجعلها لا تنسى».

كان القرار إذن قرار قتل المملوك «قفل» والخروج من مدينة «سرس» إلى مكان بعيد آمن، وهذا كله يحتاج إلى تدبير ووقت، وكانت حاجتهم إلى الوقت لكي يحولوا ما يمكن تحويله من ممتلكاتهم في سرس إلى أموال يسهل حملها إلى ذلك المكان البعيد الآمن، أما التدبير فلكي يكون الإيقاع بمثل هذا المملوك أمرا ممكنا، وفي الواقع أن جملة التصرفات التي قام بها المملوك «قفل» وما بها من نزق وجنون وصلف هي التي اقترحت عليهم أن تقوم مريم زوجة أخيهم الجميلة التي يسيل لعابه عليها بدور لجذبه إلى مصيره المحتوم، وفي الوقت الذي يناسبهم، وكانت خلاصة هذا الدور أن تجعله يفهم أنها من أجل أسرتها مستعدة لأي تضحية، لكن يجب أن يكون ذلك بشكل لا يسبب لها فضيحة.

وهنا تجيء اللحظة المناسبة لنذكر قارئ هذا المقال بذلك الاستطراد السابق حول الإشارة إلى ما سبق من زجر الراوي الحفيد لنفسه عن الإمعان في وصف التأثير الذي يمكن أن يحدث في شخصيتها نتيجة قمعها لأنوثتها، وخروجها لدنيا العمل بما فيها من طيب ورديء لقد كانت هذه الإلماحة من الراوي الحفيد هي التي تجعلنا الآن نفهم ونتقبل بلغة الواقع، وبلغة الفن في وقت معا إمكان مثل هذا الاقتراح!

وبشكل عام فإنه يحسب للراوي الحفيد مؤلف هذه الرواية أنه لم يدخل بشكل مباشر في مناقشة الطريقة التي وصلت بها الأسرة إلى قرارها سواء بشأن الرحيل أو بشأن القتل لا من خلال الحكايات ولا من خلال تعليقاته مع أنه بالقطع كانت هناك مثل هذه المناقشات.

لقد ترك الباب مفتوحاً للقارئ ليفهم كل بطريقته كيف وصلت الأسرة التي يمثل التدين جزءاً من أهم ملامحها إلى مثل هذين القرارين.

وأسمح لنفسي كقارئ لهذه الرواية أن أقدم تفسيري الخاص لهذين القرارين، فالقرار بالرحيل جاء أولاً ونبع من شعور قوي بأنهم أسرة واحدة تنتمي إلى الشيخ محمد السرسي وأنهم السراسوه أهل هذا البلد وأن هذا المملوك قفل لن يسمح لهم بالبقاء بهذه الكيفية، ولو فكر كل واحد منهم في الأمر كفرد لا يهمه سوى شخصه، لأمكنهم جميعاً أن يبقوا في كنف المملوك كتبة في دوائره ونظاراً على مزارعه ورؤساء عمال في مطاحنه ومعاصره، أما التفكير في القتل فربما رأوه كثمن نصف عادل لخروجهم من فردوسهم الموعود!

فالفكرة التي سوف يكتشفها قارئ الجزء الأخير من هذه الرواية الذي آثرت ألا أتطرق إليه هو أن كل ما فعله الشيخ أحمد السرسي في أسلوب صراعه مع صديقه الشيخ عبد الله الجياصي ليفوز بشكل قانوني بأراضيه الواسعة يؤكد أنه ربما أدرك بعد رحلة الخروج أن المكان البعيد الآمن الذي كان يحلم بالوصول إليه لن يكون أبداً مكاناً في الجغرافيا أو زماناً في التاريخ، بل سيكون دائماً مكاناً في العقل، منحى في التفكير، رؤية للحياة قادرة على أن تكتشف نقاط الضعف عند القوي ونقاط القوة عند الضعيف، ودائماً تعتمد الذكاء والبصيرة والخيال والصبر.

 

 

أبو المعاطي أبو النجا