وجه من وجوه لبنان!

وجه من وجوه لبنان!

جاء وقت كان فيه لبنان - جحيم العصبيات الطائفية والمذهبية - الآن جنّة التسامح والانفتاح على الآخر وقبوله، ولدرجة إمحاء الحدود والفروق مع هذا الآخر في أحيان كثيرة.

فها هو الشاعر القروي رشيد سليم الخوري، الأرثوذكسي المذهب، يذكر في وصيته، قبل رحيله بسنوات قليلة، أنه يتنازل عن أرثوذكسيته ليعتنق نحلة دينية كانت سائدة في القرون الأولى للنصرانية اسمها «الأريوسية»، وذلك لسبب جوهري، هو أن تصوّرها لشخصية المسيح مماثل لتصور القرآن له. بحسب الأريوسية المسيح نبي من أنبياء الله وليس شيئا آخر. وكانت غاية القروي من اعتناق وجهة نظر «آريوس» هذه، الالتقاء مع المسلمين، فإذا حصل ذلك وعادت الآريوسية إلى الازدهار من جديد، لم يعد هناك بنظره ما يمزّق الأمة أو يفتّت قواها. كما ذكر القروي في وصيته تلك، إنه يرغب في أن يصلّى على جثمانه بعد موته، راهب نصراني ورجل دين مسلم، وذلك لتأكيد توزّعه على الديانتين معاً.

وقد أنشد القروي مرة، في القاهرة ودمشق، بعد عودته من مغتربه بالبرازيل قصيدة حمل فيها على الشعوبية والانعزالية جاء فيها:

شغلتُ قلبي بحبّ المصطفى وغدت
عروبتي مَثَلي الأعلى وإسلامي

وأذكر أننا جلسنا عندما وافته المنية، في مجلس العزاء نستذكر، مع نفر من أصدقائه ومحبيه، تاريخه الوطني والقومي، فسمعتُ من أحد الكهنة - الأرثوذكسي أيضاً - حديثاً قد يستغربه البعض، وقد لا يصدّقه. قال هذا الكاهن، وهو من منطقة البترون بشمال لبنان، إنه كان صديقاً حميماً للقروي الذي كان يقصده، بين وقت وآخر، من أجل أن يرتّل عليه هذا الكاهن، الحسن الصوت، ما تيسّر من آيات القرآن.. أي أن شاعراً مسيحياً يقصد راهباً مسيحياً لكي يرتّل له آيات من الذكر الحكيم.

وإلى اليوم، لاتزال كلمات هذا الراهب ترنّ في أذني: «كنتُ ألمحه من بعيد قادماً إلى منزلي فأهرع إلى الباب لأفتحه له وعلى فمي ابتسامة لأنني كنتُ أعرف ماذا يريد مني. وقبل أن يجلس على الكرسي في صالون المنزل، كان يقول لي متلهفاً: «دخيلك ياأبونا أحبّ أن تسمعني آيات من القرآن». وكان هذا ذروة اللقاء الحميم بين المسيحية والإسلام.

وقد روى المطران جورج خضر، وهو من مطارنة الطائفة الأرثوذكسية أيضاً، في مقال حديث له في جريدة «النهار» اللبنانية ما يفيد أن الأب يواكيم مبارك، وهو ماروني، كان موزعاً على المسيحية والإسلام أيضاً. ومن قبيل ذلك أنه خلال احتفال ديني أقيم في لبنان تناول يواكيم مبارك القرآن وقرأ بعض آياته، وطفق يشرحها وسط دهشة المؤمنين الذين توقعوا أن يتناول آيات من الأناجيل ويقوم بشرحها، لا آية آيات من أي كتاب آخر، وبخاصة من القرآن بالذات.. يلخص هذا الموقف من الأب يواكيم مبارك خير تلخيص شخصية هذا الراهب الذي تتلمذ في جامعة باريس على المستعرب الفرنسي الكبير لوي ماسينيون الذي كان عاشقاً مثله للإسلام. وقد أمضى يواكيم مبارك سنوات طويلة بعد ذلك سكرتيراً لماسينيون وصديقاً حميماً له. وكتب مثله كتابات عن الإسلام، وعن التصوف الإسلامي على الخصوص، تفيض حباً وولهاً. وخلال الحرب اللبنانية التي نشبت عام 1975، حاول مبارك القيام بدور توفيقي بين فرقاء الصراع، فكان يتنقل يوميا بين «الشرقية» و«الغربية» محاولاً وموفقاً، ومعوّلاً في ذلك على صلات كانت تربطه برئيس الحزب التقدمي الاشتراكي كمال جنبلاط، على الخصوص. إلا أنه كان من الطبيعي أن تخيب محاولاته لأن الصراع وقتها لم يكن صراعاً داخليا صرفاً.

أمثلة لا تحصى

يمكن للمرء أن يستلّ من التاريخ السياسي والثقافي اللبناني الحديث والمعاصر ما لا يُحصى من الأمثلة على نماذج لبنانية كانت في الواقع تُدين بالحب - على حدّ تعبير ابن عربي في قصيدته المشهورة - لكل الأديان لا لدين واحد معين بالذات. لم يكن التمذهب أو التعصب قد عرف طريقه إلى القلوب والعقول بعد، وكانت السماحة تملك على القلوب. فها هو الشاعر بولس سلامة يكتب ملحمة شعرية اسمها «يوم الغدير» في تحية ثورة الشهيد الحسين بن علي. وها هو الشيخ عبدالله العلايلي العلامة الكبير المرشح لمنصب الإفتاء السني في لبنان، يؤلف كتابين عن الحسين ويتعاطف مع قضيته. وها هو الشاعر وديع عقل يقول يوم تكريم المعلم عبدالله البستاني، واضع معجم «البستان» وأستاذه في مدرسة الحكمة، محيّياً أستاذه بقصيدة منها:

أمعلم الفصحى وربّ بيانها
هذا مقامُك في بني قحطانها
وفدوا وهم أمراؤها وملوكها
ليبايعوك وأنت فردُ زمانها
أنهى إليها أن حجتها على عرش
البلاغة قام في لبنانها
في دولة عربية مدّت إلى الأصلاب
والأرحام من غسانها
نسبٌ به الأرزيُّ يستعلي على
الأنساب مفتخراً على غرانها
ما كان لبنانٌ على استقلاله
إلا حمى العرباء منذ كيانها
متوثقٌ صلةً بها، فلسانُهُ
بلسانِها، وجناته بجنانها
يحنو على أمّ اللغات محاذرا
أن يستقرّ عليه غير حنانها

هذه القصيدة ألقاها وديع عقل في مدرسة الحكمة في العشرينيات من القرن الماضي، وفيها يعلن عروبته وعروبة لبنان، وكون الضاد هي الجامع المشترك للأمة العربية وعن لبنان والأمة العربية يقول وديع عقل قبل أكثر من تسعين عاماً من اليوم:

هو بيتُ أنجبِ أمةٍ عربيةٍ
نشرتْ على الدنيا لواءَ بيانِها
عربية في دينها فالضاد في
إنجيلها، والضادُ في قرآنها
والضادُ في توراتها وحديثها
والضادُ في ترتيلها وأذانها
والضاد في أكواخها وقصورها
والضادُ كلُّ الضاد في «بستانها»
في معجم كالسور حاط أصولها
ليردَّ كيدَ الدهرِ عن ديوانها
فلتعلمِ العربُ الكريمةُ أنها
حظيتْ بأمنعِ ضابطٍ للسانها

ولنتأمل هذا الصفاء في رؤية شاعر لبناني مسيحي لهوية بلده، وهنا الحب العميق لأم اللغات في جنانه.

وكان هناك في الجهة المقابلة من النهر من تعامل بحبّ مع المسيحية فانتقل إليها انتقالاً هادئاً بسيطاً. فها هما أستاذان من ألمع أساتذة الجامعتين الأمريكية واليسوعية هما الدكتوران ماجد فخري وعفيف عسيران، وكانا على المذهب الشيعي، يتحولان إلى المسيحية دون أن يثير ذلك حفيظة أحد أواحتجاجه، فقيهاً كان أو غير فقيه. ولم يكتفِ عفيف عسيران بهذه النقلة، بل أصبح راهباً فيما بعد.

وقفة خاصة

على أن الشاعر أمين نخلة الذي كان رياض الصلح زعيم المسلمين وأحد أبطال الاستقلال لعام 1943 يرشحه لرئاسة الجمهورية، جدير بوقفة خاصة نظراً لانبهاره الشديد بالإسلام، واقترابه منه اقتراباً هو أقرب إلى الوَلَه والعشق منه إلى أي شيء آخر.

كان أمين يعتز اعتزازاً شديدا بعروبته وبلغته العربية ويرى أنهما أثمن ما في الوجود. وللقرآن عنده منزلة لا تعلوها منزلة أي كتاب آخر. فتحت عنوان «الكتاب المعجز» ورد في كتابه «في الهواء الطلق» ما يلي: «ما قرأتُ في القرآن قطُّ، وتلقفتني تلك الفصاحة من كل جهة، وشهدتُ ذلك الإعجاز الذي يطبّق العقل، إلا وصحتُ بنفسي: «إنجي، ويحكِ، فإني على دين النصرانية».

أي أنه كان يهيب بنفسه ألا تندفع إلى ما لا يتجاوز الإعجاب والانبهار، فهو ينبهها إلى أن للإعجاب حدوداً، ذلك أنه على دين النصرانية!

ومن قصيدة لأمين نخلة هذا البيت الذي يفخر فيه بأن قصيدته عربية كالشمس في حين أن الإنجيل معرّب:

أستغفرُ الإنجيلَ أن قصيدتي
عربيةٌ كالشمسِ وهو معرّبُ!

وهو قمة في الانحياز إلى قومه ولغته، وفي البحث عن القربى، وعن الجامع والمشترك. وفي مقال له في «كتاب الملوك» يروي أمين نخلة قصة مواطن لبناني مسيحي كان يمرّ يوماً في شارع من شوارع العاصمة الفرنسية على مقربة من جامع بباريس، وهو مسيحي من عندنا، من بلاد الجبل، درس الطب هنالك، وتملى من لغة الجماعة، ومن تاريخهم، وطرائق الأخذ والعطاء عندهم في كل دقيقة من دقائق المخالطة، أكثر مما يعرف من أشيائنا بكثير، قال: إنه فيما هو يسير ذات مرة في شارع كاتر فارج، على مقربة من جامع باريس، بعيد الخاطر عن هذه الأرض اللبنانية، إذا تكبيرة تنطلق من المئذنة، وتتعالى على الجلبة الباريسية، فأُخذ صاحبنا ببغتة حلوة ملأت فؤاده. قال: فلم أتمالك أن حوّلت طريقي، وغشيت ساحة المشهد، حيث قضيت بعض الساعة، بين تلك القناطر والقبب، وكأني في سربي في لبنان، أنظر إلى منازلهم، وأصغي إلى أحاديثهم، على أن بيني وبينهم سماوات ومغازات»!

ويضيف أمين نخلة: «هكذا جمع محمد «صلى الله عليه وسلم» إليه بفضل العربية في رسالته، والعروبة في نعرته، هذه القلوب العربية من كل ديانة حتى يبيت يجد صديقنا ذاك، تحت مئذنة الجامع، وفي دار الغربة - وهو ابن المسيحية كما رأيت، ما لا يجده تحت قبة الكنيسة. ذلك حيث إن اللغة، في باب الميول وترك الطبع على عنانه، هي فوق الدين، والعصبية القومية وفوق العصبية الطائفية»!

محمد نغمة لا كلمة

وكان أمين نخلة بدأ مقاله هذابالحديث عن الرسول العربي محمد «صلى الله عليه وسلم»، فقال: «محمد نغمة لا كلمة - لفرط ما سمعت على شفاه الخلائق! - تأخذ بالسمع قبل الأخذ بالذهن، وتفيد خفة الحروف، وحلاوة اللفظات، قبل أن تفيد العلاقة بالله، وليس على بسيط الأرض عربي لا ينفتح صدره له، ولا ترجّ جوانب نفسه. فمن لم تأخذه بالإسلام، أخذته بالعروبة، ومن لم تأخذه بالعروبة، أخذته بالعربية. وفي هوى محمد - ولا حرج في التمسك بالقومية والكلف باللغة، كما لا حرج في الدين.. - تتلاقى ملّتا العرب: ملّة القرآن وملّة الإنجيل، حتى كأن الإسلام إسلامان: واحد بالديانة، وواحد بالقومية، وللغة. أو كأن العرب مسلمون جميعاً حين يكون الإسلام هكذا: هوى بمحمد، وتسمكاً بقوميته، وكلفاً بلغته. ومحمد لا تستطيع طائفة في العرب أن تنفرد بالتجاهي به!

فهو، فضلاً عن كونه للخلق كلهم، حيث يتشبهون بأكرم الآدميين في حفظ النفس، وحفظ الجار، وحفظ الله، في الأجدر أن يكون للعرب كلهم حيث نتشبه فوق ذلك بأبلغنا في الفصحى، وأنهضنا في الجلّى، يوم حطّ الكفة بعرب، وشيلانها بأعجام!

وهناك شاعر لبناني آخر هو الياس طعمة الذي سمّى نفسه أبوالفضل الوليد، لم يقنع بأن «يجاور»، كما فعل كثيرون من الشعراء النصارى اللبنايين، بل اعتنق الإسلام ودخل في دين الله، وله ديوان مطبوع صادر عن دار الثقافة في بيروت يفيض إيماناً بالعرب ودينهم وتاريخهم وتراثهم.

وطن الجميع

ومن يقرأ ديوان الأخطل الصغير بشارة عبدلله الخوري تلفته هذه الحرارة في عروبته ودفاعه عن كل القضايا العربية وفي طليعتها قضية فلسطين. ولعله بشعره العروبي هذا، وبتصويره للبنان على أنه «وطن الجميع» الواضع الأول «للميثاق الوطني اللبناني» وهو شرعة الحياة الواحدة والعيش المشترك للبنانيين:

لبنان كم للحسن فيكَ قصيدةٌ
نثرت مباسمها عليها الأنجمُ
كيف التفتّ فجدول متأوّهٌ
تحت الغصن وربوةٌ تتبسّمُ
وطنُ الجميعٍ على خدود رياضه
تختالُ فاطمة وتنعمُ مريمُ!

على أن هناك ما لا يُحصى من الأمثلة على توافر هذه المحبة البيضاء والصادقة التي اجتاحت قلوباً ولهى وجدت في الأديان السماوية كلها، وفي كل ثقافة إنسانية، رياً لقلوبها وغذاء لعقولها دون أن تقف في وجهها حدود أو سدود. والواقع أن من الممكن للباحث أن يعثر على نماذج بلا حصر لهذه النخب المسيحية والإسلامية اللبنانية التي لم يتمكن التعصب من الاقتراب منها، أو يجعلها خاضعة لسلطته التي كثيراً ما خضع لها كثيرون سواء في الماضي أو في الحاضر.

فإذا انتقلنا إلى حقل آخر، قريب من الحقل الذي نتحدث عنه، هو حقل خدمة «العربية»، لغة القرآن ولغة أهل الجنة، وجدنا نصارى لبنان فرسان هذا الحقل وحماته البواسل. ولأمين نخلة بالذات، محاضرة منشورة في أعماله النثرية الصادرة عن المؤسسة الجامعية في بيروت، يسرد فيها مؤلفات اللبنانيين في المعاجم والقواميس وكتب الصرف والنحو، وهي بالمئات، ومتواصلة منذ بدايات عصر النهضة إلى اليوم. بل إن هناك عائلات لبنانية انصرف أفرادها إلى خدمة العربية وتخصصوا في أدبها وشعرها وبيانها مثل آل البستاني وآل اليازجي وآل المعلوف. ولهذه الأُسَر دور جليل في التعليم أيضا. وقد أحصى بعض الباحثين سبعين شاعراً من آل المعلوف.

وقد ظل الاهتمام باللغة العربية قوياً في لبنان حتى ظهر علم الحساب والمحاسبة والحاسوب والإنترنت عندها تراجعت علوم اللغة لتتقدم عليها علوم الحديث ولغات هذه العلوم. وإلى وقت قريب كان المفكر اللبناني الكبير منح الصلح يقول: إن العروبة في «الغربية»، في حين أن العربية في «الشرقية»، والغربية هنا هي بيروت الغربية التي أكثر سكانها من المسلمين المتحمسين للقضايا العربية، في حين أن «الشرقية» هي رمز للمنطقة المسيحية من بيروت، التي كانت شديدة الحرص على اللغة وبيانها وبلاغتها.

ولكن العربية، ومعها العروبة، تتقهقر الآن لا في لبنان وحده، بل في كل مكان من ديار العرب لمصلحة اللهجات العامية ولمصحلة النزعات القطرية والانعزالية والمذهبية وسائر علل المجتمعات المتخلفة. فكيف إذا وجدت هذه النزعات مدداً لها في السلاح وتنكرت للهوية العربية ولبديهيات الانتماء إلى العروبة؟

على أن هذا الوجه المستنير المضيء للبنان وجه خالد في تاريخه وفي تاريخ العربية والعروبة. وجه يعود إليه المرء اليوم يستلهمه ويستضيء به في غمار الظلام السائد اليوم.

--------------------------------------

كثبان رملك واحة معطار
وأجاج بحرك سكر وبهار
يا موطن الهولو الذي غنت له
من أمس أمس سواحل وبحار
يا ساحل الفيروز حيث سفينة
ملء البحار كأنها الأقمار

محمد الفايز

 

 

جهاد فاضل