التلفزيون وتشكيل سلوك الطفل جمانة رشيد شومان

التلفزيون وتشكيل سلوك الطفل

لقد حلت وسائل الإعلام محل الوالدين والمدرسين في نقل العلوم والمعارف إلى الأفراد، فأصبح التعليم يتم خارج المدرسة، وأصبحت كميات كبيرة من المعلومات التي تنقلها الصحف والإذاعات ومحطات التلفزيون في أيامنا هذه تفوق بكثير كميات المعلومات التي ينقلها مدرس المدرسة.

ويعتبر التلفزيون من أخطر الوسائل الإعلامية، لأن تأثيره يفوق تأثير الوسائل الإعلامية الأخرى، حتى لقب "بالوالد الثالث" الذي يحتل مرتبة مهمة في الأسرة، تلي مرتبة الأب والأم، وهو ليس ضيفا دائما على الأسرة فحسب بل هو مشارك في مسئولية إعداد وتربية الأطفال. ولأن العقل الإنساني يبدأ طريق المعرفة بالدهشة، فإن دهشة الأطفال بهذه الوسيلة الجذابة "التلفزيون" لا تنتهي، ومع استمرار الدهشة يتقدم عقل الطفل إلى مراحل التقليد والتعلم إلى أن نجد الطفل في النهاية وقد تشكلت شخصيته وثقافته، والتلفزيون هو العامل الرئيسي المنافس لدور الأهل والمدرسة في هذا المجال.

إن الأسرة والمدرسة والأصدقاء ووسائل الإعلام تكسب الطفل وتعلمه عاداته وتقاليده، وقيمه، أي تكسبه العوامل الاجتماعية في شخصيته، وباندماج وتكامل العوامل "الموسيقى- الألوان- الحركة- الأشكال الجذابة"، بالإضافة إلى ألفة الأطفال للمذيعين ومقدمي البرامج لتكرار مشاهدتهم مع برامجهم المفضلة. ولا ننسى أن عامل الوقت الذي يقضيه الطفل أمام جهاز التلفزيون يعتبر هو الأساس الذي يجعل التلفزيون من أهم الـوسائل الإعلامية تأثيرا في سلوك الأطفال. ويرى بعض العلماء أن الأطفال عندما يشـاهدون برامج عدوانية سوف يسلكون سلـوكـا عدوانيا بعدها مباشرة ولا يدوم هذا السلوك طـويلا، ولكن باحثين آخرين يقولون إنه قد يكـون هناك مؤثرات معينة أحدثت تأثيرها عند الطفل، لكن نتـائج هـذا التأثير لا تظهر مباشرة بل تنتظر عوامل داخلية وخارجية في الطفل توقظه ليظهره، فقد يظهر في حالة البلوغ أو المراهقة أي بعد حـدوث التأثيرات بسنوات عديدة.

التلفزيون والسلوك العدواني

إن للتلفزيون تأثرا فعالا وحيوياً في السلوك العدواني عند الأطفال، وفي الجوانب المعرفية والتعليم الاجتماعي والتنشئة الاجتماعية، وإن فعالية هذا التأثير تزداد عندما يكون لدى الطفل الاستعـداد النفسي لمثل هذه التأثيرات، وعنـدما تساعـد ظروف الأسرة على ذلك وعندما يكـون الطفل في مرحلـة عمرية تساعد على حـدوث مثل هـذه التأثيرات. أمـا فيما يتعلق بأهميـة التلفزيـون على الصعيـد التربوي فيقول وايتهاد "إن أفضل تربية هي في الحصول على المعلومات بأسهل وأبسط طريقة ووسيلة".

مع التطور والتقدم التكنولوجي ازدادت أهمية الفكرة التي طرحها وايتهاد "فالبساطة تسمح بالحصول على أفضل مـردود بين التعليم والاكتساب، وعلى الرغم من تطور نظريات التربية وطرق التعليم فإن مبدأ "المعلومات المبسطة هي أسهل للحفظ" يبـدو غير قابل للنقـاش، وحتى النظريات السيكولوجية التي هي أساس التعليم المبرمج تقول بمبـدأ تحويل الأفكار المعقدة إلى أخرى مبسطة". ويعلق الباحثون أهمية خاصة على التلفزيون بالنسبة للدور الذي يلعبه في صقل السلوك الاجتماعي للأطفال. وعندما يتحدث الباحثون في هذا المجال عن التلفزيون التربوي فالمقصود بذلك التلفزيون التعليمي، والتعليم المتلفز معا.

التلفزيون التعليمي يقدم البرامج والأفلام التى تهدف إلى تعليم المشاهدين بطريقة غير مباشرة، مركزا على قدرتهم لفهم واستيعاب المواضيع المعروضة أمامهم.

أما التعليم المتلفز فنعني به البرامج التعليمية المباشرة التي تقوم على عرض التجارب وتسجيل الملاحظات. لكن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه في هذا المجال هو التالي: كيف نحدد التعليم الجيد؟.

- إن التعليم يعني اكتساب المعارف بواسطة الآخرين.

والاكتساب يؤدي إلى تغييرات ملحوظة وملموسة وبالإمكان قياسها في تصرف الطالب.

- والتعليم الجيد يعني اكتساب الطلاب لأهليات جديدة، بمعنى أن المعلومات التي حصل عليها الطالب، قد فهمها واستوعبها وتعمقها. إن كلمة "الجيد" لا يمكن تحديدها بعبارات عامة. والبرنامج التلفزيوني التربوي الجيد يتعلق بوظيفته التي تتعلق بدورها بالحاجة التربوية التي يفترض فيه إشباعها. إن الذين يؤيدون فكرة التعليم المتلفز يؤكدون أن له عدة إيجابيات ويبنون حكمهم على إيجابية التعليم المتلفز بالاستنتاج التالي:

"إن كلى درس في المنهاج المدرسي أو حتى الجامعي ابتداء من درس الحساب الابتدائي وحتى الدروس المتخصصة في المرحلة الجامعية، يعلم بطريقة أو بأخرى بواسطة التلفزيون".

إن الإيجابيات المباشرة للتعليم المتلفز، يمكن تلخيصها على الوجه التالي:

1- بالإمكان الاستعانة بأفضل المدرسين لتسجيل الدروس التلفزيونية.

2 - بإمكان التلفزيون أن يصل إلى أكبر عدد ممكن من الطلاب في نفس الوقت.

3 - بالإمكان الاستعانة بتقنيات الإنتاج المتوافرة والمتعددة لشرح الدروس.

4 - يمكن متابعة الدروس المتلفزة في المنزل بطريقة منتظمة أو مرحلية والأهم هن ذلك أنه بإمكان كل أفراد العائلة متابعتها. ولبلورة موضوع التلفزيون التربوي لا بد من الاهتمام والتركيز على موقف الأطفال من هذا النوع من التعليم.

لاحظ الباحث الاجتماعي- التربوي ويلبر شرام- أن الأطفال في الولايات المتحدة الأمريكية يعتبرون التلفزيون وسيلة وأداة للتسلية ويحصرون مفهوم التربية والتعليم بالمدرسة بالدرجة الأولى.

إن مواقفهم إزاء برنامج "تربوي جدي" هي بصورة عامة سلبية، لذلك فهم غير متحمسين لمشاهدة مثل هذه البرامج على حساب برامج التسلية والترفيه ويخص شرام إلى القول إنه من المنطقي الافتراض أن استعمال الطفل للتلفزيون لغاية تربوية في مرحلة السنوات الدراسية الابتدائية سوف يحدد وبشكل كبير إلى أي مدى سيستعمل هذه الوسيلة لهذه الغاية في مرحلة المراهقة. ويرى الباحثون أن البرامج التلفزيونية التعليمية كي تكون فعالة يجب أن تكون من نفس المستوى المهني للبرامج التلفزيونية العامة.

إضافة إلى أن هذه البرامج يجب أن تلتقي وتنسجم مع المبادئ التي تحكم عمل المؤسسات التعليمية والتي يمكن تلخيصها بثلاث كلمات:
النشاط- الحافز والمحرك- تجسيد المفاهيم الملموسة.

أي بمعنى آخر يجب أن تشكل هذه المبادئ منطلقا وإطارا عاما لإنتاج البرامج التعليمية. إن التطور السريع لوسائل الاتصال في مختلف أنحاء العالم، وتوسع انتشار مختلف أشكال الاتصال الجماهيري ولا سيما الاتصال المرئي والمسموع، إضافة إلى تعميم المعلوماتية، كل ذلك قدم آفاقا جديدة ومتعددة للعلاقات بين الاتصال الجماهيري والتربية. وببثه وبتقديمه قيما تربوية متزايدة خلق التلفزيون محيطا تربويا وأصبح هو بحد ذاته هدفا تربويا، في حين خسر الجهاز التربوي الأساسي أي المدرسة احتكاره لعملية التربية. إن التربية هي أداة أساسية تعلم الناس حسن الاتصال فيما بينهم بهدف استخلاص أفضل فائدة من التبادل الاجتماعي. وتوجد علاقة متبادلة بين الاتصال والتربية في تطور وازدياد مستمرين.

إن القيمة التربوية للإعلام والاتصال، خاصة أثرهما في إعداد وصقل العقول والنفوس البشرية، ترتدي أهمية رئيسية وأولية في نظر المفكرين، الباحثين، والحكام خاصة في بلدان العالم الثالث.

إن التأثير التربوي لوسائل الاتصال الجماهيري عامة وللتلفزيون خاصة لا يمكن تجاهله، حتى عندما يكون مضمون الرسائل الإعلامية المبثوثة بعيدا عن الطابع التربوي.

إن الدور التربوي للتلفزيون ينبع وينبثق من كون البرامج التي يقدمها ويبثها تتجاوب مع الحاجات المتغيرة والمتطورة للمجتمع.

إن التزايد المستمر لحجم المادة الإعلامية المرسلة يوميا إلى طبقات اجتماعية جديدة وفي أماكن متعدد، أعطى الانطباع بأن الوصول إلى المعرفة بات حرا، وأن المسافات الاجتماعية يمكن إزالتها والأسرار المهنية يمكن إفشاؤها.

إن المعرفة التي تقدمها وسائل الإعلام والتي تتراكم كل يوم ترتدي طابع "الموزاييك" الذي لا يتناسب إطلاقا مع الطبقات الفكرية التقليدية. وبغض النظر عن القيمة الواضحة للمعارف التي يقدمها التلفزيون وسواه من وسائل الاتصال الجماهيري، لا بد من الإشارة إلى السمة لهذا الإعلام حيث الأولوية هي لبث الإعلام المثير، أو السطحي، والذي بإمكانه إحداث ضجة ولو على حساب الرسالة الإعلامية الحقيقية.

في العديد من البلدان قامت محطات التلفزيون بإنتاج برامج تربوية مهمة ومفيدة تهدف إلى إكمال وتعميق البرامج المدرسية والجامعية، إضافة إلى إنتاج البرامج الموجهة إلى المزارعين والراشدين الذين هم بحاجة إلى معارف تقنية.

في بعض البلدان المتطورة أنشئت محطات تلفزيونية خاصة لبث مثل هذه البرامج، في حين خصصت بعض البلدان الأخرى جزءا من أوقات بثها الأساسية، لعرض برامج تربوية واكتسابية.

يعد هذه البرامج عادة التربويون بالتعاون مع رجال التلفزيون، وعندما يغيب هذا التعاون تنعكس النتيجة سلبا على طبيعة وأسلوب البرامج التربوية والتلفزيونية.

التوازن بين التربية والاتصال

إن البحث عن توازن بين "التربية والاتصال" يعبر عنه بوجهتي نظر مختلفتين: بالنسبة للبعض تتولى وسائل الإعلام والاتصال نقل المعارف المعاصرة، في حين تقع على عاتق المدرسة مهمة نقل التراث. ويرى آخرون أن المدرسة يجب أن تضطلع بتأمين المعرفة الاجتماعية الفعالة التي تؤهل الطالب للوصول إلى أرقى الرتب العلمية، فيما تضطلع وسائل الإعلام بمهمة التسلية والترفيه وتضم نفسها في خدمة التبادل والتفاهم الدولي.

باختصار فإن التربية هي في الأساس محاولة وسعي لتزويد الفرد بشكل عام والطفل بشكل خاص، بأنماط التعليم وأنظمة من التفكير الحر بهدف تنمية قدراته، وتنمية الإبداع عنده وبالتالي تكوين مواطن صالح متوائم مع عالمه، مع مجتمعه ومع ذاته، وهكذا فإن كل ما يبث عبر جهاز التلفزيون يمكن أن يربينا على نحو أو آخر، إنه إذن يعلمنا رغما عنا. وهنا تكمن الخطورة أن حتمية الترابط والتداخل بين "التربية" والتلفزيون تدفعنا للتساؤل عن أفضل السبل لجعل هذه العلاقة قدر الإمكان مثمرة وإيجابية وفعالة. وكل جهد يبذل في هذا الاتجاه يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الطبيعة المميزة لكل من هذين المفهومين: التربية والإعلام.

بطبيعتها لا تستطيع "التربية" تجاهل نقل الأعراف والقيم الثقافية الموروثة عن الماضي. من هنا يولد التناقض بين التربية والإعلام، فإذا كان الدور الأساسي للمدرسة هو تعليم الأطفال ما هو العالم بما في ذلك من عودة الماضي، فإن الإعلام يتجه وبشكل طبيعي نحو الحداثة والتكيف مع عالم لا يزال يتكون ويتشكل، فضلا عن أن للإعلام مهمة إضافية تتلخص بعكس إمكانات المجتمع التي لا تزال غير مكتشفة وغير مستغلة حتى الآن، إنه رسالة عالمية تشجع الفرد والجماعة على البحث عن قيمهم الخاصة وثقافتهم الخاصة.

 

جمانة رشيد شومان

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات