قصص على الهواء

قصص على الهواء

قصص لأصوات شابة تنشر بالتعاون مع إذاعة بي. بي. سي العربية
لماذا اخترت هذه القصص؟

---------------------------------------

توصلت من مجلة العربي، في إطار هذه المسابقة، بثلاثة و ثلاثين نصا تحمل، أو تم تصنيفها تحت، اسم قصة قصيرة بالرغم من أنها ليست كلها قصصا، إذ هناك ما هو أقرب إلى الشعر منه إلى القصة، وهناك الخاطرة أو الانطباع، وكذلك مجرد الحنين أو الذكرى المحررة أما ما يمثل فيها القصة فقليل على ضوء معايير اللغة، والحكاية والشخوص والوجدان، وأكثر القصص اكتمالا في رأيي هي زجاج ثم الترتيب كما اوردته لاحقا.

1 - زجاج.. «بوادر بشير»

قصة عن غربة امرأة عربية، عن الوحدة، في باريس، داخل المظاهر والشكليات، وشعور بالمرارة، والفراغ أو التفاهة، وسط طقوس الفرح المزيف، فكل ما يفرح الآخرين، تحت رغبة الاستهلاك ودافعه، والنفاق، يبقى لدى هذه المرأة على السطح، يؤلمها، ولا يمس عمقها الحقيقي، لأنها تتمسك ببعض الصفاء، ببعض الصدق في خضم ذلك الاستهلاك الذي يؤلم هويتها، هوية تتفتت، تتفسخ، وكل ذلك بلغة جميلة، بين النثر والشعر، تعبر عن وجدان فياض يملأ الحكاية ويثريها. إنها قصة متميزة إلى درجة أن القارئ قد يتساءل: هل كاتبتها بالفعل كاتبة ناشئة؟

2 - حدث في بلاد دموعستان.. «تمّام نصر ديـّوب»

قصة تستلهم الكثير من الأسطورة والحكاية الشعبية. الحكاية فيها متماسكة تقوم على قوة خيال يعكس واقعا كابوسيا، مأساويا، من عمق وجدان الناس. الأسلوب في هذه القصة يبني الصور بلا تكلف ولا تعقيد، يستهدف فقط ترابط الصور التي تتشكل منها الحكاية. وعلى الرغم من أن روح هذا الشكل من الحكي الفانتازي قد انتشرت في السبعينيات والثمانينيات فإن الكاتب قد وفق في إنشاء حكاية طريفة.

3 - صليل الأساور.. «منى الشيمي»

وصف مكثف لشريحة من الحياة والناس. واقعية غرائبية كبيرة في هذه القصة كأن الأمر يتعلق بعين كاميرا تطوف بين الأموات في القبور وشذرات من حياتهم إلى أن تدفن امرأة بجانبهم، أي حيث الأموات الرجال، ومن ضمنهم زوجها الذي سيصرخ: ثمة خطأ.. امرأة بين الرجال! لتفتح الحكاية على بعد جديد: البعد الرمزي الذي سيوسع ويغني مدى الجانب الوصفي الغرائبي.!

4 - كائنات.. «محمد رفاعي»

رجل تدفعه كائنات «الناموس و الخفافيش والديدان...» إلى أن يسكن فوق مصطبة بعد أن هرب أولاده عند الأقارب وطرد زوجته. شعور كبير بالفراغ والوهن واللامعنى تؤثته تلك الكائنات التي لا يجدي المبيد في القضاء عليها، بل على العكس لا تكف عن التحول والتوحش وتباين أطوارها. إحساس متزايد بتسارع التردي والمسخ حتى وهو يقارن وضعه بوضع جده. قصة تفتح مجالا واسعا للتأويل!

5 - الفقير.. «شربل جورج صاموئيل»

فقير يستخرج قطعة خبز من القمامة فيأكل منها ويحاول أن يطعم معه حصانا لكن صاحب الحصان ينتزعها من فيه ويرمي بها إلى الأرض وهو يؤنب الفقير: محتاج، جائع، يعطف علىحيوان يعود نحو الحصان ليكلمه عن هذه الوليمة التي ضاعت منهما بسبب صاحب الحصان قبل أن يرجع إلى مكانه ليلتقط له أحدهم صورة فيختم الكاتب القصة قائلا: أنزل الآلةَ مبتسماً ظافرا بصورة فريدةٍ لغني بين فقراء! من هو الغني إذاً: صاحب الحصان أو السياح من حوله أو الرجل المحتاج؟ لحظة إنسانية قوية في هذا النص.

---------------------------------------
«زجاج»
بوادر بشير (السودان)

اليوم.. اشتريت ثلاثة فساتين، قفازين من الساتان وأربع قبعات.. تسكعت بين محلات «باريس».. مارست كل ما أمارسه كل يوم.. ولكن بموت أكثر هذه المرة. عندما تعبت السيدتان اللتان تتسكعان معي.. جلسنا على ناصية مقهى عربي.. طلبتا قهوة تركية وبعض فطائر عربية.. مهووستان هما.. بكل ماهو عربي.. يمارسن انتماءهن لجذورهن بتناول بعض القهوة والفطائر.. في مقهى عربي.. مقابل لـ: «شانيل» و«لوي فوتان» و«فالنتينو».. !

يدخّن الشيشة برقي.. ويرتشفن القهوة برقي.. ويتصرفن تماما كسيدات مجتمع غبيات.. أعني راقيات.. ! وأنا.. مثلهن.. أبعثر شعري الأسود الطويل.. وارتدي نظارة مرصعة بالماس والجواهر.. أثرثر معهن بالفرنسية.. يأتي الجرسون.. فيضحكن له.. يسأل بالعربية:

«ماذا أحضر لكن؟»

فيقلن: «ماذا لديك؟!»

وعندما يأتي إلي.. لا أمازحه.. أرد عليه بالفرنسية..!

ينظر إلى سمرتي ويدرك أنني عربية أيضا.. يعيد سؤاله. فأكرر طلبي بالفرنسية. ينصرف شاعراً بإهانة ما.. تقول إحداهن:

«ما بك؟ تحدثي بالعربية من آن إلى آخر.. ستنسينها هكذا».. !

أنظر إليها.. إلى فستانها القصير، وجسدها العربي المكشوف.. أفكر بسخرية: «ألم تنسها هي؟!».

ابتلع سخريتي مع القهوة.

أتابع ثرثرتهن.. أشارك في كل ما يقلنه.

أدرك في الطريق أنني أديت دوري ببراعة.. كعادتي.. ! في التاكسي أقول للسائق: «إلى المنزل أرجوك.. ». يبحلق في وجهي بذهول.. فأدرك أنني قلتها بالعربية.. !

أعيدها بالفرنسية.. وأعطيه العنوان.

أستلقي على المقعد الخلفي.. أذكر جملة المرأة. «ستنسينها هكذا..». ابتسم.. مرتين.. ثلاثا.. ثم أبكي..!

اليوم.. ضيوف زوجي سيأتون.. يقيم حفلا ما.. ويجب أن أبدو مدهشة وجميلة.. أن أضاهي حسناوات (باريس).. بل أكثر من ذلك.. أن أثير غيرتهن!

أكمل زينتي.. وأنزل إلى البهو.. استقبل الضيوف.. أستبدل بوجهي وجهاً آخر.

أتنقل بينهم.. أبتسم لهذا وأضحك مع ذاك.. أهز رأسي باهتمام..

وأتحدث عن كل شيء: الطقس-سعر المجوهرات - المطاعم الجديدة!

يعرّفني زوجي على مديره.. فأبالغ بالابتسام أمامه..

تتفحصني عيناه بشراهة..

«ينشق وجهي فجأة من شدة الابتسام.. ».

ينحني الرجل ويطبع قبلة لزجة على يدي..

«يدمي وجهي.. يزداد الجرح ويؤلمني.. ».

ولكني أحافظ على اتساع ابتسامتي..

«زوجتك جميلة مسيو «.. .. .».

يبتسم زوجي ببلاهة مطلقة..

أشعر بالغثيان، أنسحب بسرعة.. يتناهى إلي صوت المدير: كم سعر زوجتك مسيو «.. .»! يضحك الجميع.. أركض إلى غرفتي.. أغلق بابي بشدة.. أتكوم فوق السرير..

أصرخ بلا صوت: «كفى.. كفى..

ارحلوا.. ».

تستحضرني عينا زوجي.. الباردتان..

«قبلني الرجل.. !».

«ثم ماذا؟!».

«أمامك.. !».

"ثم ماذا؟!».

أبحث عن شيء ما في نظراته.. في صوته.. لاشيء .. لاشيء.. أذكر حديث المرأة: «لابأس ببعض من العربية».. «ستنسينها هكذا.. ». فأبكي وأبكي..

لاتعرف أني أحمل العربية في قلبي.. ولكن لساني يحمل لغة أخرى..

وفي وسط الفوضى.. تأتي أنت.. كشيء خلت أني نسيته مع مجمل ما نسيت..

تنظر إلي.. بشيء من الحنان والغضب والشفقة..

لا أحتمل نظرتك.. أشيح بوجهي عنك..

ثم أعود ببطء وأنظر إليك.. لا أجدك..

تختفي رويدا رويدا.. أنبش عنك بداخلي.. فأجدك.. في تلافيف ذكرى ما.. داخل رأسي..

كصورة زجاجية.. أخرجك بلطف.. أقبل زجاج الصورة.. احتضنه.. فيتكسر بيدي.. أفزع.. لا يهمني الألم المتدفق من يدي.. بل صورتك المبعثرة على بلاط غرفتي.. أعيد لصقك بعناية.. أصلح الصورة.. أضعها تماما قرب رأسي..

أحدثك بالعربية..

تبتسم أنت في إطارك الزجاجي.. تنحدر قطعة من زجاج الصورة.. تسقط.. فأشعر أنك حزين..

أعيد لصقها.. فتبتسم مرة أخرى..

يدخل زوجي بهدوء.. يخلع ربطة عنقه وبدلته.. أدرك أنه لا يسمع شيئا ولا يرى ما يحدث بداخلي.. وعندما يستلقي على السرير.. يدرك وجودي.. فيقبلني قبلة النوم.. أتذكر مديره.. فيعاودني الغثيان.. أفرغ كل مافي جوفي.. لا يغضب زوجي.. لايستنكر.. ولايندهش..

يذهب إلى الحمام ثم يعود.. بالهدوء ذاته..!

يقول قبل أن يطفيء النور:

«لا تنسي أن تذهبي الى الطبيب غدا..!».

أنهي أنا الحفل بداخلي.. أعيدك إلى تلافيف ذاكرتي الزجاجية.. أقرر أن أنساك تارة أخرى..

دمعة واحدة.. اثنتين.. ثلاثا.. ثم لاشيء..

أنام.. لكنني في نومي.. أحلم.. وأحلم.. أحلاما عربية.. تدلف المرأة إلى حلمي فجأة.. تقول:

«تحدثي بالعربية من آن الى آخر..!». ثم تضحك.. ضحكة ساخرة..

استيقظ من نومي بفزع.. استعيذ بالله.. انقلب إلى الجهة الأخرى.. وأنام.. يراودني الحلم ثانية.. أزجر نفسي.. ثم أحلم.. ولكن..

بالفرنسية هذه المرة.. !!

حدث في بلاد دموعستان
تمّام نصر ديـّوب سورية

اجتمع عباقرة بلاد دموعستان ليجدوا حلا ً نهائيا ً للأزمة المستفحلة والمستمرة منذ عشرات السنين و التي أدت إلى إعاقة تقدمهم على جميع المستويات. البعض اقترح شراء أحدث الأسلحة المتطورة في العالم ثم شن هجوم صاعق على العدو لكن الاقتراح رفض بحجة أن لا أحد سيبيعهم السلاح المتطور والبعض الآخر قال :لم لايقوم جميع أهالي البلاد بعبور الحدود والهجوم على عدوهم ولو أدى ذلك إلى سقوط العديد من الشهداء ولكن هذه الفكرة الجنونية لاقت رفضا ًمن السلطان بداعي أن طائرات العدو ستقصف الجموع بعدة قنابل ضخمة تبيدهم عن آخرهم بينما السبب المضمر الذي لم يصرح به هو: من يبقى ليحكمه إن هم ذهبوا. وآخرون اقترحوا أن يصعد كل الناس الجبال في كل ليلة ٍ ليتقربوا من الله ويدعوه أن يخلصهم من أعدائهم وبنفس الوقت يجب التشجيع على الزواج المبكر والتكاثر. بعد أيام من المشاورات والطلب من كل من لديه فكرة أن يتقدم بها وبعد رفض جميع المقترحات وقد كاد اليأس يسيطر عليهم أقبل عليهم رجل يدّعي أن لديه الحل الذي لن يكلفهم شيئا ً وله مفعولٌ قويٌّ ويستطيع كل الشعب أن يشارك فيه بلا استثناء. تشوق جميع المجتمعين لمعرفة الحل فبدأ هذا العبقري الجديد بالتحدث بعد موافقة السلطان : نبني سد. وما إن قال جملته تلك حتى ضحك الجميع وقال الذين أنهوا ضحكتهم وماذا نحبس خلفها ! أنهارنا جفت وأمطارنا قلت.رد بهدوء: أنا لم أقل نبني سداً للمياه ,من فضلكم دعوني أكمل ,الفكرة يا سادة تقوم على إننا عندما نتابع نشرات الأخبار وخاصة وقت الحروب نذرف شلالات من الدموع حزنا ً على إخواننا في الأراضي المحتلة دون فائدة فلم لانستغل هذه النقطة لصالحنا فبدل أن تكون نقطة ضعف تصبح نقطة قوة أي نقوم ببناء سد ضخم ونقوم بذرف دموعنا خلف السد حتى يمتلئ ثم نقوم بفتحه دفعة واحدة باتجاه العدو فنغرقه. بعد أن أنهى فكرته عم الصمت في القاعة للحظات ثم هتف السلطان :رائع إنها فكرة ٌ رائعةٌ جداً وعند ذلك دوى تصفيقٌ حادٌ ورفع الجميع أيديهم بالموافقة, وأعطى السلطان الأمر بالمباشرة ببناء السد ونزل الجميع إلى العمل وتم البناء على غير المعتاد بسرعة وصار الجميع ينتظرون نشرات الأخبار ويتمنون أحياناً ولو بخجل أن تشتد الضربات على إخوانهم حتى تزيد المناظر المأساوية ليذرفوا الدموع بغزارةٍ وبالفعل كانوا يعبئون دموعهم في عبوات ثم يقومون بسكبها خلف السد وهنا ظهرت مشكلة وهي كيف سيقوم أبناء المناطق البعيدة بنقل دموعهم إلى السد فتم إنشاء أنابيب كأنابيب الصرف الصحي تصل إلى بيوتهم ورويداً رويداً بدأ يمتلئ السد ويرتفع منسوب الدموع ولم يترك أهل البلاد وسيلة إلا واستعملوها لزيادة المنسوب بأسرع وقت فراح العشاق يتواعدون قرب السد ويذرفون الدموع حزناً على الفراق وصار المسافر يودع أهله عند أطراف السد والنساء عدن لمشاهدة الأفلام الرومانسية بكثرة والصلوات على المتوفين صارت تقام أمام السد وسُيرت الرحلات المدرسية إلى السد وكذلك نشرات الأخبار كانت تبدأ بذكر المستوى الذي وصل إليه منسوب الدموع في السد. أما من لم يكن يذرف الدموع أو يذرفها بقلـّة فتكتب به التقارير ويساق إلى التحقيق بتهمة الخيانة ويضرب ضربا ً مبرحا ً حتى يذرف هو وأهله دموعا ً تعادل ضعفي ما يذرفه الناس في العادة. مرت سنوات والناس على هذه الحال واقترب السد من الإمتلاء وحدد يوم ٌ لفتح السد وفي تلك الليلة لم ينم الناس فالجميع ينتظر ويترقب ساعة الصفر التي حُددت في السابعة صباحا ًمن اليوم التالي وفي الوقت المحدد تماما ً اقترب السلطان ليضغط على الزر الذي يفتح السد والكل جاهزٌ للفرح وما هي إلا دقائق قليلة حتى كانت الدموع تغمر كل الأراضي المحيطة بالسد وتنطلق بسرعة جنونية تشق الأرض لتغمر معظم أراضي البلاد ,أجل هذا ماحدث فقد أهمل المهندسون حساب ميلان الأرض فتدفقت الدموع باتجاه البلاد وغرق الملايين من الناس وقلـّة نجحت بتسلق الجبال تنتظر سفينة نوح أخرى تنقذها وهكذا مرت سنواتٌ طويلة قبل أن يجف بحر الدموع وعندها كانت الأرض غير صالحةٍ للزراعة وقد ملأها ملح الدموع.

صليل الأساور
منى الشيمي

لم تكن ثمة حركة غير عادية في المكان، تحلق بعض الرجال حول رجلين يلعبان، يرسمان المربعات الصغيرة على الأرض ويرصان فيها الحصى الملون، عند انتهاء الدور بفوز أحدهما، تعلو همهمة خفيفة من باقي الرجال، ويعيد الآخر تخطيط المربعات على التراب الناعم بإصبعه.

جلسوا على الأرض، اتكأ أحدهم على مرفقه ونام آخر على جنبه، بينما قرفص الباقون فغبرهم تراب الأرض الناعم الرطب، تراب لم ير الشمس منذ وقت طويل، تعلقت ذراته بسدَّى جلودهم ولحاه، كأنهم تماثيل صلصال جاف، تماثيل تتحرك برتابة، لا شيء يدفع النشاط في عروقهم، تركوا لحاهم تنسدل طويلة ومشعثة، شيء ما مخيف ينثال من مناظرهم ويجعل المرء يهرب من رؤيتهم، فلو ترك نفسه لأشباحهم تتحرك أمامه لتبخرت روحه في الهواء.

تململ الرجل الوحيد عند الجدار، منذ وقت طويل لم يشترك مع الباقين في حديث، يستند بظهره للجدار ويغفو، فإذا ماسمع وقع قدم، شخص بصره وتطلع للكوة، استطالت لحيته وابيضت في كل موضع، فإذا ابتعدت الأقدام يعود ليصنع من ساقيه هرمين صغيرين، يسند بينهما رأسه، ويذهب خياله بعيدا بعيدا، حزنوا لأجله، حاول أحدهم أن يخرجه مما هو فيه، لكن محاولاته باءت بالفشل، كيف يخرج مما هو فيه وزوجته هناك، صغيرة وجميلة، يتمناها نصف رجال القرية في صمت، ويحوم حولها النصف الآخر، والصغير يتيم، لا يجد من يتكفل به.

سمعوا أصوات أقدام تدق الأرض في الأعالي، فتذكر كل منهم المكان بأعلى، قال أحدهم إنه أول من دخل هذا المكان، لم يسبقه أحد، وظل سنة كاملة قبل أن يأتي الوافد الثاني، قال إنه عانى كثيرا قبل أن تعتاد أنفه رائحة المكان، وتحدث عن الأشباح التي ظهرت له، فكان يموت في الليلة عشرات المرات قبل أن يستيقظ في الصباح من جديد، وتحدث آخر متسائلا عن شكل المكان في الخارج، لقد جاء وشجرة الجازورينا صغيرة، لا تلقي بظلالها على مكانهم بينما يؤكد الوافد الأخير أن ظل الشجرة تخطى المكان لما بعده، وأن القبور ملأت التل وانحدرت بانحداره، ولامست الطريق المعبد من الناحية الأخرى.

اقتربت الأقدام حتى صارت فوقهم تماما، ثم انحرفت يمينا لتواجه الكوة المسدودة بصفين من مداميك الطوب الأحمر، انتفض الجميع، وامتدت بعض الأيدي فمحت المربعات من الأرض وبعثرت الحصى هنا وهناك، هرع كل منهم إلى الموضع المخصص له فدخل في ثوبه الكتاني المعفر بالتراب، وتلفع بسكونه.

انفتحت الكوة فرشقت الشمس سهمها بالداخل، انزلق رجل للداخل ليلقف الوافد الجديد، حمله من تحت إبطيه بينما الرجل الآخر يحمل القدمين، سجياه وصعدا، والعيون من بين شرائط الكتان ترقبهما في صمت، وتتسمع أصوات الرجال في الخارج، ميز بعضهم أصواتا يعرفها، صديق ليالي السمر، أو جار حميم التصق جدارا بيتهما، فكاد أن يقفز من رقدته، ويظهر لهم رأسه من الكوة، ويبتسم في شوق، لكنه يعرف أنه لو فعل لفر الجميع قبل إغلاق الكوة.

تمدد الوافد الجديد في الجوار، تفوح منه رائحة العطر، كفنه أبيض منشى، كاد أن يتململ بداخله، لكن رجلا فتح الكوة من جديد، وأسقط رأسه ونظر مرة أخرى، فالتزم الجميع بالسكون والصمت، حتى إذا رحل، نفض الجميع الأردية، وتحلقوا حول الوافد الجديد، ولكزه أحدهم بعصاه فتحرك الجسد تحت الرداء الأبيض، ثم تفككت الشرائط، وتحركت اليدان.

تهللت أسارير الجميع، كان شابا معروفا لبعضهم، شاركهم المزاح مرات، مد كل منهم يده وسلم عليه، تولى أحدهم تعريف الكبار، الذين رحلوا قبل إدراكه بكثير فلم يعرفهم ولم يعرفوه، وكانت فرصة جيدة استثمرها الجميع، سألوه عن حال البلدة، سأله كل منهم عن حال الأهل، سمى له عدة أسماء وتمنى لو يعرف عنهم خبرا، وسأله آخرون عن شكل المكان في الخارج، هل اختلف عما كان من قبل، أما الرجل الصامت دوما فسأله عن حال زوجته وابنه، أما زالت جميلة ؟؟، تمنى لو سأله: أمازالت تذكره ؟؟.. هل يجد ابنه الصغير ما يسد جوعه ؟؟..لكنه لم يتحدث، واتخذ مجلسه بجوار الحائط، وتشرنق بوحدته.

وقت قصير، نفضوا فيه الرتابة، ثم عادوا للصمت الذي يسمح بسماع دبيب القلق في الصدور، وزحف الأفكار في صعودها وهبوطها، عاد الرجال لرسم المربعات على الأرض، والبحث عن حصى مناسب، وافتعال الاندماج في المراقبة، أو البحث عن ذكرى يقصها علّ تفاصيلها تثني حواف الوقت المدببة.

عادت الأقدام لتدق الأرض من جديد، وتضايق بعضهم لأن المكان ازدحم، وعليهم أن يكفوا عن إحضار آخرين، وفي لمح البصر، اختفى كل واحد منهم في كفنه، تاركا مسافة غير مرئية أمام عينيه، يراقب منها المشهد، وكما المرة السابقة، أسقط أحدهم نفسه وانتظر حتى تناول الوافد الجديد، أرقده على جنبه الأيمن وخرج سريعا بعد أن أغلق الكوة وهموا في الخارج ببناء الجدار..

وكعادتهم - في الداخل - بعد كل مرة تطلعت العيون، وانتظروا برهة ليقشر الوافد عن نفسه غطاءه، لكن صوتا صك آذانهم وجعلهم في حالة يجف لها العود الأخضر، لقد صلصلت أساور تحت الكفن، وبدأ الجسد يتحرك في ليونة، مد الجميع يده في آن واحد، حتى الرجل المنعزل هناك، جاء على صوت الأساور، مدفوعا بتأثير النشوة، وشرعوا في تعرية الوجه، وما أن تم هذا حتى صرخ الرجل الوحيد، وهمهم الباقون، كانت زوجته بكامل بهائها، كادت أن تبتسم له لولا تعبير وجهه المتجهم، لم تطل نظرته لها، أسرع إلى الكوة المغلقة، صرخ بأعلى صوته :" هناك خطأ.. امرأة وضعت هنا عن طريق الخطأ، يجب أن تبعث إلى مرقد النساء، عودوا يا رجال.. قهقه رفاقه، وضع أحدهم يده على صدره من كثرة الضحك وأشار عليه بيده الأخرى كما لو كان مجنونا، وتمنى آخر أن يسأله: ممن تخاف عليها؟؟ ولعق رجل شفتيه بلسانه وحملق فيها، أزاحهم من حولها و عاد إلى موضع رقدتها ومازال صراخه يرن عاليا، أنام ذراعها بجوار جسدها وأحكم لف الكفن حولها، أغمض لها عينيها وغطى وجهها، ثم عاد ليقف بالقرب من الكوة، يصرخ قائلا.. لا ترحلوا.. ثمة خطأ.. امرأة بين الرجال.... امرأة.. بين.. الرجاااااااااااااااال..

كائنات
قصة : محمد رفاعي

سربت أولادي فرادى إلى أقاربهم، فارقتني قرينتي هاربة إلى ذويها، تحمل رضيعها. هجرت بيتي، جلست أمامه، فوق المصطبة، مسنداً ظهري إلى ساق نخلة وحيدة، لم يقصفها الريح. على مقربة منها شجرة غرسها جدي، أيام هبة عرابي، تقلصت أغصانها، وتساقطت أوراقها، يسكنها البُوّم، معلقاً الآن فوق رأسي.

باتت المصطبة مهجورة، لسنوات مرت، كانت مرتعاً للفيران.

قاطعت الدكة المركونة بجوار حائط البيت الموبوء التي اعتدت الجلوس عليها، حين يرمى الحائط ظله إليها.

رَمَمَتُ المصطبة، حشوت جّحورها بنتفا من الحجارة، صارت تلك المصطبة سريري ومكمني، تحت جدارها سكنت حاجاتي القليلة، في ظلها نصبت موقدي، جاء المسنون، جلسوا بجواري ليستريحوا قليلا،، يواصلون السير إلى حقولهم ومرابط بهائمهم، بعضهم خالط جدي الكبير، قاسموه خبزه وماءه.

قال لي أحدهم: إنه نفس المكان الذي أقام فيه جدي مجمرته، غير أنني لم أعد لهم شيئاً ذا بال، القليل منهم شرب على استحياء قدحاً من القهوة أو الشاي، مجمرة جدي لا ينطفئ نارها، وقدورها لا تفرغ، يُطْعِم المسافر، ابن السبيل والفقراء ومريدي الشيخ القريب.

لم يثرني منظر الكائنات الصغيرة المتناثرة في فضاء البيت، في البداية اعتقدت أن المبيد الذي نستخدمه حوّل الناموس إلى نوع غريب يقاوم حرب الإبادة التي نشنها ضده. كنت أعرف قدرة هذه الكائنات على المقاومة، أوقن استطاعة هذه الحشرة على التحول السريع والغريب إلى كائنات متباينة الأطوار، وقادرة على التوحش.

في المساء أمطرت فناء البيت وحجراته، بمزيد من المبيد، بقيت تلك الكائنات صامدة وعفية، هربت من رائحة خلفها المبيد، قبعت برهة في سقيفة البيت الوحيدة، جلست على الدكة، أتأمل السماء / السقف فوقى، عاودت الركض نحو حجرات البيت، افتح ضلف النوافذ والكوّات، يدخل هواء قليل ساخن لا يستطيع أن يُحرك طبقات الهواء الراكد الثقيل، لم يستطع ظلال النخيل والشجر كسر سخونته.

نهضت تلك الكائنات تحوم حول وجهي، تهاجمه كجائع، لم يذق طعاما منذ دهر، هرعت إلى عصا طويلة، ساكنة فئ ركن الحجرة، سقطت الواحدة تلو الأخرى، خارت قواي، لم أستطع كبح توحشها، تراصت حولي، تحاول سد الثغرة التي صنعها جسدي في كيانه المتماسك، انسحبت إلى الخارج، وأغلقت القاعة، جلست في السقيفة، أحاول ممارسة طقوسي، لم استطع القراءة في كتاب قابع تحت الوسادة أو ممارسة شئ إعتدت عليه.

يثيرني منظر الخفافيش التي تحيل فضاء البيت إلى كتلة متجانسة اللون تُعلن وجودها، ربما لأول مرة بحركاتها الدائمة والمتلاحقة في الاتجاهات الأربعة، وهبوطا وصعودا.

في أيام قليلة صار البيت مرتعا للخفافيش التي شاركتني قوتي ونفسي، شعرت باختناق وضيق لازمني طيلة الوقت، لم أقو على غمض عيني لحظة، صارت أيامي قلقا مزمنا لا شفاء منه، بدا لي إني أحوم حول كيانهم ولا أقوى على اختراقه.

تطورت الحشرة أمام عيني بشكل لم أره من قبل في تاريخ تلك الكائنات، ديدان بدت لي في غريبة، ملساء وذات حرافيش وأجنحة، بات المكان حكرا لهم، وصار البيت مقبرة.... الخروج أصبح حتميا.

عادت قرينتي تلبى حاجاتها الضرورية، رأتني وأشيائي على قارعة الطريق.... وشوحت في وجه عابر سبيل، قابع تحت ظل النخلة، علا صوتها بنحيب منكسر ، أمرتها أن تلملم أشياءها التي جاءت بها... وتذهب فى التو إلى سبيلها ولا تسمعني صوتها النواح مرة أخرى.

صامت تأملتها، تحمل أشياءها، وقد وهنت وغرب بريقها وبدت لي أرملة فقدت عزيز، ماتت رغبتها في الحياة، رأيت شبحها يختفي مع انحدار الطريق.

الفقير
شربل جورج صاموئيل - سوريا

جلسَ على الدّرجة الثّانية أمام نبع الماء في وسط ساحة البانتيون معبد الرّومان الشّهير. ثيابٌ متّسخة وشعرٌ منكوش مُهمَل وسحنة طبعها الدّهر بكلّ أسباب الفقر والعناء جعلتْ منه كتلةً واحدة كأنّها من ترابٍ وإلى ترابٍ تعود... الجوعُ يعصرُ معدته الخاوية كصحراءٍ ليسَ فيها إلا الرّمال واللهيب! ونظرات يُرسلها نحوَ العابرين فيراهم ولا يرونَ منه شيئاً. الصّخبُ واللهوُ والضّحكُ تملأ السّاحة، والألمُ والعزلةُ والتّعبُ تملأه حتّى العنق. نظرَ طويلاً ثمَّ تنحنحَ وفردَ رجله اليُمنى، نحيفةً كقصبةٍ مرضوضة، واتّكأ بيده اليُسرى على الدّرجة الثّالثة وقامَ متثاقلاً مثلَ عجوزٍ ذي ألف عام. ترنّحَ من فرطِ الجوعِ وراحَ يُمعنُ النّظرَ أكثرَ فأكثرَ كلّما اقتربَ منها، وبعدَ لأيٍ بلغها فوضعَ كلتا يديه على حافّة حديديّة تُحيطُ بحاوية القمامة. أخذَ نفساً من صدرٍ تسترهُ ثيابٌ رثّة، وأحنى رأسَه وغابَ يفتّش بين القمامة بكلّ عناية وحرص، يقلّبُ هذا ويرفعُ ذاكَ، يُمناه كطاحونٍ لا يهدأ، ويُسراه على الحديدِ كجبلٍ لا يتململْ، والمارّون يعبرونَ ورؤوسهم مرتفعة نحو المعبدِ الفارغ! أخيراً أخرجَ قطعةً من الخبز وقرّبها من أنفه فنفرَ كطيرٍ جافل، وأبعدها عن وجههِ بعد أن لاحَ القرفُ على سيمائه، ثمَّ شرعَ يمسحها ويفركها في ثيابه عندَ الصَّدر، وبعدَ مسحةٍ أو مسحتين يشمّها من جديد، وهكذا طفقَ يفعل وهو يعود مترنّحاً إلى جلستِه في مواجهة المعبد الرّابض في قلبِ روما. هنيهة مرّت بعدَ أن طوى ركبتيه وجلسَ، ثمَّ قضمَ من الخبز قطعةً راحَ يلوكها بشهيّة وهو يحدّق في ما تبقّى منها. وما إن رفع رأسَه حتّى وقعت عيناه على حصانٍ مشدودٍ إلى عربةٍ يقفُ في الخلفِ منها حوذيٌّ يترقّبُ السيّاحَ طمعاً في اصطيادِ أحدهم. قامَ الفقيرُ من فراشِه الحجريّ وهو يواصلُ مضغَ اللقمة الأولى وقطعة الخبز في يمناه واقتربَ من الحصانِ وقالَ له شيئاً ثمَّ رفعَ يده وقرّب الخبزَ من فمه الكبير والحصان بدوره لم يجبْه بشيءٍ بل أطبقَ بكلا فكيه على قطعةِ الخبز رافعاً مشفره الأعلى هامّاً في بلعها، لكنَّ الحوذيَّ ما إن رأى الفقيرَ يفعل ما فعل، حتّى قفزَ كالملسوع وبخطوتين بلغَ المكانَ وشدَّ الخبزَ من فيه الحصانِ ورماه على الأرض والتفتَ نحوَ الفقير وراحَ يؤنّبه ساخطاً لاعناً ثمَّ توعّده وتهدّده إن أعادَ الكرّة. نظرَ إليه الفقيرُ صامتاً وهزَّ رأسَه وانحنى ملتقطاً الخبزَ من الأرض ودارَ يعودُ إلى مكانِه، ثمَّ مسحَ الخبزَ من جديد في ثيابِه وقضمَ قطعةً أكبر من ذي قبل وأدركَ أنّه أخطأ! راحَ يمضغها هذه المرّة بقسوةٍ وسرعةٍ ولمّا ينتهي منها حتّى بصقها مرّاتٍ وألقى ما تبقّى من الخبز على الأرض، ووقفَ بغتةً وأسندَ ذراعيه على ركبتيه مقوّساً ظهرَه وهو يتمّمُ طقسَ البصاق. لم يرجعْ هذه المرّة إلى درجات النبعِ، بل خطا بخوفٍ نحوَ الحصانِ مترقّباً الحوذيّ ولمّا أدركَ المكانَ نسيَ في غمرةِ الجوعِ كلَّ شيءٍ، نسي المعبدَ والسّاحةَ والنّاسَ، ولم يعدْ يرى في ذاكَ الجمع سوى عيني الحصان المبرقعتين، ولم يعدْ يسمع من الصّخبِ إلا همهمته الحزينة، ثمَّ أشارَ إليه براحتيه الفارغتين وابتدأ يخبره عن الوليمة التي ضاعتْ منهما، وشعرَ بآدمَ المطرود من فردوس النّعيم... بصوتٍ متفجّعٍ كثكلى عاتبَه، وكطفلٍ يُدرك الحياة أوّلَ مرّةٍ صرخَ، هدرَ وسكنَ حتّى صمتَ. أفرغَ في لومِه ما تبقّى فيه من طاقة، وعادَ نحوَ الدّرج وقد ضاقتْ أنفاسُه ولم يعلم أنّه وصلَ حتى سقطَ وتلوّى وتقلّب حتّى اعتدلَ. رفعَ ركبتيه من جديد وأحنى هامتَه وأسندَ صدغيه بيديه وبكى ثمَّ نشجَ وراحت الدّموعُ تنهمرُ من عينين كسحابةٍ تسحُّ من أحمالها مطراً بغير انقطاع. مشهدُ النّحيب دعا رجلاً فاقتربَ ووضعَ كفّه على منكبِ الفقيرِ وقالَ له شيئاً ورجلٌ آخر اقتربَ من بعيد واعتدلَ في وقفته متوسّطاً المكانَ مواجهاً النبعَ ورفعَ آلةَ التّصوير وغمزَ بعينٍ وفتحَ الأخرى وصوّبها نحوَ الفقير الجائع الباكي ودفعَ سبَّابته إلى الأسفل ثمَّ أنزلَ الآلةَ مبتسماً ظافراً بصورةٍ فريدةٍ لغنيٍّ بين فقراء.
-----------------------
* كاتب مغربي

 

 

 

الميلودي شغموم*