ليلى العثمان جدل الموت والحياة

ليلى العثمان جدل الموت والحياة

قد يبدو للوهلة الأولى أنه ليس من مقومات بطلة رواية «خذها لا أريدها» أن تكون كاتبة، وهذا يجعلنا نفترض كقرّاء أن الروائية «ليلى العثمان» تقمّصت صراحة شخصية البطلة لتصرّح عن أفكارها بطريقة غير مباشرة، أو أنها انساقت وراء بطلتها دون نية مسبقة في ذلك؟

ولكن بعد التأمّل في النص نكتشف أن «ليلى العثمان» اختارت أن تكون بطلتها كاتبة، لأنها تقوم بفعل منح الحياة وسلبها على الورق، كالروائية نفسها، وهذا ما سوف نتناوله بالتفصيل في ختام هذه الدراسة.

مع العلم أن مهمتي كناقد تنحصر بالدرجة الأولى في دراسة النص المنجز، بمعزل عن حياة المؤلفة الشخصية، وهذا ما عملت وسعيت لإنجازه، ولكن هذه الرواية تحديداً تقتضي الإشارة إلى حضور المؤلفة في البداية، كتمهيد متعمّد لإضاءة النص من الخارج قبل ولوج مساربه الداخلية.

موت الأم

تبدأ الرواية منذ السطور الأولى بالحديث عن النهاية، وجدلية الولادة والموت، تستمر حتى السطور الأخيرة من الفصل الختامي.

لم تستطع «لبنى» المشاركة في غسل جثمان أمها بالرغم من أنها لم تشعر بالحب نحوها كما شعرت به، وهي تنظر إلى جسدها الجميل الذي يتم تجهيزه للدفن تحت الأرض ليأكله الدود، ربما لأنها أدركت متأخرة أنه لم يكن ينبغي لها أن تعامل أمها بقسوة في حياتها كما تعاملها المرأة التي تغسلها في موتها، فهي ابنتها الوحيدة التي خرجت من ظلمة رحمها إلى نور الشمس، وعاشت بعيداً عنها مذ بلغت السادسة من العمر، فانقطع حبل الوداد بعدها، كما انقطع الحبل السري عقب الولادة والانفصال الأول عن جسد الأم. وبعد سنوات ست أخرى ترفض «لبنى» لقاء أمها التي أبعدتها عنها قسراً من قبل، لعلها تنتقم منها لأنها تخلت عنها في طفولتها وتركتها لوالدها قائلة «خذها لا أريدها»، لهذا أرادت أن تقول هي أيضاً بطريقتها الخاصة حينها «لا أريدها»، ولكن بعد الضغوط ترضخ وتلتقي بأمها، دون أن تغفل عن الانتقام بطريقة مواربة وخبيثة، كأن تكثر من الإشادة برعاية والدها وخادمتها كي تشعر أمها بالتقصير نحوها، وهذا التصرّف لم يكن سوى مقدمة للفراق التالي.

وعندما انتهت النساء من تكفين الأم لأخذها إلى المقبرة صرخت «لبنى» تطلب السماح والمغفرة من أمها التي ستودعها للمرة الأخيرة.

والفصل الأخير كالفصل الأول بلسان «لبنى» التي تروي بضمير المتكلم معظم فصول الرواية، وفيه تطوف في منزل والدتها الراحلة، وكأنها بزيارة ذلك المنزل تكفر عن هجرانها لوالدتها في حياتها، فعندما تأكد لها أنها فقدت والدتها للأبد شعرت بأهمية الأم، لاسيما أنها هي أيضاً غدت أما.

موت الأب

لم يتزوج والد «لبنى» من امرأة أخرى لأنه لم يرد أن تعيش ابنته في ظل امرأة غريبة، لهذا كرّس حياته لوحيدته، ولعله لم يستطع أن يحب امرأة أخرى بعدما امتلكت «بدرة» قلبه مذ رآها، فلم يقدر على سلخها من حياته بعدما جفته وطلبت منه الطلاق، فـ«بدرة» حبه الأول الذي ضحى في سبيله بصلته بأسرته ليتزوج منها، حتى إن والده مات حزيناً بحسرته، كأول ضحية تسقط قبل ميلاد «لبنى» التي تسير منذ ولادتها على طريق يتقاسمه كرهها للموت، وتشبثها بالحياة.

ومثلما ارتبط موت والد الأب بزواجه من «بدرة»، ارتبط موته نفسه بزواج «لبنى»، قد كان يدعو ألا يموت إلا بعد زواج ابنته ورؤية ذريتها، وعندما كانت «لبنى» تسمع هذا الدعاء يزايلها الاطمئنان، لهذا باتت تخشى الزواج لأنه سيعقبه موت والدها، بل لم ترغب لبنى في الزواج كي تعيش مع والدها الذي لم يتزوج هو أيضاً إكراماً لها. ولكن الأب يريد تزويجها من ابن عمها، فترفضه لصغر سنه، وتشترط على والدها أن يكون الزوج بعمره تقريباً، فهي لا تريد شاباً ينافس والدها في قلبها، وتشترط أيضاً أن يأتي العريس ليقيم معهما لأنها لا تستطيع العيش بعيداً عن والدها لشدة تعلقها به. ويرضخ الأب لرغبة ابنته المدللة، ويلبي طلباتها.

ويتلهف الأب لقدوم الأحفاد، ولكن «لبنى» تتأخر في الإنجاب، فيموت والدها بحسرته لعدم رؤيته أحفاده، كما مات والده بحسرته لأنه لم يعد يريد رؤيته بعدما عصاه وتزوج «بدرة»، ومات قبل أن يرى ذرية ولده.

موت الزوج

تفترس أمراض الشيخوخة زوج «لبنى» كما افترست والدها من قبل، وإن كان لكل منهما سببه، وتشابه الموت تال لتماثل أطوار الحياة من قبل. فـ«لبنى» لم تكن تبحث عن زوج تعيش معه مسرات الحب والمتعة، بل عن أب يمنحها الحنان والعطف والاطمئنان لا غير، لاسيما أنها فقدت جزءاً كبيراً منها بعدما رحلت أمها عنها وهي صغيرة، والغيبة والبعاد والسفر هو موت بطريقة ما في هذه الرواية.

ترفض «لبنى» بإصرار نصيحة أمها بالزواج، لاسيما أنها أرملة صغيرة السن، بل تجد هذه النصيحة فرصة سانحة لتصارح أمها بأنها لن تفعل مثلها وتترك ابنتها هملا لتجري وراء لذاتها الخاصة، عندئذ تحدث الجفوة بين الأم وابنتها بسبب الزواج، وكأن الزواج في الرواية يتحول هنا إلى مسبب للفراق، ومقدمة للموت، قبل أن يكون جاراً للفرح، ولولادة حيوات جديدة.

ومن الطبيعي أن تكتشف «لبنى» الحب وملذاته بعد موت والدها، وزوجها الذي اختارته شبيها بوالدها، فقد نضجت أنوثتها وانتهي عصر الطفولة وإن متأخراً. وقتها تتفهم «لبنى» مشاعر والدتها وتعذرها. وبالرغم من ذلك لا تقبل «لبنى» بالزواج ممن تحب إلا سراً لأجل ابنتها، فهي لا تريد أن تشعر ابنتها «عفاف» أن أمها تركتها لأجل رجل، كما فعلت أمها بها، لهذا ظل الزوج في حكم الغائب والمسافر، ولم تكتمل العلاقة الزوجية بالاجتماع في منزل الزوجية.

موت الصديقة

يموت شقيق «ماري» المريض دون أن يكون له دور يذكر في الرواية، وكأن حضوره مخصص لتعيش «ماري» عن قرب تجربة الموت كما ستعيشها «لبنى»، ولعل الموت المتربص بالصديقتين هو سر الصداقة التي جمعت بينهما بعلاقة بدأت منذ عهد المراهقة، ولم تنته حين عادت «ماري» إلى الأردن من الكويت، بل تجددت عندما زارت «لبنى» برفقة ابنتها «عفاف» صديقتها «ماري» وزوجها «يوسف»، وهناك قررت «عفاف» البقاء إلى جانب «كارين» ابنة «ماري» للدراسة في الجامعة الأردنية.

نجد أن السفر في الرواية هو غياب مؤقت، يشبه الموت في قسوة البعاد، ويختلف عنه بأمل اللقاء من جديد، فقد سافرت والدة «لبنى» العراقية إلى بغداد لسنوات، وتركت ابنتها «لبنى» في الكويت مع والدها، قبل أن ترحل إلى العالم الآخر، كما سافرت «ماري» بعيداً عن «لبنى» قبل أن ترحل عنها إلى الأبد.

و«ماري» لم ترحل عن الدنيا فجأة كما تمنت، بل ماتت ببطء بالسرطان، المرض ذاته الذي كانت تتمنى «لبنى» أن تموت به كي تستعد لموتها، فهي ترى أن الموت البطيء أشبه برجل طيب يدعوها للحب، أما الموت السريع فهو رجل شرير. وما أكثر التباسات الموت والحب في الرواية. وموت «ماري» لم يكن يعني موت صديقة وحسب، بل موت الذكريات أيضاً، وفي كل موت يموت جزء من «لبنى» التي صار الموت من محاور حياتها الأساسية.

لاشك أن «ماري» المسيحية الفلسطينية أغنت الرواية بأبعاد وطنية وإنسانية، ولكنني أرجح أن الكاتبة اختارتها مسيحية بهدف استغلال مراسم الجنازة بالدرجة الأولى، فالطقوس المسيحية تقتضي أن يجتمع المقرّبون في منزل المتوفى ليسهروا حول جثمان صديقتها «ماري» بعدما زيّنتها بأحمر الشفاه، وقليل من الكحل على عينيها المغمضتين، وبعدما ساعدت زوجها «يوسف» بوضع بقايا الجسد المريض في ثوب زفافها حسب وصيتها نفسها، وكأن «ماري» بدورها ربطت بين الزفاف والموت في لاوعيها، بعكس «لبنى» التي كانت واعية لتلك المقارنة أحياناً، فوالد «لبنى» كثيراً ما كان يدعو ربه ألا يموت إلا بعد زفاف وحيدته ورؤية أطفالها، ولكنه يموت دون رؤية أولادها، وهنا نرى مرة أخرى اقتران الموت بالولادة.

ولعل الكاتبة اختارت أن تكون «ماري» فلسطينية لأن هذا الشعب مازال أبناؤه يسقطون شهداء، فالموت هو رفيق الفلسطينيين في معركة النضال، و«ماري» تعرضت لإصابات بالرصاص، ولكنها نجت من الموت بعدما تركت الحادثة عرجا خفيفا في مشيتها، فالموت حينها لم يكن قريباً بما يكفي، إضافة إلى أن «ماري» ماتت دون وداع أمها القاطنة في فلسطين مثل أم «لبنى» التي ماتت دون أن تلتقي ابنتها. ولعل هذا أمر آخر يعزز سر الصداقة الحميمة بين «لبنى» و«ماري». و«يوسف» زوج «ماري» وصديق «لبنى» لاحقاً شارك في معارك نجا منها من الموت، كما أنه يعرف الكثير من الذين سقطوا على درب النضال، ومنهم «أبو حداد».

موت المربية

كثيراً ما يكون الموت بداية لحياة جديدة - أو العكس - في هذه الرواية، أوصت الخادمة «مسعودة» وهي تحتضر «لبنى» أن تسأل عن أمها، وعملت «لبنى» بنصيحة المرأة التي ربتها بدل أمها، لاسيما أنها فقدت والدها وزوجها، وأصبح لها ابنة، فعرفت مشاعر الحب التي تكنّها الأم لأطفالها، ولكنها لم تعثر على والدتها.

وبعد سنوات تبدأ الأم بالبحث عن الابنة أيضاً، وذلك بعد موت زوجها الثاني الذي كانت تكرهه «لبنى» لأنه تراه اغتصب مكان والدها، وخطف أمها منها، فلم يعد لها من أحباء سوى ابنتها التي حدث بينهما انقطاع آخر أشبه بمرحلة سبات مؤقت قبل أن تنهض المشاعر المدفونة وتحيا من جديد.

كانت «لبنى» تريد أن تعتذر لأمها لأنها لم تقدر ظروفها عندما تخلت عنها، فهي قد باتت تعلم أنه من المحال أن تكره الأم طفلتها، ولكن القدر لم يسمح بالإلتقاء، فقد ماتت الأم فجأة كما ماتت المربية، وكأن قدر لبنى أن تفقد الأم ومَن قام بمقام الأم دون مقدمات.

البطلة والموت

بادرتني ماري:

- قصتك المنشورة أخيراً كتير حلوة.

أبدى يوسف رأيه:

- لكن نفسية البطلة كانت تهيئها للانتحار.

- كنت أريد بالرغم من آلام المرض أن تنتصر على الموت، تعرفني أكرهه.

- شعورك الخاص لا يجوز أن تسقطيه على أبطالك.

تدخّلت ماري:

- يا عمي ما بدها تموّتها، وهيك بتخلي القارئ يتفاءل.

التفت نحوها محتدّا:

- هكذا لن تقنع القارئ، لأن شخصية مريضة من هذا النوع لابد أن تأتي بفعل مجنون.

- هلا قصدك تقول إن اللي انتحروا مجانين؟

أشار إليّ وهو يضحك:

- اسأليها.. هي تقرأ وتعرف كم من عظماء العالم، سياسيين، أدباء وفنانين ماتوا انتحاراً.

أيّدت كلامه وأعطيت كثيراً من الأمثلة. علّقت ماري ضاحكة:

- يعني إذا صرت أديبة كبيرة راح تنجنّي وتنتحري؟

- لا يمكن.. أنا أكره الموت وأتمنى مثل جورج أمادو لو أعثر على مكان لا يصله الموت.

قالت:

- شوفي.. إحنا مثل القصص، أحسن شي ما تفكري بالموت. (ص142-143).

النصيحة الأخيرة «ليلى العثمان» على لسان إحدى شخصياتها ولكن دون أن تعمل بها، فقد حضر الموت بصور وأشكال عدة، حتى بدا الهاجس الأكثر بروزاً في الرواية، حتى أنه عندما

احتفت الكاتبة أيضاً بالولادة والحب والفرح لم تدر ظهرها للموت.

كما نجد أن «يوسف» يرى «لبنى» الكاتبة / الشخصية تفرض حضورها على أبطالها على حساب الفنية الأدبية، ولكن «لبنى» تبرر ذلك لأنها تريد من بطلتها أن تنتصر على الموت، وهذا ما تؤيده «ماري» أيضاً، لكن «يوسف» لا يقتنع بالتبرير، ويتحدث عن الانتحار الذي اختاره الكثير من العباقرة في لحظة جنون، فيأتي سؤال «ماري» عن الانتحار، فتؤكد «لبنى» أنها تتمسك بالحياة حتى نهاية الطريق، لهذا لن تدع بطلتها تنتحر وإن هيأت الظروف لذلك، لأنها هي ذاتها لم تختر الموت كحل نهائي بالرغم مما تعرّضت له من أحداث مؤلمة، فقد تصالح الجميع على كره الموت والتمسّك بالحياة.

ومن الجدير بالذكر أن «ماري» شبهت الحياة بالقصص، فالكتابة حياة، والمحو موت. ونجد في الواقع أن الكاتبة «ليلى العثمان» كتبت كل هؤلاء الشخصيات، ومحت بعضها بالموت، ولكن هذا المحو الافتراضي ليس إلا حبكة فنية لا غير، فحياة البطل الروائي هي نجاحه فنياً، وموته هو فشله فنياً، ومن هذه الزاوية نرى أن كل شخصيات «ليلى العثمان» أحياء في روايتها «خذها لا أريدها» التي قدمت إضافة مهمة إلى رصيدها الروائي الحافل بالإنجازات على صعيد الرواية العربية.

-------------------------------------

فَيا حُسْنَها حتى بآلامِ عُرْسِها
ويا لُطْفَها مَهْما استَحالتْ صواعِقا
تَنَبَّهَ فيها الضَّوءُ حتى كأنَّني
أراها سُطوحاً مُشْرِقاتٍ بَواسِقا
كأنَّ خيَالاتِ الذينَ تَجنَّحوا
مَراقٍ وإِنْ كانتْ رَدَىً ومَزالِقا
تَرَصَّدُ للظلْماءِ حتى كأنَّها
تُسَوِّي الزوايا الداجِياتِ حَرائِقا

محمد الفايز

 

 

 

سامر أنور الشمالي 





ليلى العثمان