رسالة إلي

قواعد اللعبة

هذه مجموعة من الرسائل كتبتها ولم يقدر لها أن تصل إلى أصحابها والحمد لله

سيدي..

إن ذكاءك المتوقد، وطاقتك التي لا تنتهي، وطموحك الذي لا يعرف الحدود، كلها محل اعتراف الصحاب جميعا، لا يشذ منهم أحد، ولا يخالف بينهم مخالف. وقد بدأ ذلك كله يظهر عليك من وقت مبكر عندما كنا جميعا نسعى لطلب العلم، نرى فيه الجدار الذي نستند إليه، ونرتفع به، ونصحح عن طريقه بعض أخطاء الزمان. وكنت دائما في المقدمة، أو قريبا منها. وكان ذلك يجلب عليك بعض الحقد وغير قليل من الكره. ولكنك لم تكن تأبه بشيء من ذلك، فقد كنت تعرف طريقك، لا يصرفك عنه ما يعترضك مما كنت تعتبره- ومع كل الحق- من سفاسف الأمور.

وأنهيت دراستك الجامعية باقتدار. وابتعثتك الجامعة إلى حيث تحصل على مزيد من العلم، ومزيد من الحضارة، ومزيد من الخبرة، ثم لتعود إليها تحمل لطلابك المقبلين بعض هذا الذي ستحصله من علم وحضارة وخبرة. وهل هناك في دنيانا كلها ما هو أفضل من العلم والحضارة والخبرة؟!

وقضيت هناك بضع سنين، تعب من العلم في فرع تخصصك عبا، ولكنك مع ذلك لم تلتفت عن فروع المعرفة الأخرى، فربطت بينك وبينها الأسباب. ولم تكن تترك فرصة لتثري بها عقلك ووجدانك إلا واهتبلتها اهتبالا.

حتى متع الحياة وأطايبها- مما يهتم به الشباب وهم في عنفوان الحياة وفورة العمر- لم تحرم نفسك منها، وإن كنت حريصا كل الحرص على الا تجرفك تلك الأمواج الهوج عن طريقك المرسوم.

وحرصت وأنت في بلاد الغربة على ألا تقطع الصلة مع بني وطنك ممن يعيشون هناك سواء من أجل الدراسة- كما هو حالك- أو حتى مع أولئك الذين ذهبوا، واستقرت أمورهم، وتقطعت بينهم وبين بلادهم الأسباب. ولكنك مع ذلك كنت حريصا الحرص كله على ألا تنغمس في تلك العلاقات انغماسا يجعلك تتوه معهم حيث يتوهون. كان اقترابك منهم بحساب، وكان ابتعادك عنهم بحساب. وكنت تدرك إدراكا واعيا: لماذا ذهبت إلى بلاد الغربة؟ وماذا تريد منها؟ وبماذا تريد أن تعود؟. وجعلك ذلك كله محور أحاديث كثيرة، بعضها كان يفيض إعجابا بك وتقديرا لك وأملا فيك، وبعضها كان يمتك بالغمز واللمز واصطياد الأخطاء.

وكان بعضهم يقول إنك تستغل ذكاءك استغلالا وصوليا، بل وذهب بعض كارهيك بلى أنك لم تصاحب تلك السيدة التي تكبرك في العمر كثير عن حب لها، بل عن طمع في ثرائها. وقال غيرهم غير ذلك. وكنا- معشر الجيل الذي جاء بعدكم- نسمع ذلك كله ونختلف حوله، بعضنا يصدقه وبعضنا يرفضه، ؤآخرون لا يرفضون ولا يقبلون، بل يحاولون تعليل تلك الأخبار المتناقضة. ولم يكن أمامهم من تعليل إلا ذلك الحقد الطبيعي تجاه كل الممتازين.

وكانت الدنيا قد تغيرت في أرض الوطن تغيرا عنيفا.

انتهى نظام حكم، وجاء نظام حكم آخر. واختفى أناس وظهر آخرون. وقال البعض إنها ثورة على الظلم، وقال آخرون: بل هو انقلاب دكتاتوري، وإجهاض لكل صور التقدم الطبيعي.

ولزمت أنت جانب الصمت. لم تؤيد الانقلاب الجديد، ولم تصفه بالثورة كما فعل غيرك، ولكنك لم تعارض ما حدث ولا تصديت له مع بعض أولئك الذين فكروا في التصدي لما اعتبروه خطرا داهما على الحرية.

وآذن كل شيء باستقرار النظام الجديد، وقويت قبضته على كل مناحي الحياة، بل وبدأت الأصداء التي كان يرفعها ذلك النظام تتردد في جنبات الوطن العربي كله تهزه هزاً عنيفا.

وقررت أن تقترب من النظام. وأنا أجزم أن أحدا غير ربك الذين خلقك، لم يكن يعلم عن يقين: هل قررت الاقتراب من النظام عن اقتناع أم عن رغبة أم عن طلب للمنافع، فقد كنت كالصندوق المغلق، لا يستطيع أحد النفاذ إلى فحواه.

وكان النظام يعلم قدراتك من غير شك، فلم يتردد في الترحيب بك، عندما أحس برغبتك في الاقتراب منه.

وافتقدك طلابك في الجامعة، فقد كان طلابك يقدرونك تقديرا عميقا. وأشفق كثيرون عليك من هذا التغيير الذي طرأ على مسار حياتك، وانتزعك من الجامعة إلى دنيا التنفيذ، وبحارها المتلاطمة، وما يحيط بها من أجواء لا تخلو من أنواء. ولكنك أثبت للجميع أنك ربان مقتدر، وأنك قادر على تسيير السفينة، حتى مع اختلاف المياه والأمواج.

وكان نجمك يصعد كل يوم.

وأخذت تصعد من مكان إلى مكان حتى أصبحت من أعلام النظام الجديد، الذين ينظرون له، ويشاركون في رسم سياساته. ولكنك مع ذلك لم تخدع نفسك كما خدع كثير أنفسهم. كنت تدرك قواعد اللعبة جيدا، وأول قاعدة من قواعدها أنك كنت تدرك أن النظام يقوم في الأساس على إرادة رجل واحد، لا ينبغي لأحد أن يشاركه في الجوهري من الأمور، ذلك أن مثل هذه الأمور الخطيرة ينبغي أن تترك له وحده دون شريك. أدركت ذلك جيدا، وتعاملت معه بذكاء وحذر، وضمن لك ذلك مكانا قريبا من القمة. ولكن فهمك للأمور جعلك تباعد بين نفسك وبين أن يصيبها شيء من غرور. كنت تدرك جيدا أن المسافة بعيدة بين القطب الواحد وبين ما يدور في فلكه من نجوم، حتى وإن هيئ لهم ولغيرهم أنهم من القمة قريبون. وحرصت الحرص كله على أن تكون بعيدا عن أن تحسب على هذا أو على ذاك. لقد كنت تدرك في أعماقك أوزانهم جميعا، وتعلم أنها- مهما ثقلت- خفيفة، وأن القطب الواحد لا يطيق أن تكون حوله أقطاب.

ووقعت قارعة كادت تودي بكل شيء.

وزلزلت الأرض زلزالها.

وألقى كل على غيره التهم والأوزار.

وأثبت الشعب العربي في تلك البقعة المهمة من وطنه أنه أصيل، وأنه أبر من كل الأقطاب والأخطاب.

وحاولت المسيرة أن تستأنف طريقها. ورغم أن كثيرين قد سقطوا أو أسقطوا، فإنك كنت واحدا من القلائل الذين بقوا محل ثقة، وبقوا في مواقعهم رغم الزلزال.

ولكن القارعة كانت في حقيقتها أقسى وأمر من كل ما عرف عنها وكل ما قيل.

ورغم كل طاقات العناد والإصرار فإن طبيعة القارعة وأبعادها كانت أكبر من أن تقاوم. وكان لابد أن يحدث ما حدث.

ووقفت ترصد الموقف رصد خبير قدير.

وبقيت في موقعك

ولم تصدق، ولم يصدق كثيرون غيرك، أن القادم الجديد يملك كثير من القدرات ويختزن من طبائع الفلاح المصري ما يجعله قادرا على الإحجام والإقدام. واستهنت به مع من استهان، ولم تدرك، كما لم يدرك غيرك أن الموقع نفسه يضفي على صاحبه من القدرات ما لم يكن له، ويفجر فيه من الطاقات ما كان غريبا عليه.

ووقع الصراع.

وأجريت حساباتك كما اعتدت أن تجريها.

واخترت أن تقف حيث وقفت، وكان طبيعيا أن تبتعد عمن كنت به تستهين.

ولأول مرة تخطئك قواعد اللعبة.

وفي لحظات كان كل شيء قد تغير.

ودخلت إلى قاعات مظلمة، قضيت فيها بعض الوقت الذي لم يقدر له أن يطول.

ولم تفقد توازنك بعد أن خرجت وبدأت تواجه الحياة باتزان عجيب.

ثم لم يشأ القدر أن يمهلك طويلا، وأفتقدك الجميع: من كان يحبك، ومن كان يحسدك. ولم يستطع أحد أن ينكر أنك كنت علامة من العلامات البارزة بين أبناء هذا الجيل.

رحمك الله رحمة واسعة. ورحمنا جميعا، فنحن جميعا نستحق الرحمة في هذا الزمن العجيب.