أنا وصديقي الحلو

          هو: يمكن أن يكون عدوّا أو صديقًا...وفق الطريقة التي تتعامل بها معه.

          وهو: حاضر في جلّ البيوت الكويتية والخليجية (بشهيتهم) وشهوتهم وبالرغم من أنوفهم!

          لأنه صديق وعدو في الوقت نفسه, يمكن لنا أن ننعته بـ (العديق), أو (الصدو), أي الذي يحمل صفات العدو والصديق معًا!

          وحتى نقترب من سمته, وملامحه, وصفاته, وهويته, لنستدعِ إلى الذاكرة بيت الشعر الشهير لأبي الطيب المتنبي الذي يقول فيه:

ومن نكد الدنيا على الحرِّ أن يرى عدوًا له ما من صداقته بُدُّ


          وعلى الرغم من ولعي الشديد بشعر المتنبي, المترع بالحكمة المعبرة - ببلاغة مدهشة - عن أخلاق البشر, وسلوكهم, في شتى المواقف, فإنني توقفت كثيرًا أمام البيت المذكور آنفًا. قلت لنفسي ولعمنا أبي الطيب متسائلاً: من هو هذا الصديق الذي لابد من صداقته? ما الذي يدعوني إلى صداقته إذا كان لا يستأهل الصداقة الاختيارية الناشئة عن كيمياء الود, ومقومات الاحترام, والعوامل المشتركة بين أي صديقين?!

          ولظني أن أبا الطيب, لم يبدع هذا البيت, إلا عن تجربة عاشها وكابدها, وجدتني أقول لنفسي: اللهم جنبني صداقة مثل هذا الصديق القسري البلية. وتمنيت على المولى سبحانه, ألا تضطرني الظروف, إلى مصادقته أبدًا.

          ولحسن حظ العبد لله, فقد تعاقبت عليه عهود الطفولة, والصبا, والشباب, والكهولة, ولم يصادف البتة هذا (الصديق) الكريه الذي تضطرك الظروف (الكحلية) إلى (صداقته) رغم أنفك!

صديق نكد

          لكني قبل أن أغادر عهد الكهولة, مرح الأعطاف, أدبّ على الأرض مختالاً كما الطاووس, دون أن أخفي شماتتي في عمنا (المتنبي), وصديقه المزعوم الذي يبدو أنه صادفه في (وادي عبقر), ذات شطحة خيال, تجلت في هذا الصديق النكد, الذي أحاله بيت الشعر المذكور إلى حكمة تلعلع في سياق الخطب, ومثال يتربع في متن المقالات, أقول: قبل أن أودع الكهولة بطيب خاطر, زارني (الحبيب) إياه على حين غرة, ودون إنذار ولا استئذان!

  • إن زيارته, ومن ثم صداقته القسرية, كريهة بحق! فهي: تنشف الريق, وتحرضك على كرع الماء القراح بين حين وآخر.

          زد على ذلك: كونه يدفعك إلى التردد على (بيت الأدب) حاشاكم....لفك الحصر الذي ينتابك كل نصف ساعة! بحيث إن نفسك الملولة, الأمّارة بالطيش والنزق, تحرّضك على أن تسكن وتقيم وتقعد في المرحاض (كرمكم الله), خلاصًا من هذه البلية المتواترة! ولا تظن أن آثار حضور (صديق المتنبي) محصور بما ذكرناه آنفًا فحسب, بل إنه يتجلى في زغللة العينين, المصحوبة بصداع و(دوخة) تهطل عرقًا غزيرًا! فضلاً عن الأعراض والتبعات والأخطار التي ستعرفها لاحقًا من السياق.

          ولا أحسب الآن أن ثمة قارئًا وحيدًا فريدًا يجهل ذلك (العدو الذي ما من صداقته بدّ).

          إنه: مرض السكر...ولله الحمد!

          في مستوصف (النزهة) لعلاج مرض السكر, قال لي طبيب السكر - طيب الذكر - الدكتور (محمد الخطيب): أنت مصاب بمرض السكر من النوع الثاني, الذي يعالج بالأقراص المخفضة للسكر, فضلاً عن ممارسة الرياضة, واتباع الحمية في كل وجباتك.

          ثم أردف قائلاً: لطالما حذرتك مرارًا وتكرارًا, بضرورة تخفيف وزنك الثقيل, وسمتك الكامل الدسم! كم مرة نصحتك بأن تطلّق التدخين طلاقًا بائنًا لا رجعة فيه أبدًا! ألم أقل دع الكسل ففي الحركة بركة?!

          لكن (عمك أصمخ) (1) و(تنبل) (2) (لا يريم), الأمر الذي جعلني إنسان أكرّش من الأمام والخلف, وسمينًا جدًا كأنك (كَبَت) (3)  بالصلاة على النبي!

          وكل ذلك لابد - بالضرورة - أن يفضي بك (عِدِل) إلى مرض السكر! وهنا سألت الطبيب المعالج: ما الحل? ما الوصفة العلاجية التي تقترحها, لأنفذها حرفيًا بإذن واحد أحد? وبصراحة, قلت ما قلت للطبيب المعالج (لفض الجلسة), وللاستهلاك الآني ليس إلا!

نصائح بلا فائدة

          بصراحة أكثر: لم أنفذ نصيحة واحدة من تعليمات الطبيب جهلاً وتجاهلاً! ولعل النصيحة الوحيدة التي حرصت بشدة على تنفيذها هي استخدام (السكرين) في شرب الشاي والقهوة, فحينما يحضران أتذكر أني مريض بالسكري, وما عدا ذلك, فقد كنت - مثل جل عباد الله السكريين - ألتهم التمر كأني (أقزقز لب), وأطعم الحلويات المحلية والخليجية والشامية والمغربية والأوربية والأمريكية, وكأني إنسان صحيح معافى, لا أشكو من شيء البتة! أقول لنفسي: مادمت أبلع الحلو, وألتهم الدسم, وآكل المحمّر والمعمّر وما إلى ذلك, ولا أشكو من شيء مطلقًا, فما الذي يدفعني إلى الالتزام بتعليمات الدكتور المعالج الصارمة?!

          إلى أن جاء صباح أغبر: أتلوى من المغص الشديد, وأتأوّه من الصداع المرير, وأعاني الغثيان والتقيؤ والدوخة والمشية المترنحة وكأني (سكران طينة) والعياذ بالله! وحين وجدتني بَعلتي بهذه الحالة المزرية الخطيرة, طارت بي إلى مستوصف علاج مرض السكر.

          ولاحاجة بي إلى القول: إن نسبة السكر في الدم كانت عالية جدًا.

          ووجدتني في غرفة العناية المركزة, وأعطيت العلاج اللازم, حالما وصلت المستوصف, وقال الدكتور المعالج بحسم وحزم: إذا لم تتحسن حالتك في غضون ساعتين, فلا مناص من إحالتك إلى المستشفى الأميري.

          وكان الطبيب يلومني - بشدة - على إهمالي لتعليماته ولامبالاتي بها! ولم يوفرني - ساعتها - لومًا وتوبيخًا وتقريعًا - بلهجته المصرية المحببة - قائلا: (هوه انت بس شاطر توعظ القرّاء في مقالتك اليومية بصحيفة (القبس) متخذًا مسوح الحكيم الرشيد, معتمرًا عمامة الواعظ المستنير, بينما حضرتك ذات نفسك المحتاج إلى الوعظ والنصيحة والإرشاد).

          وقد لاحظت على نفسي - وغيري من مرضى السكري - أنهم جميعًا - إلا من رحم ربي - يتسمون بصفتي الاهمال واللامبالاة! فمرد ذلك في ظني: أن التبعات الخطيرة, الناشئة عن مرض السكري, تظهر فجأة وعلى حين غرة, لسبب أو لآخر, فمريض السكري: تراه لا يكابد أي عرض أو مرض, ولا يعاني أي ألم, الأمر الذي يحرّضه على إهمال الحمية والحركة والرياضة, وتناسي تناول الأدوية في مواعيدها!

          ولا يكف عن هذه الممارسة الخاطئة الخطيرة, إلا حين تؤدي زيادة نسبة السكر العالية في الدم, إلى مضاعفات خطيرة, فقد تكون مأساوية, إذا لم تتم معالجتها, ولاحظت على نفسي وغيري أيضًا, جهل الكثيرين من المرضى, بمضاعفات مرض السكري, والتبعات الخطيرة الناشئة عن الجهل والتجاهل, بالتعليمات الصحية الواجب اتباعها, فضلاً عن خطورة اتخاذ موقف الإهمال واللامبالاة تجاهها!

          إن درجة ثقافة المريض بالسكري, ووعيه بضرورة الحمية والرياضة, والالتزام بمواعيد أخذ الدواء, وكل النصائح والتعليمات التي يسمعها المريض من الطبيب وأخصائي التغذية, هي التي تجنبه مضاعفات المرض وتبعاته الخطيرة.

          ولا أنسى ذلك اليوم الذي سمعت فيه الدكتور محمد الخطيب (الذي يعرفه ويحبه كل مرضى السكري في محافظة العاصمة), وهو يقول: مرض السكري سيلازمك طويل حياتك, لذا من الخير لك أن ترافقه, وتصاحبه, وتصادقه! فإذا فعلت ذلك: فلن ترى منه ما يضرك مطلقًا. وصداقته تستوجب - بالضرورة - أن تغير نمط معيشتك, وأسلوب حياتك, وفق مزاجه وطلباته! إنه - إن شئت - كما (السفن أب seven up) تحبها تحبك! وهنا تداعى إلى الذهن ثانية بيت الشعر إياه لعمنا أبي الطيب المتنبي:

ومن نكد الدنيا على الحرِّ أن يرى عدوًا له ما من صداقته بُدُّ


          وأحسب, بل أجزم, أن عمنا المتنبي لو عاد إلى الحياة, وخبر مرض السكري عن كثب, وكابد معاناته ومخاطره, لما تردد أن يسمه بصفة الصديق الذي ما من صداقته بدّ!

علامات فارقة

  • من زمان: كان جواز السفر الكويتي (وغيره) يتضمن البيانات الشخصية لحامل الجواز (العلامة الفارقة), التي تميزه عن غيره من عباد الله المواطنين. ولعلي لا أكون مبالغًا ومغاليًا إذا نوهت: بأن (كل) المواطنين (الكوايتة) يتسمون بعلامة فارقة, تكاد تشملهم جميعًا, وتتجلى في مرض السكري! ففي كل بيت, وضمن كل أسرة, ثمة واحد أو أكثر يعاني المرض. ومن النادر جدًا أن تجد أسرة كويتية - وربما خليجية - خالية من وجود هذا المرض! والأنكى من ذلك هو: أن تجد الأسرة جميعها مصابة بمرض السكري, ولله الحمد! وقد يكون مرد هذه الظاهرة وراثيًا (جينيًا), جراء زيجات الأقارب التي تتم داخل محيط الأسرة ذاتها, ناسين ومتناسين أن المصطفى صلى الله عليه وسلم دعا إلى زواج الأباعد, لما ينطوي عليه من فوائد صحية واجتماعية وغيرها.

          الشاهد: أن دولة الكويت باتت تحتل المرتبة الأولى في نسبة أعداد مرضى السكري, وقد تقتحم موسوعة (جينيس) للأرقام القياسية بسبب كثرة أعداد مرضى السكري فيها! ويمكن لنا أن ننعت المرض السكري بأنه مرض شعبي وطني يسكن دم غالبية المواطنين! ومن هنا فإن المواطن الذي يخلو دمه من هذا المرض, لا يعد كويتيًا قحًا!! ذلك أن غياب السكري في دمه يشكل (مثلبة) ونقيصة في هويته الوطنية!

          وفي هذا السياق أعرف بعض السكان القديمين, المقيمين في البلاد منذ مدة طويلة, ويتسمون بكل المعايير التي تتيح لهم الحصول على الجنسية الكويتية في التو والحين, ودون تردد. لكن الذي (يعيبهم) كونهم جميعًا أصحّاء - ولله الحمد - ولا يعانون مرض السكري!

  • يقول الدكتور (عبدالله بن نخي) نائب رئيس رابطة السكر في دولة الكويت, في معرض مداخلة له عن دور الرابطة في مكافحة المرض (الحلقة النقاشية حول مرض السكر ودور المؤسسات الطبية والعلمية الكويتية في مكافحة مرض السكري. مجلة التقدم العلمي العدد الرابع والأربعون والخامس والأربعون مارس 2004). يقول: إن النسب العالية لانتشار مرض السكر قد حدت ببعض الدول ومؤسساتها العلاجية, على أن تعد مرض السكري في تعداد الأوبئة. ويبدو أن مكافحة المرض قد فاق قدرات وزارات الصحة بمفردها, الأمر الذي أفسح في المجال للهيئات والمؤسسات الطبية العالمية والمحلية, لتؤدي دورًا مهمًا في العقدين الماضيين. فمريض السكر - يستطرد الدكتور بن نخي -  يعاني مرضه على مدار الساعة, مما يوجب العمل على تثقيف هذا المريض, وتوعيته, وتدريبه للتعامل مع هذا المرض. ولا يقف الأمر عند هذا الحد, بل يتجاوز ذلك إلى توعية وتدريب أسرة المريض, والمتعاملين معه عن قرب, لمساعدته على إعادة تأهيله, وحسن تعايشه مع مرض السكري بصورة سليمة.

          والحق أن ما ذكره الدكتور (عبدالله بن نخي) آنفًا, يستأهل التأمل والتأسي, والأخذ بما انطوى عليه من نصائح قيمة, والنظر إليها بعين الاعتبار والاهتمام. والعبدلله  يعرف - سلفًا - بأن موعظته بشأن معايشة مرض السكري ومصادقته, وفق التعليمات الصحية, التي يلعلع بها كل من الطبيب المعالج وأخصائي التغذية, وكل الجهات العلمية والطبية والمدنية المعنية, موعظة غير مبلوعة لدى الكثيرين منا - نحن معشر السكريين -! إن الكثيرين منا - كما أسلفت - يجهلون ويتجاهلون التبعات الضارة الخطرة الناشئة عن عدم الالتزام بالنصائح الذهبية للتعايش السلمي مع مرض السكري.

          إن لسان حال مريض السكري يقول: كيف أتعايش مع مرض السكري, وأصادقه العمر كله, وهو يدس أنفه في كل تفاصيل حياتي اليومية?! أتصور أنه يلاحقني إلى غرفة النوم, ويقحم نفسه في حقوقي الشرعية الزوجية دون حياء?! فهل مثل هذا المتطفل الكريه يمكن اتخاذه صديقًا...ولو عنوة وقسرًا وعلى مضض?!

الحل الوحيد

          وإذا شئنا الحق والصراحة نقول: بأنه ليس أمام وخلف معشر مرضى السكري سوى الإذعان لنصيحة (أبي الطيب المتنبي) إياها, إذا شاء واحدنا الحياة بمعية المرض, دون أخطار ومضار ومعاناة شديدة الوطأة, ومفاجآت مأساوية مفجعة. ولذا كن صديقًا له مدى الحياة, ولو على مضض! لسبب واضح جدًا, ومهم جدًا يكمن في أن معشر مرضى السكري لا يملكون خيارًا سويًا صحيًا آخر لسوء حظهم!

          ولا حاجة بنا إلى القول, بعد كل ما ذهبنا إليه, بأن صداقته القسرية تفضي إلى الحياة الهنية الخالية من المنغصات المأساوية الخطيرة.

          وقد يظن البعض - آثمين دون شك - أن (المتنبي) يهرف بما لا يعرف, فإن (ذنبهم على جنبهم) ويتحملون تبعات موقفهم اللاسوي المدجج بالعناد والجهل واللامبالاة والعياذ بالله!

          ولو عنّ لأحد أن يسألني (شلون الكويتيين), وكيف أراهم? لقلت - دون تردد - بأنهم (حلوين) مثل العسل!! تسألني (اشمعنى) وكيف ولماذا?!

          أقول لك: (بلا قافية) اقرأ المقالة جيدًا ففي طياتها الخبر اليقين!.

ومَنْ صَحِبَ الدنيا طويلاً تقلبت على عينِه حتى يرى صدقَها كذبا


(المتنبي)

---------------------------------
(1) أصمخ: أصم لا يسمع
(2) تنبل: كسول
(3) كَبَت: خزانة ملابس