أرقام

أرقام

.. وما زال الفقر مستمرا

"تحسنت الأوضاع، لكن الفقر ما زال مستمرا"، هذا ما انتهى إليه تقرير للبنك الدولي صادر في ربيع 1994، وهو تقرير يقول: إن أوضاع الفقراء قد تحسنت في 55 دولة من دول العالم، تضم "3.2" مليار نسمة.. أي نحو "60%" من سكان عالمنا كله، والتقدير عن العشرين عاما الأخيرة.سبقت التقرير أدبيات ودراسات كثيرة حول قضية الفقر، وخلال ذلك شاع المصطلح الدولي "تحت خط الفقر"، واعتبر البنك الدولي أن الذين يعيشون تحت خط الفقر المطلق هم الذين يقل دخل الفرد منهم عن " 370" دولارا في السنة.. أي نحو دولار واحد في اليوم..و.. ذلك بمقاييس عام 1985.

والفقراء أقل حالا من منخفضي الدخل، ففي تقرير "التنمية في العالم" الذي أصدره البنك الدولي عام 1993، أن منخفضي الدخل هم الذين يقل متوسط نصيب الفرد من الناتج سنويا عن 635 دولارا، وأن متوسطي الدخل قد يصل نصيب الفرد منهم إلى 8 آلاف دولار.. و.. تبدأ رحلة الصعود للدخل المرتفع بعد ذلك.

على أي حال، وأيا كان تعريف الفقر، والذي قد يختلف من مكان إلى آخر فإن مؤشرات التحسن التي أشارت لها الدراسة الأخيرة جديرة بالنظر.

لقد ارتفع متوسط العمر في هذه البلدان "55 بلدا" من 53 عاما إلى 62 عاما بين عامي 1970 و 1993.

أيضا، وخلال نفس الفترة، انخفض معدل وفيات الأطفال- وهو مؤشر آخر على التحسن- بنسبة الثلث.. وبدلا من أن يكون وصول المياه النقية مقصورا على ثلث السكان "وهو ما كان عليه الحال عام 1970" فإنها تصل حاليا إلى 68% من عدد السكان.. و.. بمؤشر متوسط الدخل الفردي فقد ارتفع ذلك المتوسط من 190 دولارا إلى 390 دولارا.

هكذا تحسن الدخل "إلى أكثر من الضعف"، وتحسنت مؤشرات الحياة من حيث الصحة والعمر ووسائل المعيشة، ولكن بقي التحسن كله داخل دائرة الدولار يوميا.. أو هكذا، على وجه التقريب، أي أن هذه المجموعات لا تكاد تخرج من دائرة الفقر، إنها ما زالت أسيرة الحياة المتواضعة والبائسة.

إفريقيا حالة خاصة

في خريطة الفقر والثراء، أن الشمال أكثر ثراء، وأن البلدان الفقيرة والمجموعات السكانية الفقيرة أكثر انتشارا في الجنوب.. و.. مع ذلك تبقى الفروق واضحة، لقد شهدت آسيا طفرة للأمام وكان من بين دولها: تايلاند التي لحقت بالنمور السبعة، والصين التي شهدت أعلى معدلات نمو في العالم رغم وجودها في خانة الفقراء.. و.. على العكس من ذلك الصحراء، والتي عانت من الجفاف والتصحر والحروب الأهلية وسوء استغلال الموارد.

لكن حالة إفريقيا تدعو أيضا للتأمل، وتقود لمقولة مهمة هي: أن فقرا أكثر قد لا يتعارض مع حياة أفضل!

في إفريقيا، وعلى مدار العشرين عاما موضع الدراسة، انخفض مستوى الدخل الفردي. لكن معدلات توقعات الحياة.. قد ارتفعت!

أيضا، وفي إفريقيا السوداء- الأكثر تخلفا في العالم- انخفض معدل وفيات الأطفال.. وقل انتشار الأوبئة.

أما التفسير فهو واضح، فعلى الرغم من أن كثيرا من الأمراض تودي بحياة الإنسان، وتحدد متوسطا منخفضا للأعمار.. فإنه على الجانب الآخر تلعب الاختراعات والابتكارات وتكنولوجيا الصحة دورا في تفادي ذلك كله.

ورغم أن هناك سوء تغذية ومجاعات تحصد البشر، وهناك ما يضر بصحة الأم والطفل، ولكن هناك مصلا واقيا يقلل نسبة وفيات الأطفال، ويقضي على بعض الأوبئة!.

البشر أولا

في تفسير ظاهرة تخفيف حدة وانتشار الفقر تنتهي دراسة البنك الدولي إلى أن هناك سببين واضحين:

الأول - انضباط السياسة الاقتصادية، أي التحسن والتحكم في إدارة الاقتصاد، إنها قضية تتعلق بالكفاءة وحسن استخدام الموارد المتاحة.

السبب الثاني، هو الاستثمار المكثف في تنمية الموارد البشرية.. مثل التعليم والصحة.

لم يشر التقرير إلى تدفق الاستثمارات الخارجية وتنمية قطاعات الإنتاج كسبب رئيسي في معالجة الفقر، ولم يشر إلى تغير جذري في هيكل اقتصاديات الدول الفقيرة.. فالاستثمار في معظمه يتجه شمالا، وصافي التدفقات - وبسبب مشكلة الديون - اتجه في سنوات عديدة لصالح دول الشمال، أي أن الجنوب يعطي أكثر مما يأخذ!.. كذلك لم تكن سياسات الإصلاح الاقتصادي والتي تبنتها المنظمات الدولية مؤدية لدفع عجلة الإنتاج وتغيير الهياكل الاقتصادية.. وعلى العكس فإن دراسات أخرى للبنك الدولي أيضا تشير لاتساع دائرة الفقر بسبب هذه البرامج.

في دراسة أجريت حول 88 دولة تطبق برامج الإصلاح الاقتصادي "أو ما أسميت كذلك"، اتضح أن سياسة الإصلاح قد أدت إلى تفشي الفقر حيث انخفض متوسط الدخل للفرد، أو زادت تكاليف المعيشة.

وفي دراسة أخرى على 29 دولة إفريقية انتهى الباحث إلى أن معظم هذه الدول لن تستعيد متوسط دخل الفرد السابق على برنامج الإصلاح الاقتصادي قبل أربعين أو خمسين عاما.. وبما استدعى للساحة، فكرة الصناديق الاجتماعية!

و.. إزاء ذلك، إزاء نقص التكنولوجيا ورءوس الأموال وفشل الكثير من برامج الإصلاح التي تبنتها المنظمات الدولية، كان طبيعيا أن تكون ذخيرة الفقراء للتقدم: البشر وتنمية قدراتهم وكفاءاتهم وإنتاجيتهم.

السؤال، وإذا كان نطاق الدراسة عشرين عاما أو نحو ذلك، هل كانت هناك جهود كافية للخروج من دائرة الفقر؟.. هل كانت هناك جهود لإعادة بناء أجهزة الإنتاج في الدول الفقيرة؟.. وهل كانت هناك محاولات جادة لتصحيح تلك العلاقة المختلة بين الشمال والجنوب والتي يفوز فيها الشمال بنصيب الأسد؟ الإجابة دائما: لا.. وإن كانت هناك استثناءات في هذا البلد، أو ذاك.

والإجابة أيضا، أنه لا مناص عن ثورة في أساليب الإنتاج وهيكل الاقتصاديات الفقيرة.. و.. تلك العلاقة المختلة التي تجعل الشمال دائما هو المسيطر، والجنوب دائما هو التابع، بما يفرضه وضع التبعية من قبول فكرة الفقر.. فالفتات هو نصيب التابعين.

 

محمود المراغي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات