مُخرجون مُستقلون يُعيدون للسينما التركية هيبتها

مُخرجون مُستقلون يُعيدون للسينما التركية هيبتها

لم يزِدْ عدد الأفلام التركية المُنتَجة بين الأعوام «1896 - 1945» على «50» فيلماً. أي بمعدل فيلم واحد في السنة، بينما كانت تركيا تستورد آلاف الأفلام الروائية بهدف عرضها في الصالات السينمائية المبثوثة في المدن الكبيرة على وجه التحديد.

لم يكن النقاد الأتراك على خطأ حينما قالوا إن السينما التركية لم تزدهر خلال العقود الخمسة الأولى من القرن الماضي، لكنها انتفضت لاحقاً مثل طائر العنقاء. ففي بداية العقد السادس تم إنتاج «49» فيلماً في سنة واحدة، وهذه قفزة كمية ونوعية كبيرة في آنٍ واحد، وهي تعادل كل ما أُنتج خلال الخمسين سنة الماضية. وفي حقبة الستينيات أصبحت تركيا خامس أكبر دولة مُنتجة للفيلم السينمائي في العالم، إذ بلغ إنتاجها السينمائي في بداية السبعينيات «300» فيلم في بعض السنوت، وهو عدد كبير حتى بالنسبة للدول المُهيمنة على صناعة السينما مثل أمريكا والهند ومصر. غير أن هذا الازدهار لم يدم طويلاً بسبب انتشار التلفزة والفيديو وبقية الوسائط البصرية التي عوّضت المُشاهد عن الذهاب إلى صالات السينما الدكناء مادامت الشاشات الفضية تستطيع القيام بالغرض ذاته على الرغم من صغر هذه الشاشة السحرية. كما لعبت الأزمة الاقتصادية خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات دوراً كبيراً في تراجع الإنتاج السينمائي، إذ سببت انخفاضاً حاداً ليس في مبيعات التذاكر فحسب، وإنما في عدد صالات العرض. أما معدل إنتاج الأفلام فقد ظل يتراوح بين «10 إلى 15» فيلماً في السنة الواحدة، وهو انخفاض مروع قياساً للعصر الذهبي الذي شهدته شركة «يشيل جام» التركية التي جاوز إنتاجها السينمائي في بعض سنوات الستينيات والسبعينيات «300» فيلم، مع الإقرار بوجود نسبة غير قليلة من الأفلام التجارية أو الرديئة فنيا. تجدر الإشارة إلى أن الانقلاب العسكري للجنرال كنعان إيفيرين وما تبعه من هيمنة عسكرية غلب عليها النَفَس القومي الشوفيني ساهم هو الآخر في تحييد دَور السينما وتراجعها إلى مدى بعيد. غير أن هذا الوضع قد تحسّن في أواخر التسعينيات ومطلع الألفية الثالثة. أما اليوم فإن السينما التركية صارت تجذب ملايين المشاهدين وتحقق نجاحات تجارية تتجاوز الأفلام الأجنبية فيما يتعلق ببيع التذاكر في الأقل. لم يقتصر النجاح على الجانب التجاري فقط، بل تعداه إلى الجوانب النوعية. وحينما يئس السينمائيون من دعم الدولة قرر عدد غير قليل من المخرجين الشباب الذين ينتمون إلى تيار السينما المستقلة أن يأخذوا على عاتقهم موضوع الإنتاج خصوصاً بعد أن مهّد لهم الطريق عدد من المخرجين الرواد الذين ينتمون إلى تيار سينما المؤلف أمثال يلماز غوناي، نوري بيلجي جيلان، يشيم أستا أوغلو، ودرويش زعيم. أما السينمائيون الشباب الذين ينتمون إلى تيار السينما المستقلة والذين أطلق عليهم بعضُ النقاد الأتراك اسم «الموجة الجديدة» فهم يشكلون عدداً كبيراً من المخرجين الواعدين، نذكر منهم أوزجان ألبير، محمد بهادير إير، مريانه كورباج، كاظم أوز، سليم إيفجي، سميح كبلان أوغلو، سيفي تيومان، سردار أكار، وزكي دميركوبوز. ولكي نحيط القارئ الكريم بأبعاد هذه السينما الشابة والمستقلة التي اختطت لنفسها مساراً مختلفاً لا بد أن نتوقف عند فيلمين أساسيين وهما «رحلة إلى الشمس» ليشيم أستا أوغلو، و«العاصفة» لكاظم أوز. غير أن اختيار هذين الفيلمين لا يقلل من أهمية الأفلام الأخرى لرموز هذه الموجة الجديدة التي قدّمت الوجه الآخر لطبيعة الحياة في تركيا، هذا البلد المترامي الأطراف الذي يبذل قصارى جهده من أجل الانضمام إلى الاتحاد الأوربي الذي يتوافر على قيم وتقاليد مختلفة تثير بين آن وآخر تجاذبات وانقسامات حادة يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار من قِبل الأتراك حكومة وشعبا.

يشيم.. المخرجة التي كسرت جدار الخوف في «رحلة إلى الشمس»

ظلت السينما التركية إلى وقت قريب لا تتحرش بالموضوعات الحساسة التي تستفز الأنظمة التركية المتعاقبة، وخصوصاً تلك الأنظمة القومية أو اليمينية التي تتصف بشوفينيتها المتعجرفة وتطرفها الأعمى. ومن بين الموضوعات المحرمة التي لا يتعاطى معها السينمائيون الأتراك إلا لماماً هي العصيان الكردي، والإبادة الجماعية التي تعرّض لها الأرمن، والتهجير القسري الذي كان يمارسه الأتراك بحق اليونانيين المقيمين في تركيا أو بالعكس، وقضية النزاع القبرصي، وحتى سيرة حياة أتاتورك لم يسمح بتناولها إلا قبل مدة وجيزة. والمتابعون للسينما التركية يعرفون جيداً أن عدد المخرجين الذين ينتهكون هذه الخطوط الحمر المرسومة سلفاً هم قلة نادرة. ومع ذلك فإن الساحة السينمائية التركية لم تخلُ من أناس شجعان ومجازفين أمثال يلماز غوناي، كاظم أوز، ويشيم أستا أوغلو، صاحبة التحفة السينمائية «صندوق باندورا» والتي نالت العديد من الجوائز عن أفلامها الروائية والوثائقية السابقة، وبالذات فيلم «رحلة إلى الشمس» الذي نحن بصدد دراسته وتحليله.

الموضوعات المحرّمة

تصدّت المخرجة يشيم أستا أوغلو لأغلب الموضوعات المحرَّمة التي لم يجرؤ العديد من السينمائيين الأتراك على تناولها أو ملامستها ملامسة خفيفة. فها هي تعالج جملة من الموضوعات المحرمة في آنٍ واحد مثل قضية الأكراد الذين يطالبون بحقوقهم القومية، والمظاهرات الكردية التي تندلع بين آن وآخر في اسطنبول وعدد آخر من المدن التركية. كما تناقش يشيم موضوع التعذيب في السجون والمعتقلات التركية حيث يتعرض محمد كارا إلى أبشع أنواع التعذيب وهو قيد التحقيق فيما يموت برزان داخل السجن جرّاء نزيف في الدماغ حدثَ له إثر تعرضه لضرب مبرّح بالعصي والهراوات التي تستعملها أجهزة الشرطة والبوليس السري التركي. كما يشير الفيلم بشكل صريح إلى موضوع الإضراب عن الطعام الذي حدث في سجن بايرام باشا والذي بلغ يومه الثالث والستين ومات فيه عدد من السجناء من بينهم شفق غوناي. وإذا ما تتبعنا السياق السردي للفيلم الذي كتبته وأخرجته يشيم أستا أوغلو فإننا سنلمس منذ البدء التأكيد على موضوع الهوية الكردية بما تنطوي عليه من جوانب متعددة. كما أن الفيلم يناقش موضوعات الحُب والمُلاحقة والاقصاء والضياع داخل حدود الوطن.

رحلة إلى الشرق

هنا تبدأ الرحلة الحقيقية في الفيلم حيث يصبغ محمد رأسه باللون الأشقر، ثم يسرق سيارة شحن، ويضع فيها التابوت الذي يحتوي على جثة برزان وينطلق بها إلى اسطنبول ماراً بالعديد من المدن والقرى التركية حتى يصل إلى قرية زُردج. وحينما يصل إلى الإقليم الكردي تواجهه نقاط التفتيش العسكرية التي يتحدث أفرادها بنبرة شوفينية عالية فيها الكثير من التجبّر والغطرسة. وطوال الطريق إلى زُردج يرى محمد العديد من القرى المدمرة والمحروقة في إشارة واضحة إلى التهجير القسري وما يتعرض له المواطنون الأكراد من قمع واضطهاد كبيرين. ولكي تزيد المخرجة يشيم أستا أوغلو من درامية الحدث وتفاقم معاناة محمد الذي تجشم عناء السفر الطويل فإن سيارته تتعطل قبل أن تصل إلى القرية حيث يضطر لأن ينقل التابوت في سيارة أجرة. وحينما يصل إلى أول مدينة يشاهد الدبابات التركية وهي تجوب في شوارع المدينة. «للمناسبة هذه الدبابات كانت قد صوّرتها يشيم عام 1996 في مشروع تخرجها بكاميرا فيديو وأفادت منها في هذا الفيلم». وحينما يصل محمد إلى قرية زُردج يكتشف أنها مدمرة هي الأخرى وثمة علامات «كروس» حمراء على عدد من المنازل من بينها منزل برزان. يُنزل التابوت الذي أقلّه أخيراً على عربة يجرها حصان، ويسحبه إلى حافة البحيرة التي غمرت مياهها منازل القرية برمتها. ثم يدفع التابوت الذي أخذ يتحرك باتجاه مسار الطيور المحلّقة وهو يغوص في أعماق البحيرة. لقد نفّذ محمد وعده وأوصلَ جثه صديقه الكردي إلى ديارها وهو نفسه كان ضحية للتفرقة العنصرية والتمييز على أساس اللون والقومية.

التمييز العنصري

ثمة معطيات كثيرة اعتمدتها المخرجة يشيم أستا أوغلو في رصد فكرة القمع والتمييز العنصري الذي يتعرض له الشعب الكردي في تركيا. إن نصف عدد الأكراد في المنطقة يعيشون في تركيا، أي أنهم يشكلون نحو 25% على الأقل من نسبة السكان في تركيا، علماً بأنه لا توجد إحصاءات دقيقة في هذا الصدد. ومن الملاحظ أن ظواهر القمع والاضطهاد والتفرقة العنصرية والتمييز على أساس اللون والقومية واضحة ولا تحتاج إلى أدلة دامغة كي نثبت صحة ما نذهب اليه. فالحديث باللغة الكردية لم يكن مسموحاً به في تركيا قبل العام 1991. وفضلاً عن ذلك فقد شهد إقليم كردستان بين عام 1988 وأوائل التسعينيات من القرن الماضي هدم وتسوية «3.000» قرية كردية في تركيا بحجج واهية من بينها إرهاب المتمردين الأكراد، أو غمر الأراضي بالمياه بحجة بناء السدود لإرواء الأراضي الزراعية مما أفضى بالنتيجة إلى ترحيل «370.000» مواطن كردي من إقليم كردستان. الغريب أن الحكومة العراقية قد دمرت عدداً مقارباً من القرى الكردية، لكن الفرق الوحيد أنها بنت لهم مجمعات سكنية كي يسهل السيطرة على عمليات التمرد، أما الحكومة التركية فقد تركتهم بلا منازل تقيهم من حر الصيف وبرد الشتاء. ثمة حوادث أخرى كثيرة من بينها سجن البرلمانية الكردية ليلى زانا التي وجهت لها تهمة التحريض على الانفصال وسُجنت لمدة خمس عشرة سنة.

ثيمات متشابكة

تكمن أهمية هذا الفيلم في أنه تناول ثيمات متعددة تتحرك على مستويات كثيرة. فشخصية محمد هي الشخصية التي خسرت كل شيء تقريباً، بدءاً من المهنة، مروراً بالسكن، وانتهاءً بحبيبته، لكنه ظل وفياً لصديقه برزان وقد أوصله إلى مسقط رأسه ودفنه في البحيرة بشكل رمزي. أما شخصية برزان فهو المواطن الكردي الذي ينتمي إلى المقاومة الكردية السرية، وقد ضحَّت هذه الشخصية بروحها، وهي أغلى ما تملك، كما قُتل أبوه في ظروف غامضة، أو بالأحرى مات تحت التعذيب في مرحـلة المد القومي الشـوفيني الذي تجذّر منذ انقلاب الجنرال كنعان إيفيرين. ولو توقفنا عند الشخصية الثالثة وهي آرزو، حبيبة محمد التي وجدت نفسها في هذه العلاقة العاطفية الجميلة التي وُئِدت في ذروة تألقها واحتدامها بين العشيقين، غير أن والدها رفض فكرة اقترانها بهذا الشاب الذي كان يعده من أرباب السوابق. ثمة إشارة في الفيلم إلى أن أسرة آرزو هم من «العمال الضيوف» الذين استقبلتهم أوربا في مطلع السبعينيات من القرن الماضي وقد عادت بعض هذه الأسر إلى تركيا وعائلة آرزو هي واحدة من هذه العوائل التي عاشت في ألمانيا لسنوات طوال، ثم قررت العودة إلى تركيا. والملاحظ أن آرزو كانت تنطق بعض الجمل والمفردات بالألمانية، وخصوصاً الجملة التي تؤكد فيها على حبها لمحمد.

«عاصفة» كاظم أوز

وُلِد كاظم أوز عام 1973 في مدينة درسيم بتركيا. درسَ الهندسة المعمارية إضافة إلى الإخراج السينمائي في جامعة مرمرة. عملَ مخرجاً وزاولَ التمثيل أيضا. أخرج حتى الآن خمسة أفلام روائية ووثائقية وقصيرة وهي على التوالي. «الأرض»، «المُصوِّر»، «المسافة»، «الوقت الضائع» و«العاصفة» الجدير ذكره أن فيلم «الأرض» قد عُرض في بلدان عدة، أما «المُصوِّر» فقد ظل حبيس المدن التركية، ولم يُسمح بعرضه خارج البلاد. تتمحور قصة الفيلم حول شخصيتين متقاربتين في السن، وهما فاروق وعلي حيث يلتقيان في حافلة لنقل الركاب. سيذهب فاروق لأداء الخدمة العسكرية في الجيش التركي، بينما سيتوجه علي إلى الجبال الشاهقة حيث يلتحق بحركة التمرد الكردي. وفي أثناء هذه الرحلة تنشأ بين الإثنين علاقة حميمة لكنهما لايكشفان عن نياتهما الحقيقية لبعضهما البعض. ثم يفترقان في نهاية الرحلة لكنهما سوف يلتقيان مرة ثانية في جبهة القتال والمواجهة الدامية. أما فيلم «الأرض» فيتناول قصة رجل كردي طاعن في السن، يرفض أن يغادر قريته التي أجبَر الجيشُ التركي قاطنيها على الرحيل. الشيء الوحيد الذي بقي من تلك الحياة النابضة سابقاً هو الصمت المميت والأماكن المحتشدة بالذكريات.

إعادة اكتشاف الذات

تتوافر القصة السينمائية لفيلم «العاصفة» على عدد كبير من الثيمات والمحاور الفكرية التي تعزز البنية السردية للفيلم، وتدفع به صوب التأزم والذروة ثم تفضي به إلى النهاية بعد مرور أكثر من ساعتين ونصف الساعة. يا ترى، ما هي طبيعة الأحداث التي تخللت هذه «العاصفة» التي لم تقتصر على شخصية البطل فحسب، وإنما امتدت إلى مجمل شخصيات الفيلم الرئيسة، إضافة إلى الناس المُفترضين الذين لم نرَهم بين جموع الطلبة الكرد وهم يتظاهرون ضد نظام الحكم التركي الذي بلغ ذروة يمينيته، وشوفينيته، وتعصبه الأعمى مما دفعه إلى التعويل على منطق القوة، وتهميش قوة المنطق. يكشف الفيلم في جانب من جوانبه العديدة أن المد اليساري كان جارفاً وكبيراً في صفوف الطلبة والمتعلمين، وخصوصاً أولئك الذين ينتمون إلى الطبقتين الفقيرة والوسطى، مع استثناءات محدودة للطبقة البرجوازية أو المترفة مثل رُشدة «هافين فوندا» التي تمردت على أبيها وهو الذي يشغل منصباً كبيراً في الحكومة التركية. وبسبب هذا المد اليساري فلا غرابة أن نرى معظم الطلبة يقرأون الكتب اليسارية لماركس ولينين وأنجلز من جهة، وموسى عنتر من جهة أخرى. وموسى عنتر للذين لا يعرفونه هو شاعر وكاتب كردي معروف وُلِد في نصيبين- ماردين عام 1920 وقد أُغتيل في مدينة ديار بكر عام 1992. الملاحظ أن الطلبة الثوار كانوا يمارسون عملية النقد والنقد الذاتي وهي جزء من عملية التثقيف الذاتي التي كانت تمارسها الأحزاب اليسارية سواء في تركيا أو في غيرها من بلدان العالم التي تنْشط فيها الحركات اليسارية. وعلى الرغم من ذيوع عملية النقد والنقد الذاتي فإننا نشاهد البطلة هيلين وهي تصفع زميلها لأنها اختلفت معه في الرأي، لكنها عادت واعتذرت منه لأنها فقدت السيطرة على أعصابها وفشلت في تحويل قوتها العضلية إلى قوة ذهنية قادرة على إقناع الآخرين برجاحة الحجة وقوة البرهان. حينما تصل أنباء اعتقال الابن جمال إلى قرية تونجيلي التي غادرها على أمل دراسة علم الاقتصاد يشّد أبوه الرحال ويأتي إلى جامعة اسطنبول باحثاً عن فلذة كبده حيث يلتقي مصادفة بأمل التي تعاطفت معه منذ اللحظة الأولى، كما يلتقي بأحد العناصر الأمنية التي كانت تحصي على الناس أنفاسهم. وفي نهاية المطاف نرى جمالاً على ظهر العبّارة التي تقله إلى الجانب الآخر من البحيرة. الفرق الوحيد والأساسي بين الرحلتين كبير. فحينما غادر تونجيلي أول مرة كان على ظهر العبّارة تابوت فيه جثة مسجّاة وهو نذير شؤم. أما في هذه الرحلة فثمة حفل زفاف وعريسين ودبكة كردية مليئة بالأفراح والمسرات.

يا تُرى، هل ستنتقل هذه الأفراح إلى قلب وعقل جمال الذي خرج من العاصفة ببعض الخسائر الروحية والعاطفية خصوصاً وأنه لم يستجِب لقصة الحب التي قدمتها له أمل على طبق من ذهب؟ وعلى الرغم من إعادة اكتشافه لنفسه على الصعيد الوجودي فإن سؤال العودة يظل قائماً ويعود بذاكرة المتلقي إلى الوراء، أو إلى الرحلة الأولى حيث رأينا جارته الصبية التي انزعجت كثيراً لأن فارسَ أحلامها قد ترك القرية إلى مدينة استانبول بما تنطوي عليه من مفاجآت عاطفية كثيرة.

النهاية الرمزية

لا شك في أن أي مخرج مبدع يحاول تجسيد رؤيته الإخراجية بالكامل، غير أن الأمر سيختلف قليلاً عندما نكشف أن هناك كاتباً للسيناريو، ومُمنتجاً للفيلم إلى جانب المخرج ذاته. غير أن المخرج كاظم أوز في فيلم «العاصفة» قد أناطَ لنفسه هذه الأدوار الرئيسة الثلاثة فهو كاتب السيناريو والمونتير والمخرج في آن معاً وكأنه يخشى على رؤيته الإخراجية من التبدد والضياع إذا ما أسهم في صناعة الفيلم أناس آخرون. وكما هو معروف فإن السينما هي فن جماعي بامتياز وينجح في الأعم الأغلب إذا ما أُنيطت المسئوليات بأناس متخصصين يعرفون أدوارهم جيداً ولا يثقلون كاهل الفيلم بالزوائد والتورمات السرطانية التي تشوّه اللوحة التشكيلية للفيلم من الناحيتين البصرية والفكرية. ويبدو أن كاظم أوز متمرس في كتابة القصة السينمائية، لذلك فقد جاء السيناريو، المبني على قصة سينمائية أصلاً متقناً إلى حد كبير، بحيث توازت رحلة المغادرة مع رحلة العودة، كما توازى التابوت مع حفل الزفاف في رحلتي الذهاب والأياب. ولو دققنا أكثر لوجدنا أن الحجرة المسطحة الصغيرة التي رماها جمال قبل الرحيل في مياه البحيرة قد توازت هي الأخرى مع الحجرة المسطحة التي نقش عليها أورهان ذكريات وتواريخ عزيزة على القلب والروح، آخذين بنظر الاعتبار أن جمالاً قد قذف بهذه الحجرة الثمينة في البحيرة على الرغم من أهميتها من الناحية الاعتبارية. تجدر الإشارة إلى أن عرض هذا الفيلم في مهرجان روتردام وغيره من المهرجانات العالمية هو دليل على هامش الحرية الذي أتاحته حكومة السيد رجب طيب أردوغان خلافاً للقمع الذي شهدته تركيا في أوائل التسعينيات من القرن الماضي. ويبدو أن الألفية الثالثة ستشهد إزدهاراً للسينما الكردية التي تتألق بأسماء مخرجين كرد ينتمون إلى أكراد تركيا وإيران والعراق من بينهم بهمن قباذي، هنير سليم، هلال يوصال، جون روشبياني، يلماز أرسلان، جميل رستمي، يوكشيل يافوز، نوراي شاهين، وآراز رشيد. وفي الختام لا بد من الإشارة إلى أن السينما التركية المستقلة قد رسخّت نفسها، وتجذرت، وأعادت الاعتبار إلى الفيلم النوعي الذي يقدم الجمال والمتعة والفائدة في آن معاً.

 

 

 

 

عدنان حسين أحمد 





لقطة من فيلم رحلة الشمس





لقطة من فيلم العاصفة





الممثلة هافين فونداساج





الممثلة زيلال مرعشلي