واحة العربي

واحة العربي

الخفاش
الأسطوري المرعب المداهم للرقاب والدم والآمال والخيال

منذ وعيت على الدنيا والخفاش يتطاير ويلف ويدور في سرعة صاروخية أمام عيوني وفي ذكرياتي وفي عز نومي، وكنت- وأنا صغير- أخترق قريتي- ليلا ونهارا - دون وجل من كلاب أو دواب أو لصوص، لكني حين أصل إلى بيت مختار شلقامي يداهمني الاضطراب، والرعب أيضا، كان البيت خاويا شاهقا دون استكمال، ما يكاد الغروب يلمس حوائطه مستأذنا كي يحط الليل، حتى يبدأ هذا المشهد الذي يفح بالوطاويط غير المرئية، مجرد دوائر لا تكاد العين تراها حتى تتبدد، والصوت الشيطاني ينتشر في دفقات مثل الوخز، وكنت أتصور أن الأمر سينتهي بمجرد الانقطاع عن الموقع، أو حتى عن القرية ذاتها، لكن الوطواط ظل هذا الحيوان الغامض الوحيد القادر على الطيران، والذي انسحق داخل الأعصاب كامنا في كل مناطقنا المظلمة، والتي تهيمن على كثير من معتقداتنا الشعبية، دمه حين يخلط بمسحوق ورق السنط "شجـر الحراز" المغلي، يمنـح العريس شجـاعته المفقودة، وحين يمزج بشعر الكـلاب المحروق، ويرش منثورا في طـريق الـذي سوف يتزوج حبيبتك، فلن يعود إلى هذا الطريق مرة أخرى "وماذا حين تتعدد الطرق وتتصل سطوح البيـوت؟؟"، وحـن يـوضع من هذا الدم بضع نقاط على عصعص المصابين بالنقرس، فسوف تتحقق أمنيتهم في القـدرة على السير، "والعصعص هو آخـر نقطة أسفل الحبل الشـوكـي"، لكن أكثـر الوصفـات غموضا، أو إدهاشا، تربيط منتصف جسـد الأطفال المصابين بـالكساح بقماش يحوي وطواطا كاملا بدمه الطازج، مع مـراعـاة أن يتم هـذا التربيط في الظلام الدامس دون أي بصيص من النـور، واضـح أن الشرط المتصل بـالظلام الـدامس يعني إقـرارا بـاستحـالة الحصـول على وطواط حقيقي..!!

ومع أن السينما والتلفـزيـون وآلات إزالـة الجهل الأخـرى نجحت في مطاردة كثير من أمثال هـذه المعتقـدات إلا أن الأمـر اختلف في الخفاش، فقد أقـامت للخفـاش أطـلالا وخـرائب وكهوفـا، وصنعت له حكـايـات وأفلاما يتلبس فيها أجساد البشر، ويداهم فيها الأبرياء والمرعوبين، يمتص دمهم ويقتنص أفئـدتهم، ويقتطع قلوبهم من الجوانح ليطير بها إلى مكمنه البعيـد الغـارق في الظلمة الشريرة، شكل من اللعنة المعاصرة اجتذبتهـا الفنون الحديثة من الجمجمة المبكـرة أو البدائيـة للبشريـة، ليعـود الوطـواط قـويـا شرسا متألقا بـأنواع الإخـراج الفني ذي الموسيقى الضاجة التي تهز كل اطمئنـان، هـو التطـور الذري وهو التفجير النووي وهو الخراب العصري، وهو الإنسـان الضـال ذو الأجنحـة اللحميـة والـرأس الثعلبية، الذي يزلزل القيـم والاقتصـاد والأسهـم والثقـافـة والسنـدات والتعليم والمضاربات.

ويمتاز الوطواط- عن غـيره من الكـائنات- بـأنه رمز للشـؤم والخراب، يشاركه في ذلك طيـور البـوم "أم قويق" في الشرق فقط، ذلك لأن البوم في الغـرب يتخلى عن رمزه هذا ليصبـح هناك إشارة متفائلة، لكن الخفـاش وحد الرمز والمشاعر والإحسـاس في كـافـة الحضـارات ولا تكـاد أمـة أو جماعة بشرية إلا ورأت فيه ما يراه الجميع فيـه، شر الليل، مصاص الـدم، إبليس الطائر، الكابوس، وحين كنا نعمل في السـد العـالي بأسـوان، جـاء أفراد من قبيلة البشارية يستطلعون، كانوا ينامون وقـد لفـوا رقـابهم بقماش غليظ، حماية للرقاب من مداهمة الخفاش، الرقاب فقط، حيث لا يهتم هذا الحيوان بباقـي الجسد، فيما نعتقد- أو يعتقدون.

 

محمد مستجاب

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات