جغرافيا (قصة × صفحة)

 جغرافيا (قصة × صفحة)
        

          - أستاذ. في مجال تؤجلون الرحلة حتى أول الشهر. كي أستطيع الذهاب معكم.

          - خلاص ما في مشكلة. تعال يوم الرحلة وما عليك.

          - أستاذ أستطيع أن أعطيك الخمس ليرات عندما يتسلم أبي الراتب في أول الشهر.

          - مثل ما قلت لك, تعال يوم الرحلة, ولا يهمك.

          يومها خرجت من عند الأستاذ, لا مكان يتسع لفرحتي, رميت نفسي بينهم وأخبرتهم بأنني أستطيع الذهاب, وبدأنا نحلم بالبحر الذي لم نره سابقًا, أحضر عاصم كتاب الجغرافيا ورسم مسار الرحلة: ستمر عبر دمشق ثم حمص وبعدها على طرطوس. وستكون هنا...أشار برأس قلم الرصاص خارقًا الورقة لافظًا الكلمة كأنها اكتشاف هنا ستكون على البحر.

          لم أنم ليلتها, أتقلّب في فراشي, فرحتي أكبر من سريري, أستحضر كل ما سمعته عن البحر, أكبر من (مطخ) البلد, طعمه مرّ, لونه أزرق مثل السماء, وحلمت ببنات يكدن لا يرتدين شيئًا مثل الصورة التي أراني إياها سالم, ورمال ناعمة تستطيع الركض عليها حافيًا, حيث لا صخور ولا أشواك, لم أعد أطيق صبرا فتحت حقيبتي ووضعت أشياء قليلة, سترافقني ولا أدري حتى اليوم لماذا وضعت كتاب الجغرافيا.

          دهشت أمي, وأنا الذي كنت أعل قلبها كي أستيقظ, رأتني أروح وأجيء ألم أشياء وأبعثر أخرى, ابتسمت, وحضّرت لي قرصين من العجة لفتهما برغيفين وأمطرتني بسيول من التحذيرات, (المي غدارة) لا تسبح في العميق, لا تبتعد عن رفاقك, هناك يخطفون الأولاد الغرباء, لا...لا...وأنا أهز رأسي دون امتعاض.

          أنتبه, صوت المدير الجهوري أوقف شغبنا وجعلنا منتظمين في الصفوف, بطريقة منظمة لم يعهدها من قبل, باص الرحلة صف أمام تراتبنا.

          - صاح بنا المدير: كل من يسمع اسمه يصعد إلى الباص.

          من تلك البراءة الأولى, من تلك الأيام الندية, أكتشف الآن وبعد خمسة عشر عامًا كم كذب علي رفاقي يومها. كانوا يصعدون الباص واحدًا واحدًا ما إن يدخلوا حتى ينفك انضباطهم يتدافرون بصخب, يتهاوشون على المقاعد, الكل يود أن يكون لصق النافذة,, بدأت النوافذ تكتظ بهم وبقامتهم الصغيرة, ورءوسهم المشرئبة, كنت أراهم يتزاحمون في الباص, يتناقصون حولي واحدًا واحدًا, من أمامي, من جانبي, من خلفي, حتى لم يبق أحد سواي واقفًا في أوسع ساحة في العالم, أشعر بالضيق, أحمل حقيبة صغيرة وقرصين من العجة, و(قفة) توصيات لم أعد بحاجة إليها.

          طوى المدير قائمة الأسماء المسجلة في الرحلة, كز نظارته السميكة, وصعد إلى الباص الذي أصابه الخرس, التفتت عينا يوسف من الزجاج الخلفي إليّ...بينما الباص مضى مخلفا غبارًا كثيفًا ودخانا, وساحة خاوية ونظرات يوسف التي غابت عند المفترق, وبقيت منتظمًا في صف لم يعد موجودًا.

          عندما عادوا كانوا مدبوغين من الشمس والحكايات ووجوههم حمراء مسلخة ولما رآني الأستاذ رفع يديه عالية عالية في الهواء, صافعًا جبهته صفعات عدة..مطلقًا...أو...ف...طويلة...(معليش) نسيت  أن أسجل اسمك?

          خلدون....

          التفت إلى وجه يوسف الملتحي...يواجهني...وزيد يطوق قدمي العاريتين الغائرتين بالرمل.

          قال: أتذكر رحلة المدرسة قبل خمسة عشر عاما.

          - آسف لم أستطع أن أخبرك حينها...

          عيناك ولهفتك, أسئلتك, كانت رحلتنا, أما نحن, فلم نر البحر أبدًا, لأن المدير قرر أن يغير مسار الرحلة إلى تدمر, كي نرى الصحراء.

 

 

فادي عزام