«قال لي صديقي»

«قال لي صديقي»

كنت أستمع إليه بكل انتباه. كنت مرتاحاً. لا واجب علي أن أفعله، ولا همّ عندي ينغّص عليّ هذه الساعة التي سأمضيها مستمعاً إلى صديقي، هو أحسّ ذلك، فراح يتفلسف عليّ بآرائه التي لم أكن أرفضها ولا أكترث لها أيضاً، سوى أني أعيره سمعي ليحشوه بأفكاره وفلسفته التي كما قلت لا أرفضها ولا أهتم. هذا أسهل، أن أستمع وأوافق على كل ما يقوله، كيف لا؟ وهو وأحاديثه التي لا تنتهي، أعتبرها زينة لطاولة المقهى حيث نجلس.

ابتدأ قائلاً، موجهاً كلامه لي، ولا أحد حول الطاولة إلا هو المتكلم وأنا المستمع البريء. قال، وهذا كان بدء حديثه، أو خطابه أو محاضرته لي:

- من مخلوق يدب على الأرض برجلين اثنتين، إلى مخلوق يدب على أربع، يقال له حيوان. هززت رأسي موافقاً، يقال له حيوان. قل مَن هو.. الحيوان؟ قال: الذي يدب على أربع. هززت رأسي موافقاً. تابع قائلاً: الإنسان يولد مرّات عدة، ولا عدد يحدّها. هو مولود دائماً ولا يولّد ذاته. مرّة يكون إنساناً ومرة حيواناً. أي حيوان كان. هو لا يختار، هناك مَن يختار له، لا دور له في قبول ذاته أو رفضها، يولد مثلاً أرنباً أو ثعلباً، أسداً أو فأراً أو فراشة. نقطة أو نطفة توجده على الأرض برجلين اثنتين أو أربع، حياته لا نهاية لها، متكرّرة دائمة، ثم تتبدّل بوجوه مختلفة ويبقى مخلوقاً وليس خالقاً. إذا أراد أن يكون خالقاً - وهو دائم الرغبة في ذلك - فإنه يجهد لأن يصير فناناً، مع علمه أنه لن يصير فناناً. قلت مقاطعاً بلطف: صحيح هذا صحيح. تابع قائلاً: يا صديقي، الفنان كالإنسان، كالحيوان، هو مخلوق، وأيضاً دون إرادته، مخلوق لأن يكون ذا صفات معيّنة، إن كان وُلد للمرة الأولى أم تكرّرت ولادته وتبدّلت صورته. الفنان يولد فناناً ولم يختر أن يكون فناناً.

إنسان أو حيوان أو حيوان إنسان، كلهم مخلوقات، لا إرادة لهم، لا دور لهم سوى الطاعة، القبول. الإنسان وجد في اللحظات ذاتها التي وجد فيها النور. وُلد الإنسان الأول ووُلدت معه الطبيعة والنور منتشر في كل أرجائها. أشجار خضراء وثمار ألوانها لا تعد ولا تحصى، ولا أسماء لها. ينبعث منها عطر آت من شجرة حاملة ثمرة نصفها أخضر ونصفها أحمر. تلتفّ على جذعها أفعى، حاولت أن أقاطعه لكنه أشار عليّ بأن أسكت. سكت أنا وهو تابع: أفعى لها رأس إنسان. امرأة، المرأة الأولى، هكذا قيل. يا صديقي، كل الطبيعة بنباتها وحيواناتها وإنسانها وُلدت سويّة. الطبيعة لا تفنى لأن الإنسان لا يفنى. يتكرّر، يتعدّد، لايزال، لا يزول، هو سبب وجود الطبيعة، هو الوجود.

هنا صمت لحظات، وأنا طبعاً كنت صامتاً، مستمعاً، وقف، مدّ يده إليّ، سلّم عليّ مبتسماً. وخرج.

 

 

أمين الباشا