جمال العربية

جمال العربية

"هريرة"
فاتنة "الأعشى"

عندما نقترب من ميدان الشعر الجاهلي نجد القصيدة النموذج، التي احتذاها الشعراء على تعاقب العصور. ويلفحنا وهج الصدق الذي تنبض به القصيدة الجاهلية في عمقها وبساطتها، ومحدوديتها وشمولها، وفي نبرتها المنفتحة على الجماعة، والعامرة باحتواء الكون أصداء ورؤى وهواجس.

وفي معلقة الأعشى، الشاعر المخضرم - أي الذي أدرك الجاهلية والإسلام، وكانت وفاته في السنة السابعة من الهجرة- يتألق الفن الشعري كما عرفه القدماء وصاغوا معالمه في "عمود الشعر"، وتنساب الموسيقى الجياشة التي بسببها سمي الأعشى صناجة العرب، الذي يطرب السامعين بأنغامه، ويجد فيه المغنون بغيتهم وضالتهم المنشودة.

يقول أبوعبيدة: الأعشى هو رابع الشعراء المتقدمين: امرئ القيس والنابغة وزهير. ويقول الأسدي: ولشعر الأعشى طلاوة ليست لغيره من الشعر القديم. وهما شهادتان - تحملان صورة الذوق العربي - في تقدير الأعشى، والنظر إلى شعره وشاعريته.

يستهل الأعشى مطولته بالحديث عن هريرة، ويستوقفنا هذا الاسم العربي القديم، الذي هو تصغير لكلمة هرة أي قطة، وإطلاق اسم القطة الصغيرة على المرأة تحببا وتجملا أمر يشيع الآن في غناء الفرق الأوربية والأمريكية. لكن الأعشى سبقهم إلى هذه الالتفاتة الذكية بقرون متطاولة. وهو يقدم من خلال رسمه لصورة هريرة نموذج الجمال الذي تعشقه العربي، الامتلاء والصباحة والبياض والكسل الدال على الترف والنعيم، والدلال بعض سماته وعناصره، والطيب والنشر الذكي - أي الرائحة العبقة - صفة ملازمة ودائمة.

يقول الأعشى:

ودع "هريرة" إن الركب مرتحل

وهل تطيق وداعا أيها الرجل؟

غراء، فرعاء، مصقول عوارضها

تمشي الهوينى، كما يمشي الوجي الوحل

كأن مشيتها من بيت جارتها

مر السحابة لا ريث ولا عجل

ليست كمن يكره الجيران طلعتها

ولا تراها لسر الجار تختتل

يكاد يصرعها لولا تشورها

إذا تقوم إلى جاراتها الكسل

إذا تقوم يضوع المسك أصورة

والزنبق الورد من أردانها شمل

ما روضة من رياض الحزن معشبة

خضراء جاد عليها مسبل هطل

يضاحك الشمس منها كوكب شرق

مؤزر بنعيم النبت مكتهل

يوما بأطيب منها نشر رائحة

ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل

علقتها عرضا، وعلقت رجلا

غيري، وعلق أخرى غيرها الرجل

وعلقته فتاة، ما يحاولها

من أهلها ميت يهذي بها وهل

وعلقتني أخيرى ما تلائمني

فاجتمع الحب حبا كله تبل

فكلنا مغرم يهذي بصاحبه

دان وناء ومحبول ومحتبل

قالت هريرة لما جئت زائرها:

ويلي عليك وويلي منك يا رجل

ثم يقول الأعشى:

وقد أقود الصبا يوما فيتبعني

وقد يصاحبني ذو الشرة الغزل

وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني

شاو مشل شلول شلشل شول

في فتية كسيوف الهند قد علموا

أن ليس ينفع عن ذي الحيلة الحيل

نازعتهم قضب الريحان متكئا

وقهوة مزة راووقها خضل

لا يستفيقون منها وهي راهنة

إلا بهات وإن علوا وإن نهلوا

من كل ذلك يوم قد لهوت به

وفي التجارب طول اللهو والغزل

ثم يقول الأعشى:

أبلغ يزيد بني شيبان مألكة

أبا ثبيت أما تنفك تأتكل

كناطح صخرة يوما ليوهنها

فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

سائل بني أسد عنا، فقد علموا

أن سوف يأتيك من أنبائنا شكل

كلا زعمتم بأنا لا نقاتلكم

إنا لأمثالكم يا قومنا قتل

قالوا: الركوب، فقلنا تلك عادتنا

أو تنزلون فإنا معشر نزل

يكشف تأمل قصيدة الأعشى عن التفات الشاعر العربي - من قديم - إلى ما يسمى بحسن التقطيع في الكلام، وإلى إيقاع الفواصل المتماثلة والمتناغمة وما يحدثه من موسيقى ونشوة مطربة.

ننظر في قوله: يكاد يصرعها، لولا تشورها.

وفي قوله: كأن مشيتها، من بيت جارتها.

وفي قوله: ويلي عليك، وويلي منك، يا رجل.

فنرى نماذج بديعة لحسن التقطيع، وإيقاع الفواصل المتسق. ويبلغ إحساسه الموسيقي بالكلمة المفردة، وبالسياق والتركيب، قمته في قوله:

.... يتبعني.. شاو مشل شلول شلشل شول.. وكأنه يصور موكبا موسيقيا يصاحبه في طريقه إلى الحانوت، موكبا من الموسيقى النحاسية، بإيقاعاتها الصاخبة المدوية، شأنه شأن عظماء القوم، تزفهم الموسيقى، وتحدوهم المواكب، وتزيد من هيبتهم صحبة الأتباع والحشم والخدم، يتبعونهم ويمشون في آثارهم. واللغة في قصيدة الأعشى، فائرة نهمة، مطلقة الحواس فاغرة الفم، تصدح بالنشيد، وتجأر بالنشوة، وتستسلم للإيقاع، لغة تكتسب بلاغتها وشرعيتها من قاموس الحياة والفعل الحي المنتشي لشاعر من كبار شعراء اللذة والمتعة الحسية، وتحمل دلالاتها أقباسا من تلك الروح العربية العارمة التي كانت تضج بنداءات الحرية والانطلاق، وتحن دوما إلى عالم الامتلاء بكل ما يشبع الحواس ويوقظ النهم، واللغة هنا جسر للشاعر يصله - عبر اكتمال اللذة - بالمطلق، ويحمله - عبر لحظات التوقف والتأمل - إلى ذروة الانتماء للأهل والعشيرة، فخارا على الآخرين، وارتفاعا إلى المكانة التي لا تدانى. ومن نشوة الحس إلى جلوة الروح تصلصل الكلمات وتجلجل أجراسها في عذوبة وشاعرية، واقتدار فني آسر، هو بعض صنعة الأعشى التي تتلبس تلقائية التدفق وحميمية الإبداع، فتأتي دفقاته الشعرية مصبوبة محكمة، حارة فائرة، مسبوكة محبوكة، تحمل كيمياء الشعر، وسحر الشاعرية الوحشي.

ولسوف تبقى "هريرة" في قصيدة الأعشى نموذجا للجمال الذي تعشقه العربي، ونموذجا للحضور الشعري والإنساني الذي يخترق الأزمنة، ويستثير الحواس والمدركات، ويسقط متلقيه بين تخوم النشوة وانهماك التأمل والتدبر، منطلقا من صعيد الحس العارم إلى ذرى الحكمة والفكر الرشيد المتعقل.

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات