السينما.. المرآة الحقيقية للحياة محمد رضا

السينما.. المرآة الحقيقية للحياة

من بين كل أنواع الفنون فإن السينما تستطيع أن تدعي أنها المرآة الحقيقية للحياة. وبرغم أن كل أنواع الدراما مجتمعة تعكس الحياة على نحو ما فإن السينما تضيف إلى كل هذه الفنون حرية في الحركة وانطلاقا في التعبير ومغامرة في الشكل.

في مشهد من فيلم "المقتفي" STALKER للمخرج الروسي اندريه تاركوفسكي (1979) تصور الكاميرا بركة من الماء وقد أخذت نقاط المطر تنهمر فوقها مثيرة دوائر صغيرة. وراء البركة هناك ثلاثة رجال جالسين بلا حركة في خربة. تزداد نقاط الماء بازدياد شدة المطر وتتحول صفحة الماء من شكلها السابق إلى شكل جديد. تبقى الكاميرا في مكانها لفترة ينخفض خلالها كم المطر الهادئ وتعاود البركة انسجامها السابق مع الطبيعة.

لو ترجمنا المشهد إلى فقرة في رواية لاستطعنا بلا شك نقل الوصف. ثم تبعا لجودة الكاتب، يستطيع القارئ استنباط المشاعر المقصودة وذلك حسب وجهة نظر قد تكون وجهة نظر المؤلف نفسه، وهو السارد في هذه الحالة، أو وجهة نظر إحدى شخصياتها، التي تتولى سرد الأحداث.

على المسرح، هناك صعوبة في توفير كامل الشروط لتقديم المشهد المذكور كما هو. على الأغلب سيعمد المخرج إلى اعتماد نافذة في جدار المكان يرى المشاهدون منها ماء ينهمر وربما تعليقا بصوت إحدى الشخصيات ينقل المشاعر المكتسبة من وراء المشهد وهو السبب في تقديم هذا المشهد أصلا.

لكن سيكون صعبا جدا على المسرحية أن تنقل المشهد هو بسبب الشروط للمسرح. كما أن الرواية تستطيع أن تصف، لكن فقط السينما تستطيع أن تترجم الوصف إلى وضع فعلي إلى ذلك، فإن هناك ثراء شديدا في المشهد المصور سينمائيا لا يستطيع الأدب نفسه التمتع به. تستطيع أن تصف هذا الثراء بفن التفاصيل ويتبدى أكثر في المشاهد الأكثر احتواء للمفارقات والحركة ولو أن هذا المشهد الساكن الوارد في فيلم "المقتفي" يزخر بها أيضا.

لنفترض أن أحد الرجال الثلاثة حرك يده وحك جبهته. أو نظر - كما يفعل أحدهم فعلا في ذلك المشهد - إلى السماء الهاطلة. إن أمام الكاتب الروائي مهمة وضع هذه التفصيلة في جملة مناسبة السياق ستبدو اعتراضية وتفصيلية أكثر من اللازم لو أن حديثه هو البركة ذاتها، ولن يستطيع تناول حركات الشخصيات وما يتفاعل في ذاتها إلا حينما ينتقل بحديثه من البركة إلى هذه الشخصيات. (المخرج الفرنسي اندريه تاشينه حاول كتابة القصة كما لو أنه يصور فيلما لكنه لم يحقق نجاحا يذكر). في السينما تستطيع أن تلحظ الاثنين معا، كما تستطيع أن تفرق بينهما. ومن المشهد المذكور فإن المتفرج يستطيع فهم رغبة المخرج في تصور الطبيعة والرمز إلى الماء (الحياة) واستسلام الشخصيات أو حتى "اللا شيء" الذي تشعر به في تلك اللحظة، إذا ما كان هذا هو المقصود، بالإضافة إلى ملاحظة عامل بداية ونهاية سقوط المطر وكيف يتفاعل المطر المنهمر مع الماء الراكد. كل ذلك في إطار المشهد الواحد نفسه. قس على ذلك أي مشهد وأضف: كيف تكتب "2001 أوديسا الفضاء" (1986) -2001: A SPACA ODYS SEY كما رأيناه بكامل عمقه وأبعاده وحركاته التشكيلية الغريبة على الشاشة. كيف نستطيع أن نتمتع بمشهد قيام جين كيلي بالرقص تحت المطر بكل ما فيه من عفوية في "الغناء تحت المطر" (1952) SINGING IN THR RAIN أو بالدقائق العشر الأولى من فيلم اورسون ويلز "عائلة امبرسون المدهشة" (1942)-THE MAG NIFCENT AMBERSONS أو بمشهد محاولة طيار اغتيال كاري غرانت في فيلم ألفريد هيتشكوك "شمال شمال غرب" (1958) NORTH BY NORTHWEST؟ على نحو أو آخر تستطيع إن كنت روائيا أو مخرجا مسرحيا أو حتى موسيقيا أو رساما التعبير عما تراه على الشاشة لكن هذا التعبير سيكون مقتصرا على ما يستطيع كل مجال من هذه المجالات توفيره وكلها تشترك في أنها لا تستطيع توفير حرية الحركة وحرية الخيال الناتج عن الموقف وعمق المدلولات واستلهام التفاصيل والإحاطة بكل التعابير والمشاعر المطلوبة من خلال حركة واحدة ضمن وقت صغير واحد قد لا يستغرق على الشاشة أكثر من ثانية واحدة. السينما فقط تستطيع أن تفعل ذلك.

طبعا هناك ما لا تستطيع أن تفعله، مثلا لا تستطيع أن تختار الفترة الزمنية التي تتمتع بها الرواية في 400 صفحة، لدى المؤلف كل ما هو بحاجة إليه من وقت لكي يعمق فكرة ما أو يسرد تاريخ حياة. في السينما لديك بضع دقائق وعليك أن تعمد إلى الرمزيات لكي تفسر عامل الوقت لأن على الفيلم أن يستعرض الرواية بأسرها، أو ما يختاره منها، في ساعتين أو ثلاث ساعات إذا ما اقتضى الأمر. لكن هذا هو التحدي الذي يزيد من فاعلية هذا الفن، الفيلم عليه أن يعبر بالصورة المتحركة عن حدث يستغرق وقوعه في الرواية من صفحة إلى خمس صفحات، على الشاشة عليه أن يتبلور، وما يحمله من معان، إلى مشهد غالبا لن يتجاوز الدقيقتين.

السينما كلغة

ما سبق يجعلنا نتساءل ما إذا كانت السينما لغة قائمة بذاتها؟ في علم اللغات هناك القواعد والمفردات، هناك كذلك أساليب الاستخدام واللكنات والجذور اللغوية التي ترجع كل مجموعة من اللغات إلى أصل واحد.

في السينما الشيء نفسه، إنما مع اختلاف جذري فيما يتعلق بإرساء قواعد لغوية. مثلا تستطيع الاختيار ما بين تحريك الكاميرا بانوراميا من اليمين إلى اليسار أو من اليسار إلى اليمين. القرار يعود إلى السبب الذي من أجله ستعمد - كمخرج - إلى هذه اللقطة الاستعراضية وإذا ما كانت داخلية أو خارجية. القواعد هنا أكثر تحررا، كذلك هو أكثر تحررا فيما يتعلق بعشرات المسائل المشابهة التي تطفو على سطح العمل حالما تبدأ الكاميرا - كتاب اللغة السينمائية - بالعمل.

هذا ليس للقول إن السينما ليست لها قواعد، على العكس هناك قواعد صعبة لا يمكن تصوير لقطة ما من دونها. مثلا لا تستطيع الاكتفاء بلقطة بعيدة لصبي يبكي إذا ما كنت تريد - لسبب أو لآخر - إظهار دموعه. أنت بحاجة إلى لقطة قريبة أو لقطة قريبة متوسطة، والاختيار بين اللقطتين يتم حسب قواعد معينة تكمن في السبب الذي تختاره مبررا لأي من اللقطتين. أما إذا كان المطلوب إظهار وحدته (ولنقل أنه صبي ضائع في غابة أو يشعر بالخوف وهو في شارع مكتظ بالمارة الذين لا يعرفهم ولا يعيرون له انتباها) فالمخرج مطالب، تبعا لذلك، باعتماد لقطة طويلة تصف الحركة من حوله والمكان والزمان اللذين يحيطان به.

في كل ما وصفناه، هناك أنت مشاهدا أو صاحب التعبير. الفيلم لا يستطيع اختزال المشاهد من باله تماما كالحال مع كل وسيط فني أو أدبي. هناك فئة من الجمهور ستتعامل مع هذه المقطوعة السينمائية لرغبتها فيها. قد يكون بسبب اهتمامهم بما يقدمه المخرج المعين من مواضيع وأبعاد مطروحة، أو بسبب الموضوع نفسه بصرف النظر عمن أخرجه. أو بسبب النوع الذي ينتمي إليه الفيلم أو حتى ليس لأكثر من إعجاب المتفرج بأحد الممثلين والممثلات.

هذه الأصعدة المختلفة تدفعنا إلى وضع آخر في محاولة رصد ملامسة السينما للحياة ذاتها. السينما، سواء اعتبرناها لغة قائمة بحد ذاتها كما يرى المفكر بيتر وولن في كتابه "العلامات والمعاني في السينما، أو اعتبرناها "تشبه اللغة" كما يرى الناقد جيمس موناكو في كتابه "كيف تقرأ الفيلم"، فإنها وسيط بين ما تعرضه وبين المشاهد القابل بما تعرضه.

هذا جعلها، عبر 100 سنة، الأكثر شعبية بين كل الفنون الدرامية. لقد نمت سريعا من مجرد فكرة لتقديم خيال يتحرك على الشاشة، إلى تصوير فعلي لمادة أو حركة تستخدم الفيلم والكاميرا وآلة العرض إلى بداية تأسيس الرواية فيها بما تتطلب من تقطيع في حركة الكاميرا وفي المونتاج إلى إدخال الصوت والألوان وإلى استنباط مختلف المؤثرات البصرية والربط بين كيفية استخدامها وبين المطلوب نقله إلى المتفرج كأثر (ضحك أو خوف أو دهشة، وغير ذلك).

السينما التي بدأت عند البعض منذ زمن "الفانوس السحري" ربما بدأت في الواقع بالرسم على جدار الكهوف قبل مئات الوف السنين، ثم من قال لنا إن الإنسان الأول لم يبدأ بممارسة نوع من تمثيل الظل حالما عرف كيف يشعل النار ويتفرج على ظله وهو يؤدي حركات ما؟ أو ربما بدأ يفعل ذلك وقت المغيب أو الشروق مستأنسا بحركاته باعثا الضحك في أوصال متابعيه، أيكون أصل السينما في عمق التاريخ الإنساني؟

إنها تقديم حركة على شاشة. في البداية كانت الحركة تتم بفعل الضوء المتسرب من مصدر ما (مشعل نار مثلا) ووجود شخص ما بين الضوء والجدار (الشاشة).

لاحقا بدأ تخزين المصدر ففي القرن الخامس عشر أوحى ليوناردو دافينتشي باستخدام عدسات زجاجية شفافة لتركيز الضوء المنبعث من مصباح. بل إن هناك رسومات لجيوفاني دا فونتانا تشير إلى أن استخدام المصباح لعكس صورة على واجهة ما كان متوافرا. ومن القرن السادس عشر وحتى التاسع عشر حفل العالم باستنباطات كان لا بد أن تؤدي إلى اختراع السينما كما نعرفها، وذلك من تطوير مفهوم "المصباح السحري" إلى اختراع الفيلم واختراع الكاميرا الفوتوغرافية الثابتة ثم إلى محاولة تصوير الحركة نفسها.. هنا بدأت السينما تصوير الحياة ذاتها.

كل ذلك، وغيره، يجعل عمر السينما ثلاثة أضعاف العمر الذي اعتمده المؤرخون، إنها مائة سنة نظرا لقيام الأخوين لوميير بعرض مجموعة من الأفلام أمام 33 فردا في مقهى باريسي لقاء فرنك واحد للفرد وذلك في شهر (ديسمبر) من عام 1895.

هذا على الرغم من أن العروض السينمائية كانت قد تمت قبل ذلك التاريخ بأشهر. الأخوان أوغوست ولويس لوميير أنفسهما عرضا أفلامها في جامعة السوربون كما في عدد من الجمعيات العمالية قبل أشهر من قيامهما بالعرض السينمائي العام. وفي برلين، قام الاخوان سكلادانوفسكي بعرض أفلام صوراها وذلك في باحة "فينترغاردن" وذلك قبل نحو شهرين على عرض لوميير المشار اليه.

السينما: خمسة عناصر

ما الذي جعل المؤرخين يعتمدون عرض لوميير في المقهى الباريسي مع نهاية عام 1895 نقطة ميلاد السينما؟

هناك سببان:
1 - أن كل التجارب الأولى، من عصر رجل الكهف، لم تكن صناعية ولا يمكن اتخاذها منطلقا إلا على أساس محاولة تأصيل فكرة الاستعراض وخلق الحركة بناء على الضوء الخلفي.

2 - أن العروض الأخرى للأخوين لوميير أو سواهما كانت غير تجارية، وبقيام الأخوين لوميير بتقاضي فرنك لقاء العرض من كل فرد. ضم الاثنان عنصر التجارة الذي كانت افتقدته العروض السابقة.

إذن، العنصر الأول الذي توافر للسينما هو الصناعة والتكنولوجيا معا متمثلا في استنباط آلات التصوير والعرض وتطويرها واستخدام الفيلم الخام لتخزين الحركة.

العنصر الثاني كان التجارة: لقاء فرنك واحد يستطيع الناس التمتع بما لا يخطر لهم على بال، قطار يصل المحطة، العمال يؤمون مصنعا، حركة الشارع.

العنصر الثالث مباشرة كان البحث عن أفكار أخرى وقد وجدها مصورو لوميير الذين انطلقوا في جميع أرجاء الدنيا في المناسبات الحقيقية: وصول رئيس الجمهورية، مباراة رياضية قائمة .. الخ .. هذا العنصر هو لقاء السينما بالتسجيل.

العنصر الرابع كان إدخال الرواية، وذلك من خلال محاولة سرد قصة: وصول الإنسان إلى القمر (في فيلم "رحلة إلى القمر" LE VOYAGE DANS LA LUNE لجورج ميلييه 1902).

أما العنصر الخامس ففي استمرار العمل على كل تلك المفارق واستنباط أنواع جديدة من الرسرم المتحركة إلى الكاميرا المفصولة عن جهاز العرض إلى التلوين باليد إلى السرد المتشابك والسرد بواسطة الفلاش باك.

كل ذلك والسينما كانت في السنوات العشر الأولى من حياتها. ليس المطلوب هنا سرد التاريخ، فلذلك كتبه ومراجعه الخاصة التي لا تفعل سوى الإبحار فيه، لكن هذه الحقائق تتصل مباشرة بالمفاهيم الكثيرة التي عرفتها السينما منذ ذلك الحين وما بعده. لقد ساد، لحين طويل، اللغط حول ماهية السينما. وحاول البعض إيجاد تعريف مطلق وتمحور الاختلاف حول واحد من هذه التعريفات:

أ - السينما فن.
ب - السينما صناعة.
جـ - السينما تجارة.

والحقيقة أن كل تعريف بمفرده هو تصوير خاطئ للواقع، إنها هذه الثلاثة مجتمعة وأكثر، (هي أيضا وسيط إعلامي واجتماعي ولغة تعبير وسجل لتاريخ الإنسان في القرن العشرين.. الخ..) لكن اللغط الذي ساد انطلق - خصوصا عندنا في المنطقة العربية - من جراء عادة الناس الدفاع عن المبدأ الذي يناسبهم. إذا ما سألت منتجا أو موزع أفلام مثلا تعريف السينما فسيؤكد لك أنها تجارة، لأن التجارة هي السبب الذي من أجله يتعامل والسينما. أما إذا سألت مخرجا أو ناقدا سينمائيا فهي بالنسبة اليه فن وتعبير. وربما عند عامل الكهرباء أثناء التصوير هي وسيلة رزق في حياة.

في الصميم، وكما مهدنا في هذا التحقيق، هي مرآة عاكسة للإنسان وعالمه وأفكاره، ولا شيء أقل من هذا التعميم يستطيع نقل حقيقتها كاملة.

اليوم، إذ تخطو السينما مستقبل ما بعد المائة عام نراها تتجه نحو آفاق مختلفة تسودها الاختراعات التكنولوجية والأسس العلمية. ربما سيحمل هذا التطور معالم ايجابيه مهمة، وربما لن يحمل إلا ابتعادا شاملا عن منطلقات الفن وبالتالي يغلق فصلا طويلا ويبدأ آخر لا علاقة له بالسينما كانعكاس للإبداع الإنساني وللمحيط الاجتماعي والفكري العام، بل كنتاج تقني غارق في الجزئيات العلمية التي تنقل صنع الخيال من عملية تآلف المواهب المتخصصة في كل مجال على حدة، إلى عملية مزج شديدة بين التقنيات المستخدمة مع اعتماد قدر أدنى من ابداع الإنسان.

في هذه الحالة، ستبدو المائة سنة الأولى بمثابة ملف قائم بذاته. وكما يمكن إرجاع جذور السينما إلى سنوات إنسان الكهف، سيمكن النظر إلى المستقبل الغامض المليء باستخدامات الكمبيوتر والعصرنة العلمية على أساس أنه شرارة مستقلة تسبح في الفضاء إلى هدف غير منظور إنما لأجل مسمي.

بين الحكاية... والشخصية

إن الفارق الرئيسي بين السينما الأمريكية والسينمات المحتذية بحذوها، كالسينما المصرية، والسينما الهندية، وبين السينمات الأوربية وبعض سينمات جنوب شرق آسيا، يكمن في كيف يعالج كل فريق المادة السينمائية التي يقدم عليها.

السينما الأمريكية سينما القصة، هناك الحاجة التقليدية والدائمة بين سينمائيي هوليوود إلى التركيز على الحكاية وعناصرها الدرامية وتقديمها للناس على أساس الترفيه.

السينما الأخرى، لنقل الفرنسية حتى نتخلص من التعميم، تهتم أكثر بالشخصية، إنها سينما الشخصية التي على صانعي الفيلم تقديمها أولا وتقديم ما تعايشه من أوضاع وأفكار ثانيا، أما القصة فتستطيع أن تمكث في الخلفية أو على هامش ما يدور.

هذا الفارق يخلق عند كل سينما مفردات لغوية تمكنها من الوصول إلى هدفها وتحقيقه. وهو أيضا يوفر عناصر مجتمعة تؤيد هذا الاتجاه أو ذاك وتعمل لصالحه. وعلى الرغم من الانقسام القائم فإنه ليس هناك سينما أفضل من أخرى على هذا الأساس. لكن تلك التي بإمكانها الاهتمام بالجانبين، القصصي والشخصي معا، عادة ما تستحوذ على حسنات الأسلوبين معا. كذلك لا يعني هذا التقسيم أن كل جهة لا تحاول تقليد الأخرى من حين لآخر.

هذا الفارق؟ من ناحية أخرى، يساعدنا على فهم السبب الذي من أجله كان هينا على السينما الأمريكية أن تنضوي تحت أقسام "النوع" (أو الـGenre ) بسهولة. إنه من الأسهل تصنيف النوع القصصي من المؤلفات أكثر مما هو سهل تصنيف نوع من الحوار الداخلي، أو النجوى الذاتية أو أي فيلم من أعمال كلود سوتيه أو أريك رومير أو كريستوف كيوسلوفسكي. على هذا الأساس فإنه من السهل تعريف روايات ستيفن كينغ على أنها مرعبة وروايات لويس دمور على أنها "وسترن" (الغرب الأمريكي) وروايات جون شتاينبك على أنها دراميات اجتماعية. أما أعمال راي برادبوري فتنتمي إلى نوع "الخيال العلمي" Science Fiction بينما قصص جون دكاريه جاسوسية - تشويقية... وهكذا، لكن نشوء "التنويع" في السينما الأمريكية لم يستند فقط على الخطوط المرعية في الرواية الشعبية.

في العشرينيات وما بعدها، زادت أهمية أن يبين الفيلم هويته للناس من قبل حلول موعد عرضه وذلك من خلال المقدمة المسبقة التي تعلن قرب عرض الفيلم، وذلك من أجل مساعدة المشاهدين على معرفة إذا ما كان هذا الفيلم من النوع الذي يرغب به هذا الفريق أو ذاك. وقد وجدت الفكرة ارتياحا كبيرا بين الناس وانطلق التقليد بأن تحتوي "المقدمة على ما يكشف عن جوهر الفيلم وعن نوعية الحكاية التي يقدمها لمشاهديه.

هذا ما يؤكد لنا، بين قوسين، أن الجمهور كلمة عامة إذ إن هناك فئات عديدة منه، كل واحدة تحبذ نوعا أو نوعين من العملية السينمائية بأسرها، وقد أدركت هوليوود ذلك واستفادت منه كثيرا حينها ملبية أذواق ورغبات الفئات المختلقة من الجمهور.

هذا كله يجب ألا يعني أن تقسيما ما يمكن تعميمه على كل إنتاج سينمائي. فيلم "مفكرتي العزيزة" DEAR DEARY للإيطالي ناني موريتي (1994) فيلم صعب التقسيم: إنه يشمل النظرة الخاصة لمخرجه حول أمور يدرجها في فيلم مؤلف من ثلاثة فصول الأول يدور حوله والمدينة نراه فيها يجول في أرجائها على دراجة "فاسبا" والكاميرا في أثره معظم الوقت. وهناك جزء من هذا الفصل نراه فيه ينتقد بعض نقاد السينما على كتاباتهم الموصوفة بالادعاء والكذب.

الفصل الثاني يحتوي على رحلة بحرية لبعض الجزر الإيطالية الجنوبية يلاحظ فيها المخرج المكان وطبائع الناس.

الفصل الثالث يدور حوله وهو يحاول أن يحصل على التطبيب بعدما شكا من آلام في صدره (يقال إن المخرج مريض بالسرطان فعلا).

إزاء هذا العمل المقدم هنا كنموذج ترى كيف يمكن تقسيمه؟ إلى أي نوع ينتمي؟ الجواب لا يكمن في أي من "التنويع" الهوليوودي الكلاسيكي. إنه ليس فيلما بوليسيا أو تاريخيا أو استعراضيا غنائيا أو عاطفيا. إنما يكمن في تنويع جديد دخل مصطلحاتنا على الرغم من معارضة عدد كبير من النقاد الأوربيين لذلك. تبعا لهذا التنويع يمكن إطلاق صفة "الدراما الذاتية" على فيلم "مفكرتي العزيزة". الدراما هنا هي كلمة مرادفة - أو بديلة إذا ما أردنا - لكلمة "رواية" أو "قصة" والذاتية هي وصف للهم ونوعية الخطاب الذي قام به المخرج.

فيلم "مفكرتي العزيزة" إيطالي والسينما الأوربية كان لها صراع نقدي حافل من قبل أن تقتنع بأن "التنويع، هو جزء من العملية السينمائية الأمريكية. مجلة "كاييه دي سينما" الفرنسية الشهيرة كانت من بين المحافل التي شهدت نقاشات حول ما إذا كان التنويع أمرا فنيا أو لا. النقاد الماركسيون هاجموا التنويع على أساس أنه تحقير للفن وتحديد لقدرات المخرج أو "المخرج المؤلف" وخلال الخمسينيات والستينيات كانت المعركة مازالت دائرة بين محبذين ومعارضين ليس في أوربا فقط، بل في الولايات المتحدة الأمريكية.

المشكلة الأساسية هنا هو أن مطالبة الجمهور، العادي منه والمثقف، بنبذ التقسيم الشعبي المعتاد والنظر إلى الأفلام على أساس أنها ثقافة محضة كان كمن يريد أن يعتبر أن كل فيلم يجب أن يكون تابعا لما يسمى بـ "سينما المؤلف" وهو أمر يصح مع أفلام ولا يمكن أن يكون مقياسا أو تقويما لأفلام أخرى كثيرة.

وسينما المؤلف نوع آخر من العملية الإجمالية يمكن اطلاقة على تلك الأفلام التي تنتمي برؤيتها وبكيفية ممارستها وتنفيذها، إلى المخرج الذي يقدم عليها كما يقدم المؤلف على عمل مكتوب: يمتلك كل النواصي والمسئوليات وإدرات التعبير.

صحيح أن لدي المخرج شركاء، لكن المخرج - المؤلف لن يدع أي عنصر فني أو تجاري أو روائي يتدخل في "صياغة الفيلم على الأسلوب والشكل الذي يختاره. إنه على سبيل المثال وسيلة المخرج الفرنسي اريك رومير أو الألماني فيم فندرز قد التعبير، وإلى حد المخرج العربي يوسف شاهين في مقابل وسيلة جون فورد أو سيسيل ب. دميل أو نادر جلال في العمل.

لكن السينما الأمريكية لا يمكن معاملتها على أساس سينما المؤلف إلا بمقدار ما توفر من أفلام على هذا النحو (بعض أفلام روبرت التمان وبعض أفلام جون كاسافيتس وبعض أفلام وودي آلن وآخرين) لأنها ليست كذلك. وسرعان ما اكتشف المنادون بتعميم التقسيم الأحادي (سينما المؤلف أو لا سينما ثقافية) بأنهم يطلبون أكثر مما يكترث الناس للتجاوب معه، إذ كانوا يطلبون معاملة فن شعبي على أنه ثقافة خاصة.

ولا ريب أن سينما الأنواع تساعد الناقد على ربط مسيرة مخرج. وعلى سبيل المثال فإنه لا يمكن الحكم على سينما المخرج جون فورد (الذي ولد قبل 100 سنة تحديدا وتوفي عام 1973) بصورة صحيحة دون الاعتراف بأنه كان مخرج أفلام "وسترن" بالدرجة الأولى ثم تمييز هذه المجموعة المهمة من أفلامه عن افلامه الأخرى كما عما حققه الآخرون. سينما الأنواع لا تعني الغاء الرؤية الخاصة لكن مشكلتها في هذا الصدد أن تطبيق دراسة الرؤية الخاصة لا يمكن أن يتوافر إلا مع مخرجين تميزوا حتى ضمن التعامل مع السينما كمادة روائية شعبية. فورد واحد منهم وهناك أيضا انطوني مان، ايليا كازان، ارثر بن، هوارد هوكس، هنري كينغ، كينغ فيدور، سيسيل ب. دي ميل، مارك روبسون وغيرهم كثيرون.

كل ذلك يقودنا إلى عدد مهم من الأسئلة: ما هي هذه الأنواع التي تعاملت السينما الروائية الشعبية معها؟ ما هي حدود وملامح كل منها؟ ماذا يحدث عندما يكون الفيلم له علاقة وملامح مشتركة بين نوعين (لنقل مثل فيلم مل بروكس "الأسرجة الملتهبة" BLAZING SADDLES الجامع بين الكوميديا والوسترن؟) إن أول ما يسترعي انتباهنا أن التقسيم إذ ساعده التقسيم المتبع، تقليديا، في الدراما الروائية، لا يستند إلى الدراما بقدر ما يستند إلى لقاء خاص بين المكان والفترة التاريخية واللون الخاص بالحدث نفسه.

معنى ذلك أن فيلما مثل "ذو الوجه المشوه" SCAR- FACE (نسخة هوارد هوكس عام 1932) انتهى إلى نوع أفلام "الغانغستر" ليس بناء على أي دراما يحتويها، بل على العناصر التى تكون ملامح الفيلم البصرية.

والمثال الأوضح هو في سينما الغرب الامريكي "الوسترن" حيث هناك الحكايات العائلية والحكايات العاطفية وحكايات المعارك والمغامرات والحكايات الكوميدية. التصنيف دوما ما يتبع الهيكليه الخاصه لتلك السينما وليس نوع الدراما لأن الدراما لا بد من وجودها - على هذا النحو أو ذاك - في كل فيلم لا فرق لأي نوع انتمى. أما الأنواع السينمائية الكلاسيكية التي عرفتها هوليوود ثم قبل بها معظم النقاد بعد ممانعة وسجالات فكرية وأدبية ونظرية متعددة فهي:

- السينما الكوميدية.
- السينما الدرامية التاريخية.
- سينما الاستعراضات الموسيقية والغنائية "الميوزيكالز" - سينما الغرب الامريكي "الوسترن".
- سينما الرعب والخيال العلمي "يمكن تقسيمهما لنوعين في الواقع".
- أفلام الجريمة والتحقيق البوليسي (بما فيها نوع "الفيلم نوار" الذي هو سينما لها خصائص فنية قائمة بذاتها).
- الميلودراميات (الافلام العاطفية والسير الذاتية والدراميات الاجتماعية المختلفة).

وكل قسم، كما هو ملاحظ من القائمة الواردة، يحتوي على ما يؤلف عناصر لأقسام أو أنواع أخرى. لكن الخلط لم يكن يوما منتشرا كما هو اليوم، إذ يلحظ المرء كيف أنه مع انتشار الفيديو ازدادت محاولات تقسيم الأفلام إلى أنواع جديدة لا تصلح للاستقلال عن الأصل فباتت هناك - مثلا - الأفلام الكوميدية العاطفية (التي هي جزء من الميلودراميات أساسا حسب المعنى الحقيقي لكلمة ميلو - دراما: أي تعدد الدراميات). وهناك أيضا أفلام الحركة "الاكشن" التي لا يمكن اطلاقها كنوع قائم بذاته، لأن بعضها قد يكون بوليسيا وبعضها قد يكون تاريخيا وبعضها الثالث قد يكون في الخيال العلمي.

هوليوود ارتاحت لمبدأ التقسيم انما ليس لكل الأسباب النظرية والفوارق الدرامية أوالفنية المشار إليها آنفا، بل لأنها أسست صناعتها على أساس وجود جماهير مختلفة تريد أن تعرف سلفا أي نوع من الأفلام تلك التي ستشاهدها. هذا الارتياح انضم إلى منهج اقتصادي وآخر إعلامي وبات جزءا أساسيا من الصناعة السينمائية التي سرعان ما انتقلت، في مطلع القرن من ولاية نيويورك إلى ولاية كاليفورنيا حيث انتشرت في ربوع وضواحي مدينة لوس انجلوس إلى اليوم.

في المقابل، كان الجمهور الأوربي الأكثر ثقافة ومرجعا، يكترث لسينما المخرج. وفي الوقت الذي كانت فيه هوليوود تؤسس سينما الأنواع - أي منذ مطلع الثلاثينيات بصورة واضحة - كانت السينما الفرنسية مثلا تركز أهتمامها على إلحاق الفيلم بمخرجه وبقي هذا الاهتمام سائدا إلى اليوم في حين كان المخرج - غالبا - أداة تنفيذ ليس إلا في معظم ما تم تصويره من أفلام أمريكية في العقود السابقة.

إنها طريقة عمل ومنهج تفكير وكل سينما كان لها نصيبها من الأفلام الجيدة والأفلام الرديئة.

 

محمد رضا

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




بيتهوفن فيلم كوميدي لا يدور عن الموسيقار الشهير





بعيد وناء مغامرات الغرب الأمريكي





سينما الأكشن: نتاج قديم بأدوات جديدة هذه الأيام





مفكرتي العزيزة: صعوبة تقسيم الفيلم الأوربي





فقط الوحيد: نموذج لسينما عاطفية باتت مفقودة





ملصق إعلاني لفيلم لص بغداد المعروض سنة 1924