المستشرق الإسباني خوسيه ميجيل بويرتا فيلشيث.. ماضي غرناطة العربي غيّرني عقلاً وقلباً

المستشرق الإسباني خوسيه ميجيل بويرتا فيلشيث.. ماضي غرناطة العربي غيّرني عقلاً وقلباً

لا نعلم على وجه الدقة ما إذا كان المستشرق خوسيه ميجيل بويرتا فيلشيث يشكل حالة فريدة من نوعها في العالم برمته، لكننا نستطيع أن نؤكد بثقة تامة أن إنتاجه الفكري الغزير والنوعي، المكرس لخدمة الثقافة العربية، يشكل إضافة فريدة للمشهد الثقافي في العالم، فقد وُصف كتابه «البنية الطوباوية للحمراء» بأنه فتح مجالا لم يُطأ من قبل لأنه درس القصور الأندلسية اعتماداً على السيميائية، وبروح نقدية بعيداً عن الأركيولوجية البحتة والوصف السياحي الساذج. وقد أشاد أهمُّ مؤرخي الفن في إسبانيا بكتابه «تاريخ الفكر الجمالي العربي» ووصفوه بأنه «كتاب جدير بالاهتمام بسبب وفائه العلمي، لأنه كتب لدينا الكثير عن الفن الإسلامي ولكن غالبا من قبل من لا يعرفون اللغة العربية ونصوصها». وقد رشحت ترجمته لرواية «بيروت 75» لغادة السمان لجائزة الترجمة الوطنية وأطرى المستعرب الإسباني المعروف بيدرو مرتينيث مونتافيث على الدراسة التي تصدَّرت الترجمة بأن هذا النمط من المقدمات ضروري لتقريب القارئ الإسباني من الأدب العربي المعاصر بشكل أدق.

كما نالت ترجمته لكتاب «الصوفية والسوريالية» لأدونيس اهتماماً بالغاً في الأوساط الثقافية الإسبانية ووصفت الترجمة بأنها «ممتازة».

يسهم خوسيه ميجيل من خلال بحوثه وترجماته، بشكل غير مباشر، في التصدي للحملة المغرضة التي انطلقت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، لشيطنة العرب والمسلمين ودمجهم بالإرهاب.

والحق أن حكاية خوسيه بويرتا مع الثقافة العربية جديرة بأن تروى. وقد التقاه في غرناطة الكاتب والصحفي السوري حسن م. يوسف فكان هذا الحوار:

  • كيف اكتشفت ميلك لتعلم اللغة العربية؟ وما دور غرناطة وأثرها في هذا الأمر؟

- لم أهتم أنا أبداً بأي لغة بحد ذاتها حتى الصدمة التي هزتني حينما زرتُ قصر الحمراء مع أستاذ لي وأخذ يقرأ أشياء مكتوبة على الجدران، مشيراً إلى أهمية اللغة العربية في بنية تلك العمارة التي غدت رمزاً لمدينتنا المشهورة عالمياً.

تعرّبتُ بعد أن كنت مستعرباً

لم أكن قد سمعت سابقاً عن اللغة العربية، على الرغم من أنني كنت قد بلغت الحادية والعشرين من عمري، وكنت على وشك التخرج في قسم تاريخ الفن في كلية الآداب بغرناطة، المدينة التي كانت اللغة العربية، كما هو معلوم، لغتها لما يزيد عن ثمانية قرون!

حتى ذلك الحين، كنتُ أميل إلى علم الجمال والفلسفة والتاريخ والأدب والنقد الفني والأدبي، بيد أن «اكتشاف لغة جديدة» كُتِب بها تاريخ وثقافة أرضي، جعلني أنتبه إلى أية درجة تم تشويه تاريخنا.

في تلك السنة عينها، أي سنة 1981، غادرتُ غرناطة إلى مدريد لأداء الخدمة العسكرية الإجبارية في إسبانيا آنذاك، وبعد الانتهاء منها في منتصف السنة التالية، انتقلت إلى مليلية بدعوة صديق لي مقيم هناك لإجراء فحص للتوظيف. هناك، في الطرف الآخر من المتوسط تعرفت لأول مرة على الإنسان المغربي والعربي والمسلم. درست اللغة الدارجة المغربية بضعة أشهر في معهد حكومي. ثم رجعتُ إلى غرناطة واشتريت كتاباً لتعلم الفصحى وبدأت أحضر بعض الدروس في قسم اللغة العربية في جامعة غرناطة.

أحببتُ اللغة العربية حباً شديداً، فبالإضافة إلى ماضيها المزدهر في أراضينا رأيتُ أنها لغة حية وغنية جداً بالثقافة والمعرفة والإنسانية. صحيح أنني بدأت في خوض مغامرة اللغة العربية في الثالثة والعشرين من عمري، لكنني ما زلتُ أقول للأصدقاء والطلبة إنها كانت خطوة مصيرية في حياتي. إذ إن هذه اللغة فتحت لي أبعاداً شاسعة في الفكر والأدب والنقد والعلاقات الإنسانية. والطريف أنك تراني اليوم عائدا من قصر الحمراء، حيث كنتُ أصوّر تلك الكتابات العربية المنقوشة على جدرانها التي ما زالت حتى اليوم تشغل بالي ووقتي بعد أن بلغت الـ 50 من العمر، وذلك لنشرها في كتاب توضيحي يستفيد منه زوار آثارنا الشهيرة، وهي مبادرة تهدف إلى ملء فراغ في مكتبتنا.

  • أشكرك لأنك أكرمتني بأن كنت رفيقي ومفتاحي الذهبي إلى أسرار «قصر الحمراء وجنة العريف» خلال رحلة «الغبطة المتصلة» في آثار غرناطة. أحسب أنك لا تعرف عدد المرات التي زرت فيها هذا المكان. هل لك أن تحدثني عن أهم المراحل التي مرت بها علاقتك بـ «قصر الحمراء وجنة العريف» منذ رحلتك الأولى فيهما وإليهما، وحتى الآن، وما هي أهم مكامن الجمال الخفية فيهما التي يسعدك أن تلفت الأنظار إليها مرة تلو أخرى؟

- في أيام المراهقة الغابرة كانت زياراتنا لقصور الحمراء وجنة العريف زيارات براءة ومغامرة نشتاق إليها كالكثير من الغرناطيين. كنا نتسلل آنذاك في فضاء رحب ومدهش كان مفتوحاً للكل ونختبئ أحياناً في الحدائق والبروج حتى يخيم الظلام على السبيكة (تل الحمراء) بعد وقت الإغلاق. بعد ذلك جاءت زيارة الصدمة العقلية التي حدثتك عنها، والتي وضعتني وجهاً لوجه مع تاريخنا العربي الماثل أمام عيوننا، والغريب عنا في الوقت ذاته. ثم، ازدادت زياراتي البحثية إلى الحمراء في منتصف الثمانينيات، بينما كثفتُ قراءة الدراسات المكتوبة عن آثار الحمراء. في هذه الفترة تواصلت الزيارات المنظمة بغرض شرح قصور الحمراء وعناصرها الفنية والجمالية للطلبة والمهتمين. ثم تعقدت الأمور كثيراً بسبب تحوّل قصور الحمراء إلى المكان السياحي الأكثر زيارة في إسبانيا، البلد الذي يعتبر ثاني أو ثالث بلد سياحي في العالم. لاحظ أن عدد سياح الحمراء حالياً يتجاوز مليوني زائر سنوياً، فضلا عن المنافسة القوية الناشبة بين جهات مختلفة للتأثير على إدارة الحمراء. لذلك بات صعبا للغاية إجراء البحث في اطارها، وحتى مجرد تنظيم زيارة علمية مع الطلبة أو المختصين. السياحة الجماهيرية تحسم اللعبة لمصلحتها. أظن، حالياً، أن هذا الصرح تنقصه الحماية الأثرية اللازمة فهو يستهلك سياحياً أكثر مما يتحمل. على كل، أتعاون في المرحلة الراهنة مع جمعية الأدلاء السياحيين من أجل تطوير معرفتهم العلمية في الفن الإسلامي وعمارة الحمراء، علّ هذا يساعد في منح صورة أوضح وأدق عن تلك المجموعة الضخمة من المباني والحدائق والزخارف التي علينا أن نحافظ عليها ونقدمها للعالم.

الحمراء تفاجئنا وسوف تفاجئ الأجيال القادمة

  • أمضيت عمراً من الملاحظة والبحث في «قصر الحمراء وجنة العريف»، هل تعتقد أن آثار غرناطة هذه اعطتك كل أسرارها، أم أنها ما زالت تفاجؤك بتفاصيل جديدة من عزها القديم؟

- السؤال مهم وأول ما خطر على بالي هو قول النفري: «العلم المستقر هو الجهل المستقر». الحق أنني مازلت أكتشف الجديد في تضاريس جدران الحمراء وفي المصادر المتعلقة بتاريخها. الفن والعلوم الإنسانية شأنها شأن العلوم الأخرى منبع لا ينضب. وفيما تخص الحمراء يجب أن أذكر أنه تم في العقد الأخير نشر نصوص مهمة في المغرب العربي، مثل ديوان كل من ابن فركون وابن زمرك، اللذين كانا شاعرين تركا قصائد مخطوطة في حيطان الحمراء، والجزء الثالث لـ «نفاضة الجراب» لابن الخطيب وكتاب «جنة الرضا» لابن عاصم الغرناطي، وكلها نصوص تحتوي على معلومات مهمة لمعرفة الحمراء بدقة أكثر. الحمراء تفاجئنا وسوف تفاجئ الأجيال القادمة لكونها أكبر مجموعة معمارية - فنية وصلتنا من الأندلس، يقتضي غناها الأثري وتنوع تصاميمها الهندسية والتزيينية والمعمارية التمعن في طياتها كي تتجدد رؤيتنا لفنونها وأبعادها التاريخية باستمرار.

  • أستطيع القول إنك الآن تكتب وتتكلم بلغة عربية سليمة وسلسة أكثر من لغة بعض المثقفين العرب، وقد توج تعليمك لنفسك بأن حصلت على شهادة دكتوراه في اللغة العربية من جامعة غرناطة عام 1995 إلا أن علاقتك بالعروبة تجاوزت آثار غرناطة والأشعار المكتوبة على جدرانها الى العرب أنفسهم، بحيث تزوجت فتاة سورية. إلى أي حد يمكن القول إن الآثار العربية في غرناطة قد أسهمت في صياغة مصيرك الشخصي أيضاً؟

- أشكر لك هذا الانطباع الإيجابي عن ملكاتي باللغة العربية، ولكن دعني أقول لك إن لغتي العربية لها حدودها وأنها مشوبة ببعض اللكنة على الرغم من أنني أمارسها يوميا،ً بل إنها تتجاوز لغتي الإسبانية استعمالاً في البحث والمحادثة في المنزل.

أذكُر أنني بدأت تعلم العربية متأخراً نسبياً وأنني لم أقم بزيارة لأي بلد عربي إلا لبضع فترات لم تتعد أبداً الشهر ونصف الشهر. لذلك أمزح مع الإخوة العرب وأقول لهم إن لغتي العربية - المفتعلة نوعاً ما - هي لهجة عربية أخرى تستحق الاحترام لكون هذا الناطق بها ابن غرناطة الأندلسية، وأنني أظلّ أنطق بها كما نطق بها أبناؤها الأندلسيون... أما ما حصل لي بعد أربعة عشر عاماً من تبني العربية لغة رئيسة عندي، فهي قصة أخرى كان من شأنها أن لا تكتمل لو لم أكن أنظر إلى العالم العربي باعتباره عالماً رائعاً أحلم، مثلما يحلم الكثيرون من جيلي في مناطق عديدة بإسبانيا، بالتعامل معه كجزء لا يتجزأ من تاريخنا وكحاضر حي قريب منا. لقد تعرفت على النحات والكاتب السوري عاصم الباشا بعيد وصوله إلى غرناطة حين جمعنا القدر في قسم اللغة العربية من وكالة الأنباء «افي» الإسبانية، ونشأت صداقة جميلة وعميقة بيننا، مازلت أتغذى منها فكراً وإبداعاً. دعاني عاصم في سبتمبر 1998 لمرافقته في زيارة لسوريا، وهناك تعرفت على من ستصبح زوجتي بعد مدة من الصداقة الجميلة والمحبة. حاليا لدينا بنتان في السادسة والثالثة من العمر، وكما يقول صديق لي: تعرّبتُ بعد أن كنت مستعرباً. والواقع أنه يحلو لي هذا الوضع وأفتخر به وأجتهد كي تحافظ عائلتي على عروبتها إلى جانب المباديء الإنسانية الرئيسية التي تخصنا كأفراد في هذه الدنيا. لذا، فمنذ زمن طويل، أتمتع براوئع الحضارة العربية، كما أتأثر لكل ما تعانيه شعوبها من الظلم والمصاعب الحياتية. يمكن القول، إذن، إن ماضي غرناطة العربي غيّرني عقلاً وقلباً ووسّع رؤيتي للعالم والإنسان.

  • في مطلع العقد الأخير من القرن الماضي صدر أول كتاب لك بعنوان «البنية الطوباوية لحمراء غرناطة»، وفي عام 1997 أصدرت كتاباً ضخماً يقع في 913 صفحة بعنوان: «تأريخ الفكر الجمالي عند العرب. الأندلس والجمالية الكلاسيكية العربية» وهذا الإنجاز الفكري يضعك بين أبرز المختصين الأسبان بتأريخ الفن الإسلامي والأندلسي وبعلم الجمال عند العرب، ما هي أهم الاستنتاجات التي توصلت إليها في هذين الكتابين؟

- أول كتاب دونته ونشرته كان، كما تفضلت بذكره، «البنية الطوباوية لحمراء غرناطة» الذي صدر بالإسبانية العام 1990. ثم أعدتُ صياغته ثانيةً باللغة العربية العام 1992 وأصدرته في مجلة «العالم والفكر العالمي» اللبنانية مع تمهيد جميل وتنقيح لغوي قام بهما مطاع الصفدي.

حاولتُ في تلك الدراسة الباكرة التعمق في العناصر المعمارية المتعددة المكونة لآثار قصور الحمراء الفريدة. كانت البحوث والكتب المتداولة آنذاك حول الحمراء إما أعمالا آثرية بحتة وصارمة، أو نصوصا سياحية بلا قيمة علمية. في هذا السياق، سعيتُ إلى منح فن العمارة الإسلامية المتمثلة في قصور الحمراء قيمة جمالية وفكرية على منوال ما فعله المستشرق الفرنسي الكبير أوليج جرابار (Oleg Grabar) وباحثون آخرون قلائل.

أما كتابي الثاني، «تأريخ الفكر الجمالي عند العرب»، فهو عمل استغرقت في إنجازه عشر سنوات تزامنت مع عملي كمدير مكتبة دوركر العامة. وبما أن الفكر الجمالي العربي لم يحظ ولو بسطر واحد في كتب تاريخ علم الجمال الغربية، فقد رفض بعض أساتذة غرناطة حتى الإشراف على مشروعي للبحث في هذا الموضوع من أجل الدكتوراه. وفي نهاية المطاف قبل واحد منهم من قسم اللغة العربية ولكنه ترك على عاتقي تحديد المصادر والمشروع بكامله. هذا قادني إلى الاطلاع على كمية هائلة من النصوص العربية الكلاسيكية والمعاصرة، من الجاهلية حتى ابن خلدون، مروراً بالقرآن الكريم وكبار الفلاسفة شرقاً وغرباً وانتهاء بالصوفية وكتب الأدب... إلخ.

تعلمت كثيراً جداً خلال تلك السنين المكرسة للإلمام بهذا الركام الضخم من المناهل التي كنت أقتنيها في رحلاتي العابرة إلى المغرب ومصر وعن طريق المراسلة مع الأصدقاء العرب والمكتبات المغربية واللبنانية. أظن أن النتيجة كانت معقولة وأن الكتاب صار بدوره مصدراً أساسياً للقيام بأبحاث جديدة توسع معرفتنا عن الجمالية العربية.

إثر صدور الكتاب عن دار نشر مهمة في العاصمة الإسبانية مدريد، تزايد اهتمام المتخصصين بعلم الجمال في إسبانيا بالفكر الجمالي العربي، وأدركوا أن هنالك ثقافة حافلة بالمفاهيم والآراء النظرية تتسم بالتعددية في الذوق والتقييم والمنابع الجمالية. وقد استنتجت أنه ثمة تيارات عديدة في الجمالية العربية وليس تياراً واحداً: تيارات حسية وروحانية ورياضية وتاريخية وصوفية... إلخ. نستطيع أن نتحدث، مثلاً، عن الأفلاطونية المحدثة المؤثرة جداً في الجمالية العربية، إلى جانب التيارات الأرسطية أو المشائية وإلى تلك التي جمعت بينهما وبين المفاهيم العربية الأصلية.

الفلاسفة العرب منحوا لقوة الخيال وظيفة فنية وجمالية أدق مما قام به الفكر اليوناني

في نظري، منح الفلاسفة العرب، وخاصةً الفارابي وابن سينا والبلاغيين الذين جروا مجراهم أمثال حازم القرطاجني، لقوة الخيال وظيفة فنية وجمالية أدق مما قام به الفكر اليوناني، كما يمكن القول إن العلماء العرب طوروا أكثر ممن سبقوهم نظريات الإدراك الحسي الجمالي. يكفينا أن نومئ إلى ابن الهيثم وكتابه في المناظر الذي أثّر تأثيراً بالغاً في تكوين الفكر الفني والجمالي الأوربي في النهضة الأوربية وما بعدها. وباعتقادي، للتصوف أهمية خاصة في خلق بعض المفاهيم والمواقف الجمالية. وابن عربي، الذي بات في وقتنا الراهن مادة مهمة للبحث في كل أنحاء العالم، مثالا يجب الانتباه لقوة مفاهيمه الجمالية المرتبطة بفلسفته العامة، لا سيما مفهومه الخاص به للخيال الخلاق، وأفكاره عن الجمال والجلال بين العالم الماورائي والمادي (الذي يراه خيالا في خيال)، إضافة إلى فكرته عن الشعر والفن كفضاء للغيب، والخفي والغامض وليس للظاهر والبيّن. ويجب أن نزيد لذلك كله الآراء الجمالية العربية المحضة، إن صحّ التعبير، التي وظفتها هذه الثقافة منذ الجاهلية والتي تتصف بجمالية التضاد البصري والحسي وبالنظام والإحكام في الأداء... إلخ، وهي جمالية عربية دقيقة استكملت وتطورت عبر التفاعل مع تلك الجماليات الأفلاطونية المحدثة والمشائية والصوفية. لذلك كله، ونظراً لضخامة الإنتاج الفني الملموس والهائل الذي يواكب الحضارة العربية منذ مطلعها، فإن تجاهل وإهمال الدراسات الغربية للنظريات العربية الفنية والجمالية يبدو ضرباً من اللامعقول!

  • أنجزت كتاباً مهماً بعنوان: «مغامرة القلم. تأريخ وأشكال وخطاطو الخط العربي» ما الذي أغرى مستعرباً مثلك بإنجاز هذا المشروع؟ وما هي الرسالة التي أردت إيصالها للقارئ الإسباني من خلال هذا البحث في فن الخط العربي؟

- الإسبان والأوربيون الذين يدرسون اللغة العربية يسحرهم الخط العربي الذي لا مثيل له في فنون البلدان الأخرى. في دراساتي الأولى عن قصور الحمراء بقيت أسيراً لخطوطها العجيبة المنقوشة على الجبس والرخام والخشب والمرصعة في الأفاريز الخزفية. وفي رسالتي للدكتواره حول علم الجمال العربي بحثت في المؤلفات العربية في هذا الفن وسلطت الضوء على الآراء الجمالية الخاصة بالخط العربي المتضمنة في الكثير من المصادر العربية الكلاسيكية. ولكن، قبل خمسة أعوام، قررت إنجاز كتاب خاص وشامل حول الخط العربي، لأن المكتبة الإسبانية تفتقر حتى ولو لمؤلف واحد في هذا الموضوع، على الرغم من أن البحوث المتخصصة في الكتابات العربية المنتشرة في الآثار المعمارية والتحف الفنية في بلادنا كثيرة جداً. بوسع القارئ الإسباني الآن أن يتمتع بثلاثمائة وخمسين صورة من الخط العربي، بدءاً من أوائل المصاحف حتى أعمال بعض الخطاطين المعاصرين أمثال الصكار ومنير الشعراني وآخرين، مروراً بالمراحل التاريخية الرئيسية لهذا الفن. في مغامرة القلم ذكرت 333 خطاطاً و67 خطاطة مع معطيات عن سيرهم وظروفهم الاجتماعية وآرائهم، سعياً لتكوين صورة متكاملة فنية واجتماعية عن الخط العربي. أنوي أن يدرك مؤرخو الفن الإسبان والأساتذة والطلاب والقراء عامة أهمية هذا الفن الذي له حضور تاريخي لا ينكر في أراضينا.

  • علمت أنك تعمل حاليا، على إنجاز مشروع ثقافي توثيقي ضخم بعنوان «مكتبة الأندلس»، يشمل كل المؤلفين الأندلسيين الذين كتبوا بالعربية. من هي الجهات التي تدعم هذا المشروع؟ وما هي آليات تنفيذه والأطراف المشاركة فيه؟ وما هو الهدف الأساسي الذي تطمح لتحقيقه من خلال هذا المشروع؟

- بدأنا هذا المشروع في سنة 2000 بدعم من مؤسسة التراث الأندلسي بغرناطة في أيام كان مدير نشاطات هذه المؤسسة الثقافية النحات والكاتب السوري الصديق عاصم الباشا. بعد سنتين تقريباً أصبحت العلاقة مع تلك المؤسسة مستحيلة فأسسنا، ونحن مجموعة من سبعة شباب مستعربين، «مؤسسة ابن طفيل للدراسات العربية» لمتابعة المشروع. هذه المؤسسة الجديدة هي التي تمول وتنشر الأجزاء الصادرة حتى الآن وهي خمسة أجزاء من الحجم الكبير، علاوة على كتب أخرى مرتبطة بالأندلس وبالثقافة العربية عامة. في الفترة الأخيرة حصلنا أيضاً على مساعدات من قبل بضع مؤسسات جامعية وبحثية حكومية. يشارك في إنجاز هذا المشروع الضخم والطموح والذي سيغير رؤيتنا ومعرفتنا الشاملة عن ثقافة الأندلس أكثر من مائة مستعرب معظمهم إسبان وآخرون من بلدان أخرى عربية وغيرها. غرضنا الأساسي هو تدوين كل ما تتضمنه المصادر العربية الكلاسيكية من معلومات عن كل الأندلسيين الذين كتبوا حتى ولو قصيدة واحدة بالعربية، وتسجيل عناوين كل أعمالهم مع شرح لمحتويات نصوصهم التي وصلتنا.

بعد انهاء «مكتبة الأندلس»، الذي بات وشيكاً، سوف نتطرق إلى تدوين القسم الثاني لموسوعة الأندلس وهي عبارة عن يوميات الأندلس بذكر كل الأحداث السياسية والعلمية والثقافية المعروفة.

أعترف أنني وقعت في فخ الترجمة اللذيذ

  • إضافة لإسهاماتك البحثية والفكرية، قمت بترجمة عدد من الأعمال الإبداعية من العربية إلى الإسبانية، ومن الإسبانية إلى العربي»، ماذا تعني الترجمة بالنسبة لك، وما هي المعايير التي اعتمدتها في اختيارك للأعمال التي ترجمتها؟

- اعترف أنني وقعت في فخ الترجمة اللذيذ بالصدفة وبعد تحفظ شديد، غير أنه بمرور الوقت صارت الترجمة رفيقة أليفة. على أية حال، أخافها كما أحبها. ليس هناك تلاقح ثقافي ونزعة إنسانية وثقافية حقيقية بدون الترجمة. بفضلها، أو بالأحرى، بفضل من يقوم بها، يتقدم الجميع في المعرفة وفي فهم الحضارات الأخرى وفي فهم أنفسهم. ترجمت ونشرت كتابين للكاتبة غادة السمان، وهما رواية «بيروت 75» و«القمر المربع» (قصص غرائبية)، وكتاب «الريح» للشاعر والناقد العراقي صلاح نيازي، وشاركت في ترجمة وإصدار كتاب «تحت الاحتلال» الذي يحتوي على مجموعة من قصص بعض الكتّاب الفلسطينيين بمقدمة للكاتب البرتغالي خوسيه ساراماجو. بالإضافة إلى هذه الترجمات الأدبية التي تسمح لي بالبقاء إلى جانب الأدب الذي أحبه وأعنى به منذ شبابي، نقلت من اللغة العربية إلى الإسبانية نصوصاً أخرى متعلقة بالفكر والفن: قسم من تلخيص كتاب الشعر لابن رشد ودراسات حول الفن للرسامين كمال بلاطه وشاكر حسن آل سعيد والكاتب سعد الله ونوس، وأخيراً كتاب «الصوفية والسوريالية» لأدونيس، الذي قدمناه رسميا في شهر أكتور 2008 في مدريد بحضور المؤلف، وهو كتاب لفت نظر المتخصصين الإسبان في الفن المعاصر. وفي جعبتي نصوص أخرى قيد المراجعة لغسان كنفاني أنتظر الفرصة المناسبة لنشرها. إذن، المحبة لهذه المهمة الصعبة والضرورية تتغلب على الخوف تجاه التصرف بنص شخص آخر ألفه في سياق مختلف وبلغة لها خصوصياتها، ولكن بلا هذه المخاطرة لا يمكن عرض صورة مباشرة وأصيلة عن الأوضاع الاجتماعية والفكرية العربية للقارئ بالإسبانية. ويحلو لي أن أذكر لك أن الترجمات من اللغة العربية إلى الإسبانية ازدادت في العقد الأخير بشكل ملموس بفضل الجيل الجديد من المستعربين الإسبان النشطاء.

  • من يرى من بعيد، تكون مقدرته على الإحاطة بالمشهد أكبر ممن هو جزء منه، أو منغمس فيه، كيف ترى المشهد العربي الراهن - من وجهة نظرك - كصديق للثقافة العربية يطل على الوطن العربي من فوق الضفة الأوربية للمتوسط؟

- رؤيتي الراهنة للعالم العربي يختلط فيها التفاؤل الناجم عن مشاهدة أجيال مختلفة من المواطنين العرب المتعطشين للتقدم والعلم وممارسة الحقوق والعيش بطريقة أفضل، مع الشعور بالقلق والأسى لعدم إحداث التغييرات الضرورية في الكثير من البلاد العربية، للتوصل إلى توازن معقول ومقبول لكل الأطراف المتعايشة فيها. يضاف إلى ذلك نفوذ بعض القوى العظمى في المنطقة. يجب في رأيي أن نشجع الطاقات المبدعة في كل المجالات وأن نزيل العراقيل المتعددة بالطرق السلمية.

في إسبانيا وفي أوربا عامة، يحس المواطنون وبعض المسئوليين السياسيين أن مستقبلنا ومستقبل الضفة الجنوبية من المتوسط مشترك وأنه لا بد من تطوير علاقات متوسطية بيننا. من ناحية أخرى، أشهد أن نخبة المثقفين ووسائل الإعلام العربية وحتى الكثير من المواطنين العرب يعبرون عن شعورهم بأن الحضارة العربية في حالة تراجع، وحتى أنها على وشك «انقراض». وبصفتي إسبانيا عشت دوما في إسبانيا استغرب من هذا النوع من الآراء الشائعة وتقلقني وأحاول أن أجد لها بدائل وأنظر إلى الجوانب الإيجابية الموجودة في المجتمعات العربية، وهي كثيرة. وما يقلقنا أيضا في بلادي هو التيارات المتطرفة الناشطة بينكم وبيننا لأنها تذكرنا بماضينا الإسباني والأوربي القريب، الذي قام على الغاء الآخر والحروب العائلية والعالمية المدمرة التي اتخذت من أوربا أول مسرح لها في بدايات القرن المنصرم وبعده. أنا مع من يدعو إلى التغيير والإصلاح بالاعتماد على الطاقات الذاتية أولاً، وعلى الآخر ثانياً. وبدلاً من البكاء على الأطلال فمن المفيد أكثر العمل الفعال لبناء حاضر عادل ومزدهر. آخذين بعين الاعتبار أن الإنسان غدا واحداً في هذا الكوكب وأنه ليس هناك مجال للانغلاق الحضاري التام. العرب محتاجون، كما يعرف الجميع، إلى التوحد والتنسيق الداخلي للدفاع عن مواقفهم وحضارتهم في هذه الدنيا المتقلبة والصعبة.

  • في كتابها الأخير «الله ليس كما يزعم الغرب» ترى المستعربة الألمانية الراحلة زيجريد هونكه أن «علاقة الغرب بالعرب على درجة من الاضطراب والتشوش، بحيث لا نشاهد مثيلاً لها مع أي شعب من الشعوب الأخرى». وترجع هونكه ذلك إلى أن الهزيمة التي واجهها الغرب في الحروب الصليبية قد تحولت «إلى كابوس نفسي عميق مازال يحدد منذ ذلك الوقت وحتى اليوم موقف الغرب من العرب». وهي ترى أن ذلك الموقف «يقف سداً أمام أية معرفة موضوعية مطابقة للواقع»! هل تتفق مع زيجريد هونكه فيما ذهبت إليه؟ وهل تعتقد أن عصر الفضائيات والثورة الرقمية من شأنه أن يزيل الاضطراب والتشوش من نظرة الغرب إلى الشرق؟

- أنا مع رأي هونكه هذا ولكني أظن أنه ليس الحقيقة الكاملة حتى لو افترضنا أن ذلك التزوير والتشويه لتاريخ العرب هو المهيمن في العقل الغربي. في رأيي أنه حتى كبار علماء النهضة الأوربية ومؤسسي النزعة الإنسانية في أوربا في القرن الخامس عشر الميلادي استندوا علناً إلى المفكرين والعلماء العرب الذين كانت قد ترجمت العديد من كتبهم إلى اللاتينية. لنذكر على سبيل المثال، لا الحصر، نص ما يعتبر الخطاب المؤسس للنضهة الأوربية وهو «خطاب من أجل كرامة الإنسان» للإيطالي بيكو ديلا ميرندولا (Pico de la Mirandola) (1463-1494)، الذي افتتح هذا الخطاب المهم مشيراً إلى «المسلم عبد الله»، وهو ابن المقفع، ثم يذكر على التوالي كلا من النبي محمد والقرآن الكريم والكندي والفارابي وابن سينا وابن باجة الأندلسي وابن رشد وأبو معشر البلخي والطبيب ابن زهر معبرا عن احترامه وإعجابه بهم، وبالأهمية التي أعطوها كلهم للإنسان وقدراته على المعرفة ومحبة الآخرين. أظن أن الهوة بين شمال المتوسط وجنوبه تعمقت في عهد الإمبريالية الأوربية فيما بعد وخصوصاً بعد الحربين العالميتين في القرن العشرين. حالياً هناك تيار يجرّ المنطقة في اتجاه ما ذهبت إليه هونكه، بيد أنه مصاحب في الآن نفسه بتيارات أُخَر تنظر إلى العالم العربي بكل احترام وكجزء لا يتجزأ من إنسانيتنا العامة وتميز بين من يلجأ داخل الإسلام إلى التعصب والعنف العقلي وبين من يجتهد اعتماداً على الحوار واحترام الآخر. بكلمة واحدة، تنبيه هونكه يجدر أخذه بعين الاعتبار لمكافحة تلك الرؤى المجحفة والمقلقة، ولكنه غير عادل تماماً لأنه ينسى المواقف والجهود المبذولة بالاتجاه المعاكس، وإنْ كانت هذه الجهود حتى الآن محدودة.

الغريب والموجع للغاية هو أن يتم تزييف تاريخ شعب وإبادته على مرأى من عيوننا الملتصقة بالشاشة

  • اتجاه أمواج الحضارة بين الضفتين الشرقية والغربية للمتوسط، كان متقلباً حيناً ومتعاكساً إلى حد الصراع حيناً آخر. وأنت مفكر تطل على هذين العالمين وتشكل جسراً بينهما، كيف ترى سيرورة العلاقة بين الشرق والغرب، هل هي إلى انفراج وتعاون، كما نأمل؟ أم أن القوى التي تستثمر سوء الفهم، الذي تحدثت عنه هونكه، لاتزال هي الفاعلة؟ مما قد يرشح العلاقة بين الضفتين الغربية والشرقية للانفجار، حسب توقعات الراحل هنتنجتون صاحب نظرية «صراع الحضارات»؟

- بمرور الوقت لاحظتُ أنني متفائل غالباً إلا فيما يخص السياسة ولعبة المصالح القاتلة المنتشرة في كافة أنحاء العالم، وفي المتوسط بصورة خاصة، بصفته منذ القدم موضع طاقات ومسرح احتكاك شعوب ثلاث قارات. أرى كمواطن وأستاذ جامعة، أنه لا بد أن نعزز الحركات الثقافية والحقوقية والإنسانية في العالم بالتعاون مع الحكومات التي قد يعنيها نشر السلام والتطور في الأرض حتى ولو كانت نادرة. أعتقد أن مبادرات المجتمع المدني مهمة جداً وضرورية ولكنها قد لا تكفي. ما يحدث، مثلاً، في فلسطين المحتلة

لا يحتمل سياسياً وإنسانياً من أي ناحية من النواحي. الكل يعلم أن هذه القضية تنسف المنطقة وتعرض المتوسط وغيره للخراب. والغريب والموجع للغاية أن يتم تزييف تاريخ شعب وإبادته على مرأى من عيوننا الملتصقة بالشاشة التي تشلنا دون أن نحرك ساكناً. ما أخشاه أن النوايا والأفعال الطيبة في حقول التعليم والفن والثقافة - وحتى في بعض الصحافة - غير قادرة على مواجهة القوى الأخرى المسيئة للفهم، التي أشرت إليها، والمتعطشة لنشر الحروب وسرقة الثروات. حقيقةً، أنا أحس بالعجز تجاه تلك القوى، بيد أنني لا أجد مخرجاً آخر إلا الإصرار على دعم القيم الإنسانية في محيطنا (جنوباً وشمالاً) في المحاضرات والكتابات والحوارات المباشرة، مع الطلبة الذين يأتوننا من دول متوسطية كثيرة وسواها. يبدو لي أن هذا الموقف يُبقي ضميرنا صاحياً على الأقل، وقد يساهم في ترجيح كفة الإنسانية في الميزان.

 

 

حاوره الكاتب: حسن م. يوسف




خوسيه ويوسف في غرناطة





 





 





من كتابات جدران قصور الحمراء التي تعد كتبا في الشعر والفنون





 





 





 





لا غالب إلا الله شعار حكم الدولة ووثقه العمارة الأندلسيه