الإسلام والمسلمون على شاشة السينما العالمية أحمد رأفت بهجت

الإسلام والمسلمون على شاشة السينما العالمية

لقد انتقلت "كاميرات" السينما الغربية إلى العديد من أقطار العالم الإسلامي سواء في آسيا أو إفريقيا وحتى داخل الاتحاد السوفييتي سابقا، وحشدت الميزانيات الضخمة لتشكل الصورة التي تروقها عن الإسلام في أفلام غالبا ما تتلاعب بالمواقف لإدانة الشخصية الإسلامية بدلا من محاولة تعمقها وفهم جذورها التاريخية

ان اعتزازنا بعروبتنا وإسلامنا لا يعني اننا عندما نتعامل مع هذه الأفلام نولي ظهورنا للصراعات المعاصرة التي يعايشها العالم الإسلامي بحيث نتجاهلها أو نقلل من شأنها أو نتغاضى عن سلبياتها. ولكن عندما يصبح مبدأ التعصب الكريه هو الأساس.. ويصبح هو بيت القصيد للأحداث قديمها وحديثها فان هذا يمثل ظاهرة. تضع العالم الإسلامي كله في بؤرة الهجوم المدروس.. هنا يجب أن نتوقف لنعرف طبيعة ما يجرى حولنا.

منذ بداية الثلاثينيات قدمت السينما الأمريكية والإنجليزية أفلاما كثرة حاولت تمجيد دور الاستعمار الإنجليزي في الهند. والتركيز على الصراعات الدموية بين الهندوس والمسلمين سواء داخل الحدود الهندية أو في أفغانستان (انظر مقال "الأفغان تاريخ مهدد وسينما ظالمة" مجلة "العربي" العدد 408 نوفمبر 1992) ودور القوات البريطانية في مواجهتها.. وفي هذه الأفلام سيظهر لنا نوعان من القواد المسلمين: رجال مثل محمد خان في "حياة فارس البنغال" 1935، وسورات خان في "هجوم اللواء الخفيف" 1936، رجال مثقفون متحضرون ولكن بلا ضمائر أو قلوب، أو رجال من أمثال غول خان في "الطبلة" 1938، أو كورام خان في "ممر خيبر" 1953، أو الثائر المسلم في "الحدود الشمالية الغربية" 1959. رجال كلهم تعصب ودموية، لا هم لهمم إلا الحلم بالفوز والنصر بعد قطع رقاب الأعداء البيض ومن يناصرهم من الهندوس. ومع منتصف الستينيات بدأت صورة المسلم الهندي تقدم في اطار أحداث مختلفة. وتركزت في الأفلام العالمية التي قدمها الثلاثي: (المخرج الإنجليزي المسيحي "جيمس إيفوري) والمنتج الهندي المسلم "إسماعيل برشنت" والكاتبة اليهودية "روث براور هابفالا").. لقد تعرضت أفلام هذا الثلاثي للمجتمع الهندي. وحاولت أن تخلق جسرا بين الشرق والغرب من خلال أفلام، شكسبير والله" 1965، "المعلم" 1968 "حديث بومباي" 1970 "المهاتما والصبي المجنون" 1973 "حرارة وغبار" 1985. ولكن النتيجة أن هذه الأفلام واجهها جدل عنيف نطاق واسع.. فهي بدلا من أن تنطوي على كثير من عناصر عدم التعصب وهو الأمر المنشود من تحالف هذا الثلاثي بأديانه السماوية الثلاثة.. تحولت إلى رؤية أحادية مفروضة من الكاتبة اليهودية واستسلام الإنجليزي الكبير العاشق لحضارة الهند، وغفلة من المنتج المسلم الذي تحولت أمواله إلى وسيلة لمهاجمة الشخصية الإسلامية.

ويعد فيلم "المعلم" نموذجا لفهم أفلام الثلاثي (ايفوري. اسماعيل. روث) فأحداثه تبدأ مع حضور المغني الإنجليزي توم بيكل (مايكل يورك) معبود الجماهير في أوربا والولايات المتحدة إلى الهند لدراسة آلة السيتار الهندية على يد العازف الهندي المسلم ظافر خان (بيتر سليرز). لقد ترك بيكل كل التزاماته في الغرب لكي يكرس وقته لدراسة الموسيقى الهندية. ولكن عندما يفرض عليه أستاذه الهندي الإقامة في منزله بدلا من الفندق يجد نفسه في مواجهة ظواهر غريبة: تعدد زوجات الأستاذ لان الإسلام يحلل الزواج من أربع. تكاثر لا نهائي للأطفال من أجل إنجاب الولد. السحر والشعوذة كسلاح متبادل بين الزوجات. الضرب كوسيلة لتعامل الأستاذ مع زوجاته.. كل هذه الظواهر يصاحبها اهتمام بالغ بممارسة التقاليد والشعائر الإسلامية مثل "قراءة المصحف" "التحجب" "الصلاة". ويركز الفيلم على ردود أفعال بيكل حيال سلوك أستاذه المسلم الذي كان حساسا إلى أبعد الحدود تجاه أي لون من ألوان التفوق أو الشهرة ترتبط بشخصية الفنان الإنجليزي العالمي الشهـرة. وكان بفتقد الثقة في مواقفه ميالا إلى الاستعلاء تجاه أبناء شعبه بل ويدعو بيكل منذ أول لقاء بينهما إلى عدم تشجيع الناس على الاقتراب منه وإبداء إعجابهم به حتى يستمر له سحره تجاه الجمهور.

ولكن مع حزم المغني الإنجليزي في مواقفه وتراجع ظافر المستمر تتبلور رؤية إنجليزية تجاه سلبيات المجتمع الإسلامي في الهند.. هي السلبيات التي تدفع أيضا فتاة إنجليزية كانت مبهورة بظافر خان الفنان إلى الإحباط والرغبة في العودة السريعة إلى وطنها. وتجد في الحب ودفء التعامل مع بيكل تعويضا حقيقيا عن الدفء المزيف الذي تخيلته داخل مجتمع ظافر المسلم.

والآراء التي طرحت في فيلم "المعلم" لم تتطور أبدا بل سنجد صداها في الأفلام التي تعاملت مع الشخصية الإسلامية في الهند خلال فتره الثمانينيات مثل، "غاندي" 1982 لريتشارد اتينبرو، و"الطريق إلى الهند" 1985 لديفيد لين.. وكلاهما ظهر في ظل إمكانات مادية مذهلة، وتوجهات فكرية متأثرة بموجة الأفلام الغربية التي اندلعت في العالم للهجوم على الشخصية الإسلامية، ومستجيبة من ناحية ثانية لرغبات السينمائيين في تقديم موضوعات عن العنف والإرهاب السياسي.

وأحداث فيلم "غاندي" تستهل وتنتهي بمشهد اغتيال "غاندي" وفي نطاقه يتأكد نوع من البناء السينمائي تتداخل فيه نماذج من أربع ديانات حاول غاندي أن يرعاها بأفكاره وعقيدته حول اللا عنف ونبذ الإرهاب في مواجهة المشاكل السياسية والاجتماعية في محاولة لتحقيق مقولته: "أنا مسلم وهندوسي ومسيحي ويهودي شأنكم جميعا". ولكن يبدو أن غاندي في كل مرة يصادف فيها أحداثا تقاوم فلسفته السلمية سواء خلال اقامته في جنوب إفريقيا أو في الهند سيكون المسيحيون والمسلمون والهندوس طرفا فيها.. بحيث يصبح السؤال المطروح: على من يقع اللوم حقا في كل ما تعرض له غاندي؟ هل على الاستعمار الإنجليزي المسيحي الذي يعصف بالفقراء والعاجزين في الهند أمام مصالحه وأطماعه؟ أو على محترفي السياسة من المسلمين من أمثال محمد علي جناح عندما ينقضون على القوى الاجتماعية لتحقيق زعامات مظهرية دون أن يعبأوا بحاجات الفرد أو الأمة رافعين شعارات الإرهاب والانفصال؟ أو على الهندوس في ردود أفعالهم الوحشية تجاه الإرهاب المسلم؟!!

غير أن نغمة التشاؤم لم تخل من أمل تجسده في فيلم "غاندي" شخصية اليهودي "هيرمان كالينباخ" المرافق لغاندي منذ ان كان في جنوب إفريقيا. أنه يظهر كانسان يحس احساسا رقيقا إزاء ضحايا الحياة لا يتكلم كثيرا، يقف من الأحداث موقف المراقب. يكتفي بالعمل لخدمة الإنسان المقهور، ونراه يحمل الأخشاب لبناء "المعتزل" الذي يقيمه غاندي كمأوى لمن يريد من كل الأجناس سواء خلال وجوده في جنوب إفريقيا أو في الهند. وعندما يقدم غاندي هيرمان في بداية الفيلم إلى رجال الصحافة العالمية نجده يطلق عليه لقبين: "رئيس البنائين. وشيخ المحسنين"، وكأنه يوحي أنه هو من يبني وينفق على هذا المعتزل الشبيه بالكيبوتز الإسرائيلي!!

وبرغم ان اتينبرو يكتفي بنجمة داود الذهبية المدلاة على صدر كالينباخ ليعرفنا بديانته. إلا أنه يضيف بعدا آخر إلى شخصيته عندما يقدمه غاندي إلى الزعيم المسلم محمد علي جناح. إن غاندي في هذه المرة يسبق اسم كالينباخ بلقب آخر وهو "دكتور" وبأنه "صديق قديم من هواة الزهور" .. وهي صفات تقدم درسا في التواضع والثقة بالنفس لمحمد علي جناح الذي يظهر كسياسي محترف يتصف بالتأنق والقبح والصلف.

الالتفاف حول الإسلام

وفي فيلم "الطريق إلى الهند" تستكمل دائرة الالتفاف حول الإسلام بتقديم شخصية طبيب هندي مسلم اسمه عزيز.. يقترب سلوكه إلى حد بعيد من سلوك الموسيقي "ظافر خان" في "المعلم" ورجل السياسة والقانون محمد علي جناح في "غاندي".. فثلاثتهم برغم ملامحهم الحضارية وثقافتهم وما اكتسبوه في ظل الاستعمار من مركز وعلم وثقافة، لا يزال الإسلام يحدد هوية سلبياتهم الاجتماعية والفكرية. وبنفس المنطق في إدانة الموسيقي ظافر من خلال عاشق إنجليزي للموسيقى الهندية، وإدانة "جناح" بواسطة "غاندي" النموذج الأمثل للمحبة وعدم التعصب.. تأتي إدانة د. عزيز من خلال العجوز مسز مور القادمة في رحلة إلى الهند والمدرس الانجليزي الشاب فيلدزج. كلاهما يجسد سلوكه مدى التعاطف مع أماني وأحلام الإنسان الهندي، وتأتي صداقتهما للطبيب المسلم خالصة من أي شوائب عنصرية أو طبقية.. ومع ذلك لا يستطيعان أن يحدقا في نواح معينة من سلوك الهنود المسلمين دون أن يصابا بالحيرة والاشمئزاز العفوي وغير المقصود وهنا تصبح ردود أفعالهما موضع تصديق واحترام بالنسبة للمتفرج في أي مكان، لأنها لا تأتي من منطلق التعصب أو الكراهية أو حتى عدم الاحترام، ولكن هناك حدودا لتقبل الشخص الموضوعي الحساس لسلبيات من يناصرهم أو يتعاطف معهم.

والوظيفة الرئيسية لمسز مور في فيلم "الطريق إلى الهند" تتجسد في إدراكها لبعض الظواهر الإسلامية التي يختلقها الفيلم لكي تتعامل معها بطريقة عاطفية تدفع المتفرج إلى التفكير والتصديق في آن واحد: فالمسجد مكان موحش يأوي الأشرار وتحيط به الثعابين، والمسلم يرفض أكل لحم الخنزير ولكنه لا يستنكف عن إعداد طعامه بجوار دورات المياه، والجنازة الاسلامية شيء مرعب ومخيف، أما المدرس فيلدزج فكان عاملا لكشف السلبيات السلوكية للدكتور عزيز.

لقد حقق الإنجليز لعزيز طموحه في أن يكون طبيبا. ولكنه عندما أصبح عليه أن يتحمل المسئولية تخاذل وتمارض في عمله وهذا لا يرجع إلى قسوة رئيسه الإنجليزي أو تجسس مساعده الهندوسي كما يدعي ولكن لأنه يتصف بسوء السلوك والخلق، فقد تمارض من قبل ليذهب إلى غانيات كلكتا حيث أفكاره مركزة على النواحي الحسية أكثر من تركيزها على العاطفة وهو يؤكد شهوانيته عندما يتراجع عن اعجابه بفضائل الفتاة الإنجليزية التي يحبها فيلدرج بحجة انها ضامرة الصدر، بل ويعلن استعداده لأن يكون قوادا لفيلدزج مما يدفع الأخير إلى الثورة والغضب.

وشخصية د. عزيز. لا يتعارض سلوكها مع العادات الاسلامية التي يؤمن بها، كالخلود الذي لا يتحقق للمسلم - كما يدعي لين - إلا بإنجاب الولد حتى ولو كان غير شرعي. كما أنه يؤمن بالتحجب ولكنه على استعداد لتجاهله وتبادل الخداع مع زوجته مادام التمسك به باقيا ولو من الناحية المظهرية.. وهو إنسان لا يعرف معنى التسامح بل يرفع شعار العنف والغوغائية في مشاهد تحتل معظم الثلث الأخير من الفيلم. ولا يدرك مغزاها الا الواعي لطبيعة ديفيد لين في تعامله مع الشخصية الإسلامية التي قدمها من قبل في فيلمه الشهير "لورانس العرب".

وتعاملت السينما الغربية مع المجتمع التركي بوصفه مجتمعا تعانق فيه الإسلام مع كل السلبيات والشرور السلوكية عناقا متجانسا منسجما. وقد ولجت باب الهجوم عن طريق أفلام المغامرات والحركة التي تستمد جاذبيتها من عنصري الإثارة والعنف والتي تصاعد عددها مع بداية السبعينيات في أفلام مثل "لا تستطيع أن تكسب كل الأعداء" 1970 إخراج البريطاني بيتر كولينسون، "رحلة إلى الخوف" 1975 للأمريكي انتوني مان، "قطار منتصف الليل" 1979 للأمريكي آلان بتركر، "حريم" 1986 فيلم تلفزيوني إخراج بيللي هال، "جزيرة باسكال" 1987 للبريطاني جميس ديردين، "البارون مونتسهاوزن" 1988 للبريطاني تيري جيلليام.. في كل هذه الأفلام ظهر الاتراك كفئة من البشر تتاجر بقيم القلب والنفس إلى حد أصبحت معه السعادة أمرا لا يتحقق إلا مع تعانق "صوت الآذان" مع عذاب البشر أو مع الاحتفالات الماجنة للجواري في قصور السلاطين والحكام.

ومن المؤسف أن الإنتاج المشترك مع تركيا والذي قام بتنفيذه مجموعة من المخرجين الأتراك خلال السنوات الأخيرة لعب نفس الدور في مناهضة الإسلام. ومن خلاله ظهرت أفلام مثل "العري" بالاشترك مع فرنسا واليونان،"برلين في برلين" مع ألمانيا الغربية، "قصة ثعبان" مع الولايات المتحدة الأمريكية. وجميعها يرفع شعار العداء للإسلام سواء بأسلوب مباشر أو غير مباشر.. ويؤكد لنا أن الإنتاج المشترك مع الغرب كان ولا يزال يمثل ضربة قاصمة لكل قيمنا وعقائدنا مقابل حفنة من الدولارات وربما جائزة من هذه المهرجانات الأوربية التي تتناسق في أهدافها مع أهداف من يسعون لهذا الإنتاج مع الدول الإسلامية.

وربما لن نجد الكثير من الأفلام الغربية التي تعاملت مع الشخصية الإيرانية حتى بداية الخمسينيات. ولكن منذ إجهاض ثورة مصدق عام 1953 ضد شركات البترول العالمية مطالبا بتأميمها وهروب الشاه ثم عودته بعد انقلاب قامت به المخابرات المركزية ضد مصدق وحكومته. في أعقاب هذا الانقلاب حاول السينمائيون في هوليوود مساندة الشاه من خلال بعض أفلام المغامرات ذات الطابع التاريخي مثل "مغامرات حاجي بابا" 1954، "عمر الخيام، 1956.. وهما فيلمان تجاريان يحملان نفس الخصائص والسمات التي جعلتها السينما الأمريكية وسيلة لإرضاء بعض الشعوب والأنظمة دون التنازل عن العداء التقليدي لها. فهما يعتمدان على أفكار بسيطة تحاول الالتفاف حول التاريخ دون توريط نفسها في أحداث معاصرة.

في "حاجي بابا" كان البطل حلاقا فارسيا يجد نفسه منغمسا في الصراعات العربية - الفارسية من أجل إنقاذ حبيبته العربية.. وفي "عمر الخيام" سنرى الشاعر والفيلسوف الإيراني العظيم "الخيام" (1048 - 1122) في مغامرة خيالية ينقذ فيها "الشاه" من المتآمرين على حكمه. والفيلم كان مليئا بالمغامرات ومبارزات السيوف ولم يتناول من قريب أو بعيد القصة الحقيقية لعمر الخيام على الأقل كما عرفه العالم الغربي عندما ترجمت رباعياته بواسطة ادوارد فيتزجيرالد.

وكان مقدرا للشخصية الإيرانية ان تستمر داخل نطاق بعض الأفلام التاريخية حتى بدأت تظهر بعض الأفلام الأوربية والأمريكية التي حاولت مساندة "شاه إيران" من أجل خلق صورة أكثر إيجابية لنظام حكمه. ويأتي فيلم "الصاروخ كروز" وهو إنتاج أمريكي - إيطالي - ألماني - إسباني - إيراني تم عرضه عام 1978 أي قبل سقوط الشاه بعام واحد ليحتل مكان الصدارة بين هذه الأفلام وتضع أحداثه الإسلاميين الإيرانيين والعرب وأنصارهم من الألمان (النازيين السابقين) في سلة الإرهاب المقوض لمحادثات السلام في الشرف الأوسط. من خلال إطلاق صاروخ نووي على مقر انعقاد هذه المحادثات فوق إحدى الجزر الإيرانية.. ولولا تكاتف المخابرات الإيرانية (السافاك) والأمريكية والروسية لتحقق للمتآمرين هدفهم الدموي.

وعلى أثر النجاح الذي حققته الثورة الخومينية بدت المبررات كافية للتعامل مع ما يسمى بالإرهاب الإيراني سواء كان مرتكبوه من عملاء السافاك القدامى أو الجماعات الإسلامية. ولم تتوقف السينما الغربية عند حد التعامل مع الأحداث المواكبة للفترة الانتقالية التي سبقت سقوط الشاه، أو الأحداث التالية لهيمنة أنصار الخوميني على الأمور خاصة بعد احتلالهم السفارة الأمريكية في طهران، إنما قدمت أيضا أفلاما ذات طابع تاريخي معاصر منها "مدافع وغضب" 1983 وهو فيلم يشبه فيلم "لورانس العرب" في طبيعة الصراعات التي يقدمها وتدور عام 1908 حيث يواجه اثنان من خبراء البترول الأمريكيين في إيران صراعا بين القوزاق الروس والقبائل الإيرانية التي يقودها زعيم مسلم متشدد يرفض المساس بالأرض ويقاوم كل من يحاول البحث عن البترول فيها حتى يواجه بتمرد ابنه القادم من أوربا بعد ان أنهى دراسته الجامعية هناك.

أما فيما يختص بالأفلام التي تعاملت مع موضوعات ما يسمى الإرهاب الإيراني فإن كفة أفلام التليفزيون الطويلة كانت هي الراجحة.. وهذا النوع من الأفلام نجح نجاحا ملحوظا في حشد ملايين المشاهدين في الولايات المتحدة ضد ما يسمى بالإرهاب الإسلامي (عربي + إيراني). وركز على الأحداث الإيرانية في عدة أفلام لعل أهمها ما ظهر عام 1986: "على أجنحة النسور" (250 ق) و"تحت الحصار" (150 ق) وقد تجنب الفيلمان في تعاملهما مع الشخصية الإيرانية التطرف في المعالجة: فالشخصيات ليست كلها شريرة - كما هي الحال غالبا مع الشخصية العربية - وإنما هي أكثر تنوعا في ملامحها الإنسانية. وهذا التنوع لا يقلل من الرسالة المناهضة في عمومها للشخصية الإيرانية الإسلامية. ولكن يوحي بحيادية هي في واقع الأمر حيادية زائفة.

ما قبل وبعد الانهيار السوفييتي

في ظل أقسى صنوف القهر فشلت الماركسية في قتل الأحاسيس القومية لدى الشعوب السوفييتية وخاصة في الجمهوريات الإسلامية.. وبرغم أن السينما القومية حاولت أن تقدم التراث الثقافي للشعوب بالمنظور الماركسي للكثير من الحقائق والوقائع التراثية.. فإن المحصلة أن الوجدان الشعبي لهذه الشعوب كان يكتسب اعتزازه بذاته من هذا التراث وليس من حاضره بكل ادعاءاته. وفي "السنوات التالية للحرب العالمية الثانية ابدى السينمائيون في الجمهوريات الإسلامية كثيرا من الاهتمام بالحديث عن العلماء والشعراء والفلاسفة في تاريخهم القديم من أمثال "ابن سينا" "ابي الريحان البيروني" "الظاهر بيبرس".. وكلها شخصيات إسلامية ظهرت منذ قرون عديدة ولكنها تؤكد أنه كان لشعوب آسيا الوسطى ثقافة راقية وشعراء وعلماء نوابغ.

ولقد تعاملت السينما الغربية مع أجواء الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفييتي في نطاق عدد محدود من الأفلام نركز على اثنين منها هما: "اليأس" 1969 وهو إنتاج إيطالي من إخراج الكسندر راماتي، "جميلة" 1994 إنتاج ألماني إخراج مونيكا تيوبر، وهو مأخوذ عن رواية للكاتب القرغيزي الماركسي جنكيز ايتماتوف، وسبق تقديمها في فيلم سوفييتي بنفس العنوان في ستديو موسفيلم عام 1969. وهو ما يعني أن الفيلم الإيطالي "اليأس" تم انتاجه في نفس عام انتاج فيلم "جميلة" في الاتحاد السوفييتي. والتوقيت له دلالته عندما نقارن بين الفيلم الإيطالي والفيلم الألماني وهما ينتميان إلى المجتمع الغربي بكل معتقداته السياسية والاجتماعية.

الأفكار التي تطرح في الفيلمين تكاد تكون ثابتة. فالزوجة الاوزبكية "ايرين باباس" تستسلم في الفيلم الإيطالي في عاطفة مشبوبة لجندي بولندي (ماكسميليان شل) هارب من معسكرات العمل في سيبيريا. وبرغم ان استسلامها يأتي بعد تردد في معاناة اوصلتها إلى حد الرغبة في الانتحار حرقا. فإن حتميته في ظل حياتها الجامدة مع زوجها المسلم يصبح له ما يبرره. أما في الفيلم الألماني فسنجد الحسناء القرغيزية المسلمة "جميلة" تعيش في قريتها النائية حيث النساء والأولاد يقومون بعمل الرجال الصعب فالآباء والأزواج على الجبهة أثناء الحرب العالمية الثانية. وصادق زوج جميلة هو أيضا على الجبهة.. ومن الجبهة يعود الجندي الروسي الشاب الجريح "دانيار" حيث يلتقي بالمصادفة جميلة لتتولد بينهما قصة حب عنيفة تنتهي بهروبها من القرية. وهو هروب له أيضا ما يبرره بالنسبة لأصحاب الفيلم. فجميلة تركها زوجها بعد ليلة زفاف كانت أقرب بالنسبة لها إلى "الاغتصاب".. وحياتها اليومية تسيطر عليها تقاليد القبيلة البالية. وزوجها صادق لم تكن تحبه وهو أيضا لم يذكرها في رسائله النادرة إلا عرضا حيث أن أمه كانت هي الشيء الوحيد الواجب الاهتمام به. وقد كانت تتحكم في مصيره سواء قبل الزواج أو بعده.

ويكاد يقترب الفيلم الألماني من الفيلم السوفييتي في أغلب تفاصيله باستثناء تقديم جميلة في الفيلم الألماني في مشاهد شبه عارية وفي مواقف جنسية صريحة. وتقديم دانيار باعتباره جنديا يحمل في أعماقه عوامل الرفض والتمرد في مواجهة القهر الستاليني. وأخيرا تصوير الفيلم بأكمله بالألوان بينما كان الفيلم السوفييتي أبيض وأسود مع مشاهد ملونة.

المهم أن الأحداث في فيلمي جميلة تتكشف أمامنا على لسان الشاب سعيد شقيق صادق. الرسام المقبل بعينيه الرومانسيتين.. فإن رسومه لجميلة ودانيار تمتزج بطبيعة قرغيزيا.. وهنا يواكب حب البطلين اكتشاف الشاب المسلم لحقائق العالم المحيط به. (لن انسى يوما هاتين الشخصيتين اللتين كشفتا لي جمال العالم) وبذلك يصبح تمرد جميلة على مجتمعها المسلم مقدمة لتمرد الشاب سعيد الذي نراه في بداية الفيلم الألماني وقد أصبح رساما شهيرا احتضنت أعماله معارض مدينة نيويورك!! و برغم أن تاريخ السينما العالمية يشتمل على أكثر من 150 فيلما تجسد الشخصية العربية والإسلامية من خلال الأجواء الخيالية لحكايات "ألف ليلة وليلة"، فان الأمر لم يقتصر على هذه النوعية مع ظهور بعض الأفلام ذات الطابع "الفانتازي" التي كان للشخصية الإسلامية دور رئيسي في أحداثها. ولعل الأفلام الألمانية التي قدمت في الفترة من (1918 - 1924) بواسطة نخبة من المخرجين اليهود كانت بداية ملموسة التوجه لهذه النوعية.

في عام 1918 قدم ارنست لوبيتش فيلمه الضخم التكاليف Sumurun الذي وزع في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1921 تحت عنوان "ليلة عربية" وكانت أحداثه تدور حول خادم أحدب يسترد الحياة بواسطة ساحرة عجوز من أجل ان ينتقم لمخدومته الراقصة الحسناء (بولا نجري) التي قتلها الشيخ المسلم العجوز داخل قصره بعد ان يكتشف خيانتها له مع ابنه. ثم قدم فريتز لانج فيلمه "الأضواء الثلاثة" 1922 وفيه تحاول البطلة الإبقاء على حياة حبيبها ولكن عناصر الشر في "بغداد" و"البندقية" و"الصين" تتحالف ضدها.. ثم يخرج المخرج التعبيري بول ليني فيلمه "حجرة الوجوه الشمعية" 1924 وفيه يجمع بين ثلاث شخصيات مشهورة عالميا برغم تباين وجودها التاريخي: هارون الرشيد وايفان الرهيب الروسي وجاك السفاح (ريبر باقر البطون) الانجليزي وتحالفهم من أجل أن يقيموا حكما ارهابيا يسوم الناس انواعا من التعذيب الوحشي.

وقد تمت صياغة هذه الأفلام في اطار من "العنصرية" التي تتعامل مع الشعوب غير اليهودية بسيل من الأوصاف السلبية التي تؤكد ان الاستعلاء العنصري هو أساس ثابت في تكوين صانعيها.

لقد استمر هذا الاتجاه مع مسيرة السينما العالمية وكان له صداه في بعض أفلام ستيقن سبيلبيرج (انديانا جونس الجزءان الأول والثالث) مارتي فيلدمان (آخر اعادة لبوجست) أنتوني داوسون (قوس قزح) ديفيد زوكر (البندقية العارية) مناحم جولان (كنوز الملك سليمان) آرون نوريس (Hell Bound) كما سنجده ينعكس في أفلام روائية طويلة صنعت خصيصا من أجل الأطفال مثل الفيلم الكندي "ماريو" الذي اخرجه جان بودان عام 1984 وفيه يقودنا إلى مكتب العالم المضطرب المتقلب لبطله "ماريو" الطفل الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره وتتملكه الأحلام والهواجس المخيفة.

يعيش ماريو منعزلا داخل حدود عالمه المغلق.. ولا أحد يقدر على اسعاده سوى شقيقه سيمون الفتى المراهق الوسيم. فهو بالنسبة له المعلم الذي يروي له الحكايات الوحشية المخيفة عن فرسان المسلمين أثناء حكمهم اسبانيا.. وهي حكايات تغذي فيه شعورا عدوانيا للآخرين وسرعان ما تتحول إلى مغامرات حقيقية وخيالية تتسم بالدموية والغدر. ولفترة من الزمن ينأى سيمون بنفسه عن ماريو ويعبس في وجهه. ولكن اخيرا يعود الاخوان إلى وفاقهما وتختفي من بينهما الأفكار القاسية.. ولكن هذا لا يتم سوى بعد تمزيق كل الصور التي كان يعلقها للفرسان المسلمين على جدران حجرته وامتناع سيمون عن رواية حكاياتهم الوحشية.

وهكذا تصل الرسالة الملغومة إلى الطفل الأمريكي والأوربي تؤكدها لغة سينمائية باهرة. تجعل المشاهد يشارك بطله الطفل الصغير أخيلته وأوهامه التي يتخذها وسيلة للهروب من عالمه الهادئ، من أجل ان تغرس في أعماقه ما تريد تقديمه من أفكار ودعايات عن عوالم الآخرين.

 

أحمد رأفت بهجت

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




جميلة مع سعيد في الفيلم الألماني جميلة





الطفل الكندي ماريو تلبسته الشخصية الإسلامية فتحول إلى طفل شرير





غاندي في الفيلم الغربي.. هل هو نفسه في الواقع التاريخي؟